الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الجسم البعيد، مع أن الارتباط الذى بين الروح والبدن اقوى واتم. وتتمة الأقوال، وبسط الأحوال لأهل البرزخ من نعيم واهوال - طور عظيم وحال يجب له التسليم. وقد فصل في الكتب المخصوصة، وأثبت بادلائل المنصوصة. وهذا آخر ما تلخص من اجوبة المانعين، وتحصل من كلام المدققين، فاصح سمعك لمناديه، ولا يحملنك الهوى فتعاديه.
ولابد لك من ان تجول بجوار ذهنك في ميدان الكلامين، وتلج في لج البحرين، لتكرع من الأصفى الأعذب، وتعتقد حباص عقيدتك على الأسلم والأصوب، وذلك مفوض إليك، والسلام علينا وعليك، أدخلنا الله تعالى وإياك تحت شفاعة الشافعين، ولا سيما شفاعة نبينا سيد المرسلين، عليه وعلى آله وصحبه افضل صلاة المصلين، وازكى سلام المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
[مذهب ابن تيمية في التوسل]
تتمه
ولنذكر شيئاً من كلام الشيخ ابن تيمية ليستدل به على مرامه، وطويته في اعتصامه فاقول: قال في كتاب الاستغاثة في الرد على ابن السبكي ما نصه:
وأما قول القائل: إن المتوسل إنما هو سائل لله تعالى، راج له، عالم أن النفع والضر بيده لا شريك له، وإنما توسل إليه بمن يحبه الله تعالى لشرف منزلته عنده، ليكون أقرب إلى الإجابة، وحصول المراد: كطلب الدعاء من الرجل الصالح فيقال: توسل العبد إلى الله تعالى بما يحب، لفظ مجمل، فغن اريد بما يحب الله تعالى أن يتوسل به إليه فهذا حق، والله تعالى يحب ان يتوسل إليه بالإيمان والعمل الصالح، والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومحبته وطاعته وموالاته.
فهذه ونحوها هي من الأمور التى يحب الله تعالى أن يتوسل بها إليه.
وإن اريد أنه يتوسل إليه بما يحب ذاته، وإن لم يكن هناك ما يحب الله تعالى أن يتوسل به، فهذا باطل عقلاً وشرعاً.
أما عقلاً فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتى تقضى بالتوسل بذاته: إذا لم يكن منى ولا منه سبب تقضى به حاجتى، فإن كان منه دعاء لى، أو كان منه إيمان به وطاعة له، فلا ريب أن هذه وسيلة.
واما نفس ذاته المحبوبة لله تعالى، فأى وسيلة لي فيها إذا لم يحصل لي السبب الذى أمرت به فيها، ولهذا لو توسل به من كفر به لم ينفعه، والمؤمن به ينفعه الإيمان به، وهو أعظم الوسائل. فتبين أن الوسيلة بين العباد وبين ربهم عز وجل الإيمان بالرسل وطاعتهم. وقول القائل للرجل: أدع لى: توسل بدعاء الصالحين، وهو من جملة الأسباب النافعة كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
واما المشروع فيقال: إن العبادات مبناها على الاتباع لا الابتداع، وليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله. ألا ترى أنه ليس لأحد أن يصلى إلى قبره عليه لصلاة والسلام، ويقول هو احق بالصلاة إليه من الكعبة! وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه قال:((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) ومن لم يعتصم بالكتاب والسنة ضل وأضل.
وليس في قوة أحد أن يفهم أسرار العبادات ومنافعها، ومضار ما ينهى عنه من ذلك. فعليه أن يسلم للشريعة، ويعلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
وإذا رأى من العبادات التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع، علم أن ذلك لضرر فيها راجح على نفعها، ومفسدة راجحة على مصلحتها. إذ الشارع حكيم، لا يهمل المصالح. فإن قال: أنا إذا توسلت بذاته إنما توسلت بعملي
المعلق به، وذلك أنه لحبى له، وتعظيمي إياه توسلت به. وهذا مما يحبه الله تعالى مني.
قيل: حبك وتعظيمك له الذي هو من الإيمان به، وهو يدعوك إلى زيادة الإيمان به وطاعته، وهو الذي يحبه الله تعالى منك. وأما حبك وتعظيمك الذي لا نقصد به إلا قضاء حاجتك الدنيوية - فهذا لا يحبه الله تعالى منك.
فإذا كان الداعي لم يؤمن به ولم يطعه، بل سأل الله تعالى به وتوسل به، وأحبه وعظمه ليقضي حاجته بالتوسل به؛ لم يكن ذلك مما يحبه الله عز وجل بالضرورة.
ولم يأمر الله تعالى بذلك، بل لم يأمر الله تعالى إلا بالإيمان به والطاعة، وهذا إذا حصل كان أعظم الوسائل للعبد عند الله عز وجل. وإن لم يحصل فلا وسيلة للعبد عند الله تعالى.
وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع في حقيقة الدعاء. وما فيه من مشروع وغير مشروع، وأن من الدعاء ما يحصل به مقصود العهد أو بعض مقصوده،ويكون وبالا عليه، لأن ضرر ذلك أعظم من نفعه، كما قال تعالى:{ادعوا ربكم تضرعاً وخيفة إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف 55] .
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء)) وأعرف من يستغيث برجال أحياء، فتصور له صورهم تدفع عنه ما كان يحذر. ويحصل له ما كان يطلب، وأولئك الأحياء لا شعور لهم بذلك، وإنما هي شياطين تمثلت لتضل ذلك الداعي، كما كانت الإنس تستعيذ بالجن، فكانت رؤساء الجن تعيذهم من سفهائهم باستعاذة الإنس، قال الله تعالى:{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} [الجن 6] .
والذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويعبدونها، تتنزل عليهم أرواح من الشياطين، وتقضى لهم كثيراً من الحاجات، ويسمونها روحانية ذلك الكواكب، وهو شيطان ينزل عليهم من يطير بصاحبه في الهواء، وينقله إلى بيت المقدس، ويدخل به النار فيمنعه حرها، إلى أمور كثيرة.
فالسعادة والنجاة في الأعتصام بالكتاب والسنة، وأتباع ما شرع والدعاء من أجل العبادات، فينبغي للإنسان أن يلتزم الأدعية الشرعية، كما يتحرى في سائر عباداته الصورة الشرعية، فإن هذا هو الطريق المستقيم.
وأما قوله: إنه يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله عز وجل فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى - فهذا قول لم يقله قبله أحد من علماء المسلمين، ولا من الصحابة والتابعين ولا غيرهم.
وقائل هذه العبارة إما مفتر على الدين، أو مفتر على اللغة، مبلس على المسلمين.
بل إطلاق القائل القول: بأنه يستغاث بالنبي أو الصالح أو غيرهما في كل ما يستغاث الله فيه - لا يفهم الناس في اللغة التى يعرفونها إلا ما هو كفر صريح. وقوله: على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى - لا يخرج مدلول هذا اللفظ في اللغة المعروفة عن أن يكون كفراً، فإن الاستغاثة بالشخص طلب الغوث منه.
وقد قال هو: إن معنى الإستغاثة دائر على طلب الإغاثة، والتخليص من الكربة والشدة، سواء كان طلب ذلك من الخالق أو المخلوق. وإذا كان كذلك فهذا القول يقتضى أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الخالق من الإستغاثة من المخلوق الحي أو الميت إزالة الأمراض والأسقام،
وكشف الجدب والقحط بإنزال المطر، وإسقاط الأنام، وكشف ضرر الكفار بأن ينصر عليهم المؤمنين الأبرار، بل ونطلب كشف شدة المعاصي بالمغفرة للمذنب العاصي.
وبالجملة، فإذا كانت الإستغاثة طلب الإغاثة والتخليص من الكربة والشدة، سواء كان طلب ذلك من المخلوق أو من الخالق، وقد جوز الاستغاثة بمخلوق في كل ما يستغاث الله تعالى فيه - فقد لزم أن يطلب من هذا المخلوق كل ما يطلب من الله عز وجل.
وإن قيل: إنه على معنى الوسيلة، فهذا لا ينجيه.
فإنه من جوز أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الله تعالى فهو كافر بإجماع المسلمين، بل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يجوز طلبه من المخلوق اصلاً بإجماع المسلمين.
ومن طلب من المخلوق غفران الذنوب وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، والنصر على الأعداء في الدين - فهو كافر برب العالمين، ،قد قال تعالى:{قل أدعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً - إلى قوله تعالى - إن عذاب ربك كان محذوراً} [الأسراء 57] .
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة، فبين الله تعالى لهم: أن هؤلاء عبادى كما أنتم عبادى، يرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذابي، ،يتقربون إلى كما تتقربون إلى. وقد أخبر سبحانه عنهم: أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله عنهم، وهذا هو الإعاثة، كما قال لخاتم الرسل:{قل إنى لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} .
وقال سبحانه: {قل لا أملك لنفسى نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله}
[الأعراف 188] فمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ماشاء الله يمتنع أن يملك ذلك لغيره. فإذا جوز هذا أن يطلب من المخلوق ما يطلب من الخالق سبحانه جاز أن يدعى أن الملائكة والأنبياء، والذين كانوا يدعونهم لم يطلبوا منهم ذلك إلا على أنهم وسيلة، لم يطلبوه لآعتقادهم أن ثم خالقاُ غير الله، فإن المشركين عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله هو الذى خلق السماوات والأرض كما أخبر عنهم بذلك في غير آية، كقوله سبحانه:{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [الزمر 38] .
وقوله تعالى: {قل لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيها من شرك، وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ 23] .
فبين سبحانه أن المدعو من دونه ليس له في ملك السماوات والأرض مثقال ذرة، ولا هو شريك في الملك، وأنه ليس ظهيراً لله، فإن الله سبحانه ليس له ظهير، ولا يحتاج إلى معين، أو مشير أو وزير أو غير ذلك، بل هو تعالى وحده خلق السماوات والأرض وما بينهما، لا يشركه في ذلك أحد، ولا يحتاج في شئ من ذلك إلى غيره، وما خلقه بأسباب فهو خلق الأسباب، والجميع فقراء إليه، وهو غني عن الجميع، ولهذا قال سبحانه:{أليس الله بكاف عبده} [الزمر 36] .
فهو سبحانه يكفى عبده، ولا يحتاج العبد في كفاية الله تعالى إلى غيره. ثم قال:{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ 23] .
كما قال سبحانه: {من ذا الذى يشفع عنده إلا بأذنه} [البقرة 255] .
وقال في الملائكة: {ولا يشفعون إلا لمن أرتضى} [الأنبياء 28] .
وامثال ذلك مما يبين فيه ان الشفاعة لابد فيها من إذن الشافع، فلم يثبت لما يدعى من دونه من الوسائط والوسائل - الملائكة والأنبياء وغيرهم أثراً في شئ من الأشياء إلا الشفاعة. فبين أنها لا تكون إلا بعد إذنه. ثم إذا جاز أن يقول الضال: إنه يطلب من مخلوق كل ما يطلب من الخالق من كشف الشدائد، فكذلك يطلب منه ما يطلب من الخالق من إعطاء الفوائد فحينئذ يجوز أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الخالق مطلقاً. وهذا الكفر شر من كفر عبدا الأصنام، فإن أولئك لم يكونوا يطلبون من الأوثان كل ما يطلبون من الرحمن، بل لهم مطالب لا يطلبونها إلا من الله، كما قال تعالى:{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون} [الأنعام 40، 41] .
فبين أنه إذا جاء عذاب الله أو أتت الساعة لا يدعون إلا الله فلا يطلبون كشف الشدائد، وإنزال الفوائد إلا منه. فمن جوز طلب ذلك من المخلوق كان أضل من هؤلاء المشركين، وقد قال تعالى:{وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} [الإسراء 67] .
وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس: ((إذا سألت فأسأل الله، وإذا أستعنت فاستعن بالله
…
...
…
)) الحديث.
وقول القائل: لكونهم أسباباً ووسائل - فكلام مجمل. فإن أراد أنهم وسائط، والداعي يزعم أنهم شفعاء، فالآيات متضافرة على منعه. وإن أراد أن الداعي لا يطلب منهم، ولكن يطلب من الله تعالى بحرمتهم وجاههم فهذا لا يسمى استغاثة بالمسئول به.
ومازلت أبحث عن هذه المسالة واكشف ما أمكننى من كلام السلف والأئمة والعلماء - هل يجوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل أحد منهم ذلك؟ فما وجدته.
ووقفت على فتياً للفقيه أبي محمد عبد السلام. أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي عليه الصلاة والسلام فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك.
وذكر القدورى في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى. وفي بعض مناسك الحج المنقولة عن الإمام أحمد: أنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به.
وبالجملة لو تكليم في مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدعاء لكان كلامه فيها من جنس كلام العلماء، فإنها تحتاج إلى أدلة شرعية من جانب النفي والإثبات لعدم ظهور الحكم فيها.
وأما الاستغاثة بالمخلوق بأن يطلب منه كل ما يطلب من الخالق، أو بأن يطلب من الغائب أو الميت ما يطلب من الحي الحاضر - فهذا ليس مما يخفى على عموم المؤمنين فضلاً عن علمائهم، وإن وقع في كثير من ذلك من وقع من العامة ونحوهم ممن فيه زهد وصلاح دين.
فهؤلاء وامثالهم حقهم أن يرجعوا إلى العلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون علمهم، عبادتهم مقيداً بالشريعة النبوية والعلم الموروث، لا يعبدونه سبحانه بما يخطر لهم من الأهواء والآراء.
قال عمر بن عبد العزيز: من عبد الله تعالى بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
قال ابن مسعود وأبي كعب: اقتصاد في سنة: خير من اجتهاد في بدعة، وقد قال تعالى:{أم لهم شركاء، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) .