الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يستظرفه الأدباء في هذا المطلب ما أنشده العلامة الخفاجي في (ريحانة الألباء) عند ترجمة زين العابدين الحنبلي قوله: [طويل]
يقولون لي قد قل مذهب أحمد وكل قليل في الأنام ضئيل
فقلت لهم مهلاً غلطتم بزعمكم ألم تعلموا أن الكرام قليل
((وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل))
[ترجمة الإمام أبو الحسن الأشعري]
(والثاني) - الحبر الامام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحق ابن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن هلال بن أبي بردة، عامر بن أبي موسى الأشعري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكم من قبل علي رضي الله عنه في المسألة المشهورة. والأشعري - على ما قال السمعاني: نسبة لأشعر أحد أجداده، وأسمه نبت. وقد ولد والشعر على بدنه.
ولد أبو الحسن سنة سبعين وقيل: ستين ومائتين بالبصرة. وتوفي سنة أثنين وثلاثين وثلثمائة. وقيل سنة ثلاثين فجأة ببغداد. ودفن بين الكرخ وباب البصرة في مشرعة الروايا. ورأيت في بعض تعاليق الوالد عليه الرحمة أنه المحل الذى يعرف الآن بالسيف سيف الثمن وفيه قبر يزار. قال ابن الوردي. وطمس قبره خوفاً عليه من الحنابلة. ولولا السلطان لنبشوه، ولا زالت الوقائع بين الحنابلة والأشعرية في بغداد وسائر البلاد، حتى أن القشيري عبد الكريم - كما نقل ابن خلكان - جرى له خصام معهم لما ورد بغداد لأنه تعصب للأشاعرة. وأنتهى الأمر إلى فتنة قل فيها جماعة من الفريقين حتى حضر نظام الملك وسكنها.
(قلت) وسيأتي تصريحه في كتابه (الإبانة) إنه رجع إلى مذهب احمد في العقائد وعليه مات رحمه الله تعالى. وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه. واعلم أن الصحابة كانوا على المذهب المعروف بمذهب السلف، إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأول من قاله معبد الجهني، وكان يجالس
الحسن البصري، ثم صلبه الحجاج بأمر عبد الملك. وحدث أيضاً في زمن الصحابة مذهب الخوارج، فقاتلهم علي كرم الله تعالى وجهه. وكذا حدث في أيامه الغلو فيه، حتى حرق بالنار جماعة من المغالين. ثم حدث بعد عصر الصحابة مذهب جهم بن صفوان، ونفي الصفات وعظمت الفتنة. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال بعد المائتين، كما تقدم تفصيله، فنهى أئمة الاسلام عنه، وذموا علم الكلام وانتشر ذلك المذهب، ثم حدث مذهب التجسيم المضاد للاعتزال فظهر محمد بن كرام السجستاني بعد المائتين، وهو زعيم الكرامية، حج ومات بزغرة من أرض الشام، ودفن بالمقدس، وكان له أتباع كثيرون مواظبون على التعبد وكذا في بلاد المشرق.
قال المقريزي في خططه: كان لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين الكرامية والمعتزلة بالمشرق مناظرات وفتن كثيرة.
(قلت) : وكذلك بينهم وبين الأشاعرة، فقد قال في ((العبر)) وفي سنة خمسمائة وخمس وتسعين كانت فتنة فخر الدين الرازي، وذلك أنه قدم خراة ونال إكراماً عظيماً من الدولة، فاشتد ذلك على الكرامية، فاجتمع هو والزاهد مجد الدين بن القدوة فاستطال فخر الدين عليه وشتمه، فلما كان من الغد جلس ابن عم مجد الدين فوعظ الناس وقال:{ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول فأكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران 53] أيها الناس، لا نقول إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قول أرسطو وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي شئ يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام، يذب عن دين الله تعالى؟ وبكى فأبكى الناس وضجت الكرامية وثاروا من كل ناحية، فأرسل السلطان الجند فسكنهم وأمر الرازي بالخروج.
قال المقريزي: هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس، حتى حدث سنة أربع وستين بسواد الكوفة مذهب القرامطة المنسوبين إلى حمدان المعروف بقرمط، فانتشر أمرهم في الأقطار، ومال كثيرون إلى قولهم الذى سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها. هذا، وقد كان المأمون لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى الوم من عرب له كتب الفلاسفة، فأنتشر مذهبهم وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، فانجر على الإسلام بسببها ما لا يوصف من البلاء وأنتشرت هذه المذاهب كلها شرقاً وغرباً. والأشعري كان قد نشأ على الاعتزال. وتتلمذ أول مرة لزوج أمه أبي على الجبائي المعتزلة، واقتدي برأيه عدة سنين، حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن، وغيره من أقاويلهم الفاسدة، ورقى كرسيه يوم الجمعة في البصرة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، أن الله تعالى لا يرى بالأبصار، وإن أفعال الشر أنا أفعلها وانا تائب مقلع معتقد الرد على المعتزلة، مبين لفضائحهم ومعايبهم.
وأخذ في الرد عليهم، وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد سعيد بم كلاب القطان (1) . وبقى على قواعده، وصنف تصانيف كثيرة، وناظر شيخه الجبائي في وجوب الأصلح على الله تعالى، فمنعه الأشعري وقال: ما تقول في ثلاثة أخوة أحدهم كان براً مؤمناً نقياً، والثاني: كافراً فاسقاً شقياً، والثالث: كان صبياً. فماتوا، فكيف حالهم؟
قال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلم، فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى
(1) القطان: هو رئيس الطائفة الكلابية. اهـ. منه.
درجات الزهد يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجة بحسب طاعته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات؟ فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة؟ فقال الجبائي: يقول البارى جل وعلا: أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك.
فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم رعيت مصلحته دوني؟ فقال الجبائي: وسوست؟ فقال الأشعري: ما وسوست، ولكن وقف حمار الشيخ على القنطرى - يعني أنه أنقطع - وكان فيه دعابة ومزاح كثير.
وقيل: كان حنفي المذهب، ومعتزلي الكلام، وكان المعتزلة قد رفعوا رءوسهم، حتى اظهر الله تعالى الأشعري، ورجع عن الاعتزال، فحجرهم في أقماع السمسم.
وقد روى ابن عساكر بسنده في كتابه ((تبيين كذب المفترى)) كما نقله الكوراني: أن أبا الحسن الأشعري رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فشكا إليه بعض ما به من تعارض الأدلة، فقال له صلى الله عليه وسلم:((عليك بسنتي)) . ورآه ثلاث مرات آخر، فقال له في كل مرة ذلك:((يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنها الحق)) . قال: فقلت - أي في الثالثة - يا رسول الله، كيف أدع مذهباً تصورت مسائله، وعرفت أدلته منذ ثلاثين سنة لرؤيا، فقال لي:((لولا أعلم أن الله سيمدك بمدد من عنده لما قمت عنك حتى أبين لك وجوهها)) - إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: ((فجد فيه، فإن الله سيمددك بمدد من عنده)) . قال: فاستيقظت وقلت: ماذا بعد الحق إلا الضلال، وأخذت في نصرة الأحاديث، فكان ياتيني شئ