الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعبد الله بن المبارك، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثورى: وإسحق بن راهوية، ومحمد بن أسماعيل البخاري، والترمذي، وأبو داود السجستاني.
[الصفات بين المفوضين والمعطلين]
ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن ابي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشئ من ذاته، ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً تبارك الله تعالى رب العالمين.
وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر. وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الروية والفكر.
فنثبت هذه الصفات وننفى عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال: {ليس كمثله شئ} . وذكر الحافظ ابن حجر في فتح البارى: أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم. وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل. وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها: والذى نرتضيه راياً وندين به عقداً اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع.
والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنه، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات مع أنهم كانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه
منها. فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنوناً أو محتوماً لأوشك أن يكون أهتماهم بها فوق الاهتمام بفرع الشريعة.
وقد اختاره أيضاً الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذى وصفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة، وهو آخر مصنفاته فيما نقل. وقد قال البيضاوى في الطوالع: الأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء، يعنى المتشابهات، ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفى ما يقتضى التشبيه والتجسيم. اهـ.
وعلى ذلك جرى محققة الصوفية فقد جمع منهم أنهم قالوا: إن الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقتة تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وإذا كانت مخالفة فلا يصح في آيات الصفات قط تشبيه، إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق، وذلك محال.
وعن الشعرانى: أن من أحتاج إلى التأويل فقد جهل أولاً وآخراً.
وأما أولاً - فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال، وأما آخراً فلتأويله ما أنزل الله تعالى على وجه لعله لا يكون مراد الحق سبحانه.
وفي الدرر المنثورة له: أن المؤول انتقل من شرح الاستواء الجثماني على الاستيلاء على العرش المكانى بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالأمر السلطاني الحادث، وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث آخر، فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى:{ليس كمثله شئ} ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلى في الاستواء بقول الشاعر:
* قد أستوى
…
...
…
... . *
…
...
…
...
…
البيت
وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه على العرش؟ ؟ فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه، وبكل معنى كلامه إليه عز وجل.
ونقل الشيخ إبراهيم الكواني في تنبيه العقول عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في الفتوحات أثناء كلام طويل، عجب فيه من الأشاعرة والمجسمة: الاستواء حقيقة معقولة معنوية، تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات، ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الاستواء عن ظاهرة.
والفقير قد رأى في الفتوحات ضمن كلام طويل أيضاً في الباب الثالث منها ما نصه: ما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل، وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الفهم من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه، فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح. ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شئ ألبته، ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويقولون لا ندرى، كان يكفيهم قول الله سبحانه:{ليس كمثله شئ} .
ثم ذكر بعد في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم الذى رواه مسلم: ((إن قلوب بنى ادم كلها بين إصبعين من اصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء)) – والتخبير بين التفويض لكن بشرط نفي الجارحة ولابد، وتبين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه، وذكر أن هذا واجب على العالم عند تعينه في الرد على بدعى مجسم مشبه.
وقال أيضاً فيما رواه عنه تلميذه المحقق إسماعيل بن سودكين، في شرح التجليات: ولا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلى، كأخبار النزول وغيره، لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة.
وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم مع فصاحته، وسعة علمه وكشفه، لم يقل لنا
إنه تنزل رحمته تعالى، ومن قال تنزل رحمته، فقد حمل الخطاب على الآدلة العقلية، والحق ذاته مجهولة، فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معين. والعرب تفهم نسبة النزول مطلقاً، فلا تقديه بحكم دون حكم، وحيث تقرر عندها أنه سبحانه ليس كمثله شئ يحصل لها المعنى مطلقاً منزهاً، وربما يقال لك هذا يحيله العقل، فقل: الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول: فإنه حينئذ تمضى عليه سبحانه أحكامها، أهـ.
وقال تلميذه صدر الدين القونوى، في مفتاح الغيب بعد بسط كلام في قاعدة جليلة الشأن حاصلها: أن التغاير بين الذوات يستدعى التغاير في نسبه الأوصاف إليها ما نصه: وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها، عرف سر الآيات والأخبار التى توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة، واطلع على المراد منها فيسلم من ورطتى التأويل والتشبيه، وعاين الأمر، كما ذكر مع كمال التنزيه. أهـ.
وخلاصة الكلام في هذا المقام: أنه قد ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة ألفاظ توهم التشبيه والتجسيم، وما لا يليق بالله تعالى الجليل العظيم، فتشبث المجسمة والمشبهة بما توهمه، فضلوا وأضلوا، ونكبوا عن سوء السبيل وعدلوا.
وذهب جمع إلى أنهم هالكون، وبربهم كافرون. وذهب آخرون إلى أنهم مبتدعون. وفصل بعض فقال: هم كفرة إن قالوا: هو سبحانه جسم كسائر الأجسام، ومبتدعة إن قالوا: جسم لا كالأجسام. وعصم الله تعالى أهل الحق مما ذهبوا إليه، وعولوا في عقائدهم عليه.
فأثبت طائفة منهم ما ورد، كما ورد مع كماله التنزيه، للبرأ عن التجسيم والتشبيه. فحقيقة الاستواء، مثلاً المنسوب إليه تعالى شانه، لا يلزمها ما يلزم في الشاهد، فهو جل وعلا مستو على العرش مع غناه سبحانه عنه، وحمله
بقدرته للعرش وحملته وعدم مماسته له وانفصال مسافة بينه تعالى وبينه. ومتى صح للمتكلمين أن يقولوا: إنه تعالى ليس عين العالم ولا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه، مع أن البداهة تكاد تقضى ببطلان ذلك بين شئ وشئ - صح لهؤلاء الطائفة أن يقولوا ذلك في استوائه تعالى الثابت بالكتاب والسنة، فالله سبحانه وصفاته وراء طور العقل، فلا يقبل حكمه إلا فيما كان طور الفكر، فإن القوة المفكرة شأنها التصرف فيما في الخيال والحافظة من صور المحسوسات والمعاني الجزئية، ومن ترتيبها على القانون يحصل للعقل علم آخر يبنه وبين الأشياء مناسبة، وحيث لا مناسبة بين ذات الحق جل وعلا، وبين شئ لا يستنتج من المقدمات التى يرتبها معرفة الحقيقة فأكف الكيف مشلولة، وأعناق التطاول إلى معرفة الحقيقة مغلولة، وأقدام السعي إلى التشبيه مكبلة، وأعين الأبصار والبصائر عن الإدراك مسملة:[وافر]
مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تيبد
وقد أخرج اللالكائى في كتاب السنة من طريق الحسن، عن أمه، عن أم سلمه رضي الله عنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.
ومن طريق ربيعة بن عبد الرحمن انه سئل: كيف استوى على العرش؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى اله تعالى إرساله، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم. ومتى قالوا بنفي اللوازم بالكلية اندفع عنهم ما تقدم من الاعتراضات، وحفظوا عن سائر الأفات.
وهذه الطائفة قيل هم السلف الصالح. وقيل: إن السلف بعد نفى ما يتوهم من التشبيه يقولون لا ندرى ما معنى ذلك، والله تعالى أعلم بمراده.
واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على نحو ذلك كثيرة جداً
ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، العباد فيما يرجع إلى الاعتقاد بما لا يدرى معناه.
وأيضاً قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المعنى من مثل ذلك، فقد أخرج أبو نعيم عن الطبراني قال: ثنا عياش بن تميم، ثنا يحيى بن أيوب المقابرى، ثنا سلم بن سالم، ثنا خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله تعالى يضحك من يأس عباده وقنوطهم، وقرب الرحمة منهم)) .
فقلت: بأبي أنت وامى يا رسول الله؟ أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، والذى نفسى بيده إنه ليضحك، قلت: فلا يعدمنا خيراً إذا ضحك)) فإنها رضي الله تعالى عنها لو لم تفهم من ضحكة تعالى معنى لم تقل ما قالت.
وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا، ففي صحيح البخارى قال مجاهد: استوى على العرش: علا على العرش. وقال أبو العالية: استوى على العرش: ارتفع.
وقيل: إن السلف قسمان: قسم منهم بعد أن نفوا التشبيه عينوا المعنى الظاهر المعرى عن اللوازم. وقسم رأوا صحة تعيين ذلك، وصحة تعيين معنى آخر لا يستحيل عليه تعالى، كما فعل بعض الخلف فراعوا الأدب واحتاطوا في صفات الرب، فقالوا: لا ندرى ما معنى ذلك، أى ما المعنى المراد له عز وجل، والله تعالى أعلم بمراده.
وذهب طائفة من المنزهين عن التشبيه والتجسيم إلى أنه ليس المراد الظواهر مع نفى اللوازم، بل المراد معنى معين هو كذا، وكثيراً ما يكون ذلك معنى مجازياً، وقد يكون معنى حقيقياً للفظ. وهؤلاء جماعة من الخلف
وقد يتفق لهم تفويض المراد إليه جل وعلا أيضاً، وذلك إذا تعددت المعاني المجازية أو الحقيقة التى لا يتوهم منها محذور، ولم تقم عندهم قرينة ترجح واحداً منها فيقولون: يحتمل اللفظ كذا وكذا، والله تعالى أعلم بمراده من ذلك.
ومذهب الصوفية على ما ذكره الشيخ إبراهيم الكوراني وغيره: إجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفى اللوازم والتنزيه بليس كمثله شئ، كمذهب السلف الأول، وقولهم بالتجلى في المظاهر على هذا النحو.
وكلام الشيخ الأكبر قدس سره في هذا المقام مضطرب كما يشهد بذلك ما سمعت نقله عنه أولا مع ذكره في الفصل الثاني من الباب الثاني من الفتوحات، فإنه قال في عدد من الطوائف المنزهة، وطائفة من المنزهة أيضاً وهم العللية وهم اصحابنا، فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها، وقالوا حصل في نفوسنا من تعظيم الله تعالى الحق جل جلاله بحيث لا نقدر أن نصل إلى معرفة ما جاءنا من عنده بدقيق فكر ونظر، فأشبهوا في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولم يؤلوا بل قالوا: لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات، وذلك بأن تفرغ قلوبنا من النظر الفكرى، ونجلس مع الحق سبحانه بالذكر على بساط الأدب والمرقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يرد منه تعالى، حتى يكون الحق سبحانه متولى تعليمنا بالكشف والتحقق لما سمعوه تعالى يقول {واتقوا الله ويعلمكم الله} ، {وإن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} ، {وقل رب زدني علماً} ، {وعلمناه من لدنا علماً} فعند ما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله عز وجل لجأت إليه سبحانه، وألقت عنها ما أستمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول، كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة.
فعندما كان منهم هذا الإستعداد تجلى لهم الحق عياناً معلماً، فأطلعتهم تلك المشاهدة على معاني تلك الكلمات دفعة واحدة، فعرفوا المعنى التنزيهي الذى سيقت له، ويختلف ذلك بحسب اختلاف مقامات إيرادها، وهذا حال طائفة منا.
وحال طائفة أخرى منا أيضاً ليس لهم هذا التجلى، لكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتاب، وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامات عندهم لا يعرفها سواهم، فيخبرون بما خوطروا به، وبما ألهموا وما ألقى إليهم أو كتب - أنتهى المراد منه.
ولعل من يقول بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم كمذهب السلف الأول من الصوفية طائفة، لم يحصل لهم ما حصل لهاتين الطائفتين والفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء. هذا بقى هل يسمى ما عليه السلف تأويلاً أم لا. والمشهور عدم تسمية ما عليه المفوضة منهم تأويلاً، وسماه بعضهم تأويلاً كالذى عليه الخلف.
قال اللقانى: أجمع الخلف ويعبر عنهم بالمؤولة، والسلف ويعبر عنهم بالمفوضة على تنزيه تعالى عن المعنى المحال الذى دل عليه الظاهر، وعلى تأويله وإخراجه عن ظاهرة المحال، وعلى الإيمان به بأنه من عند الله تعالى، جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أختلفوا في تعيين محمل له معنى صحيح، وعدم تعيينه بناء على أن الوقف على قوله تعالى:{والراسخون في العلم} أو على قول سبحانه {إلا الله} ويقال لتأويل السلف إجمالى، ولتأويل الخلف تفصيلى. أنتهى ملخصاً.
وكان شيخنا العلامة علاء الدين يقول: ما عليه المفوضة تأويل واحد وما عليه المؤولة تأويلان. ولعله راجع إلى ما سمعت.