الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعلم أن العرش سواء كان هذا الفلك التاسع أو جسماً محيطاً به أو كان فوقه من جهة وجه الأرض محيط به أو قيل فيه غير ذلك في غاية الصغير كما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر:67] .
(وفي الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقبض الله تبارك وتعالى يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)) .
(وفي الصحيحين) عن عبد الله بن عمر عنه عليه الصلاة السلام أنه قال: ((يطوى السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون! أين المتكبرون! ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون! اين المتكبرون!)) وفي لفظ: وبتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شئ. وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر {والأرض جمعياً قبته يوم القيامة الآية. قال: ((مطوية في كفه يرى بها كما يرمى الغلام بالكرة)) ففي هذه الأحاديث وغيرها المتفق على صحتها ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل أصغر من أن تكون مع قبضة لها إلا كالشي الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة.
[أسماء الله وصفاته توقيفية دون زيادة ولا نقصان]
ثم قال في الجواب: فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ولم نتكلف علم سواه فلا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف وإذ كان كذلك فهو قادر على أن
يقبضها ويدحوها كالكرة وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى وإن شاء لم يفعل.
وبكل حال فهو مباين لها ليس بمجانب لها
ومن المعلوم أن الواحد منا - والله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته فهو في الحالين مباين لها.
وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها أم قيل إنه فوقها وليس محيطها بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه فوقه والعبد في توجهه إليه عز وجل يقصد العلو دون التحت.
وتمام هذا البحث بأن يقال: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك ويكون محيطها بها وإما أن يكون فوقها وليس بكرى فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية وأن الجهة العليا هي جهة المحيط وهو الحدود وأن الجهة السلفى هي المركز.
وليس للأفلاك إلا جهتان: العلو والسفل فقط، وأما الجهات الست فهي للحيوان فإن له ست جوانب: يؤم جهة فتكون أمامه ويخلف أخرى فتكون خلفه وجهة تحاذى شماله وجهة تحاذى يمينه وجهة تحاذى رأسه وجهة تحاذى رجليه.
وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لا زمة بل هي بحسب النسبة والإضافة فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا لكن جهة العلو السفل للأفلاك لا تتغير فالمحيط هو
العلو والمركز هو السفل مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم وغيرهما.
فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم ولو قدر أن هناك أحداً لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة ولا من في هذه تحت من في هذه كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر تحت ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الاستواء.
فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان وهو تحت إضافي، كما لو كانت نملة تمشى تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه.
وكذلك من علق منكوساً فإنه تحت السماء وإن كان رجلاه تلى السماء. وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه أثنان ممن يقول: إن الأفلاك مستديرة، وهذا كما انه قول اهل الهيئة والحساب فهو الذى عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسين المناوي، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزى، وغيرهم، وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره.
ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر فهو متوهم عندهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات
كان هو أعلاها وسقفها، وهو فوقها مطلقاًُ فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو. ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلاً من غير جهة العلو بانفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش، أو إلى ما فوقه ! .
وغاية ما يقدر أن يكون كرى الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا.
وأما قول القائل: إذا كان كرياً والله من ورائه محيط بائن عنه فما فائدة التوجه إلى العلو دون التحت، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلو؟ فيقال: هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم.
وهذا غلط، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون تحت الأرض مطلقاً. وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقاً.
وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقى في الخرق شء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهى إلى المركز، حتى لو ألقى من تلك الناحية جحر آخر لالتقيا جميعاً في المركز، أى الذى هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض.
ولو قدر إن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر لا لتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت الآخر، بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك. وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب، لأنه لو قدر أن رجلاً أو ملكاً يصعد إلى السماء كان صعوده مما يلى، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك
الناحية أو يدهب يميناص أو شمالاً ثم يصعد. ولو أن رجلاً أراد مخاطبة القمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أنه قد يشرق ويغرب، فكيف بما هو فوق كل شئ لا يأفل ولا يغيب. سبحانه وتعالى! وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم، فالطلب الإدارى الذى يقوم بقلوب العباد، كيف يعدل عن الصراط المستقيم - إلى أن قال: وحديث الإدلاء الذى رواه أبو هريرة، وأبو ذر، قد رواه الترمذى وغيره من حديث الحسن عن أبي هريرة وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع، فإن كان ثابتاً فمعناه موافق لهذا. فإن قوله عليه الصلاة والسلام:((لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله)) إنما هو تقدير مفروض: أى لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلى احد على الله عز وجل شيئاً، لأنه عال بالذات. وإذا أهبط شئ إلى جهة الأرض وقف في المركز.
والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه، كما بين انه يقبض السماوات ويطوى الأرض، ونحو ذلك مما فيه من بيان إحاطته تعالى، ولهذا قرا في تمام الحديث:{هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم} [الحديد 3] . وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذى لما رواه قال: وفسره بعض اهل العلم بانه هبط على علم الله. وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل، من أنه سبحانه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك. وكذلك تاويله بالعلم غير مستقيم، بلى على تقدير ثبوته، فالمراد به الإحاطة، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلو، وقال تعالى:{فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التى فطر الناس عليها} [الروم 3] فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة.