الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في تحريم المسكر وذم شاربه
1 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ". أخرجه الستة (1). [صحيح]
قال الخطابي (2): معنى "لَمْ يَشْرَبهْاَ في الآخِرَةِ": لم يدخل الجنة.
الفصل الثاني في تحريم المسكر وذم شاربه
قوله في حديث ابن عمر: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" أقول: لم يأت بهذا اللفظ في أول هذا الحديث بلفظ: "من شرب خمراً في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة" قال الحافظ ابن حجر (3): وزاد مسلم (4) في أول الحديث مرفوعاً: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".
قوله: "كل مسكر" عام سواء اتخذ من العنب ومن غيره. ودل على أن علة التحريم الإسكار، وأن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناوله قليله وكثيره.
وقد ثبت عند أبي داود (5)، والنسائي (6)، وصححه ابن حبان (7) من حديث جابر قال:
(1) أخرجه البخاري رقم (5575)، ومسلم رقم (77/ 2003).
وأبو داود رقم (3679)، والنسائي رقم (5761)، وابن ماجه رقم (3373)، وأخرجه أحمد (2/ 21).
(2)
في "معالم السنن"(4/ 86 - مع السنن).
(3)
في فتح الباري (10/ 32).
(4)
في صحيحه رقم (73/ 2003).
(5)
في السنن رقم (3681).
(6)
في السنن رقم (5607).
(7)
في صحيحه رقم (5382). =
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
ولأبي داود (1) من حديث عائشة مرفوعاً: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام".
وعند ابن حبان (2) والطحاوي (3) من حديث سعد بن أبي وقاص عنه صلى الله عليه وسلم: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره".
قال الطحاوي (4): اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم: أراد جنس ما يسكر. وقال بعضهم: أراد به ما تبع السكر عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلاً حتى يقتل ويدل له حديث (5) [285 ب] ابن عباس رفعه:"حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب".
= وأخرجه أحمد (3/ 343)، والترمذي رقم (1865)، وابن ماجه رقم (3393)، والبيهقي (8/ 296)، والطحاوي (4/ 217).
وهو حديث صحيح.
(1)
في "السنن" رقم (3687) وقد تقدم.
(2)
في "صحيحه" رقم (5370).
(3)
في شرح معاني الآثار (4/ 216).
(4)
في شرح معاني الآثار (4/ 216).
(5)
أخرجه النسائي في "السنن" رقم (5683)، وهو أثر صحيح موقوف.
وأخرجه النسائي في "السنن" رقم (5684) و (5685)، وهو حديث صحيح.
وأخرجه برقم (5686) وقال: وهذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة، وهُشيم بن بشير كان يدلس، وليس في حديثه ذكر السماع من ابن شبرمة.
ورواية أبي عون أشبه بما رواه الثقات عن ابن عباس.
قلت: قال في "النهاية"(1) عند الكلام على هذا الحديث: السكر: بفتح السين والكاف الخمر المعتصر من العنب، هكذا رواه الأثبات، ومنهم من يرونه بضم السين وسكون الكاف يريد حالة السكران، فيجعلون التحريم للسكر، لا لنفس المسكر، فيبيحون قليله الذي لا يسكر والمشهور الأول. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر (2): إن الحديث الذي ذكره الطحاوي أخرجه النسائي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه، وفِى وقفه ورفعه. قال: وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ: "المسكر" بضم الميم وسكون السين "السكر" بضم ثم سكون أو بفتحتين.
والحاصل أنه يقول الحنفية (3) ومن معهم: أنه لا يحرم إلا ما أسكر بالفعل. وقد رد الحافظ ابن حجر (4) ما ذهبوا إليه، وأطال واستدل بمطلق قوله:"كل مسكر حرام" على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شراباً، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها. وقد جزم النووي (5) وغيره بأنها مسكرة. وجزم آخرون بأنها مخدرة.
قال ابن حجر (6): وهو مكابرة؛ لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشاط والمداومة عليها والانهماك فيها.
(1)(1/ 790).
(2)
في "فتح الباري"(10/ 43).
(3)
"مختصر اختلاف العلماء"(4/ 371).
(4)
في "الفتح"(10/ 43).
(5)
في شرحه لـ "صحيح مسلم"(13/ 167).
(6)
في "الفتح"(10/ 44).
وعلى تقدير أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في سنن أبي داود (1) النهي عن كل مسكر ومفتر وهو بالفاء.
قوله: "ومن شرب الخمر في الدنيا [379/ أ] فمات وهو يدمنها، لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة"، أقول: لفظ البخاري (2): "ومن شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة".
ولفظ المصنف نسبه ابن الأثير (3) إلى مسلم (4).
قال الخطابي (5) والبغوي في "شرح السنة"(6): معنى الحديث لا يدخل الجنة؛ لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حرم شربها دلَّ على أنه لا يدخل الجنة.
وقال ابن عبد البر (7): هذا وعيد شديد يدل على حرمانه دخول الجنة؛ لأن الله تعالى أخبر أنَّ في الجنة أنهاراً من خمر لذة للشاربين، وأنهم لا يصدّعون ولا ينزفون، فلو دخلها وعلم أن فيها خمراً وأنه حرمها [258 ب] عقوبةً له، لوقع له الهم والحزن والجنة لا هم فيها ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة، ولا أنه حرمها عقوبةً له، لم يكن عليه في فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم: إنه لا يدخل الجنة أصلاً.
(1) في "السنن" رقم (3686)، وهو حديث ضعيف.
(2)
في "صحيحه" رقم (5575).
(3)
في "الجامع"(5/ 98 - 99).
(4)
في "صحيحه" رقم (77/ 2003).
(5)
في "معالم السنن"(4/ 86).
(6)
(11/ 355).
(7)
في "التمهيد": (14/ 150 - الفاروق).
قال (1): وهو مذهب غير مرضي. قال: ومحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها، ولا يشرب الخمر فيها، إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر، وهو في المشيئة، فعلى هذا فمعنى الحديث جزاؤه في الآخرة أن يحرمها بحرمانه دخول الجنة، إلا أن يعفى عنه وجائز أن يدخل الجنة بالعفو، ثم لا يشرب الخمر ولا يشتهيها، وإن علم بوجودها فيها، ويؤيده ما أخرجه الطيالسي (2)، وصححه ابن حبان (3) عن أبي سعيد مرفوعاً:"من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة".
ومثله ما أخرجه أحمد (4) بإسنادٍ حسن من حديث ابن عمر مرفوعاً: "من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة". وذلك بأن ينساها ولا يشتهيها وليس عليه في ذلك حسرة، ولا يكون ترك شربها عقوبة له بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من هو أتم منه نعيماً، كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذٍ، عما يلحق الأعلى درجة منه تنغيص، ولا هم، ولا حزن، استغناءً بما أعطي واغتباطاً به. وفي الحديث دليل على أن التوبة تكفر الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعي أو ظني؟ وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة. هل هو قطعي أو ظني.
(1) أي: ابن عبد البر في "التمهيد"(14/ 150).
(2)
في "مسنده" رقم (2217).
(3)
في "صحيحه" رقم (5437).
وأخرجه أحمد (3/ 23)، والطحاوي (4/ 246)، والحاكم (4/ 91)، وصححه الحاكم وأقره الذهبي. إسناده ضعيف؛ لجهالة داود السراج، وشطره الأول ثابت عن عدد من الصحابة في الصحيحين.
(4)
في "المسند"(2/ 209)، بسند ضعيف؛ لسماع يزيد بن هارون من الجريري - وهو سعيد بن إياس - بعدما اختلط. وباقي رجاله ثقات، وأورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 74)، وقال: رجاله ثقات.
قال النووي (1): الأقوى أنه ظني.
قال القرطبي (2): من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعاً.
وفي الحديث أن الوعيد يتناول من شرب الخمر، وإن لم يسكر؛ لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير قيد، وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب، وكذا فيما يسكر من غيرها، وأما [ما](3) لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور (4).
وفيه قوله [286 ب]: "ثم لم يتب" دليل على مشروعية التوبة في جميع العمر ما لم يصل إلى الغرغرة كما يدل "ثم" من التراخي، وأنها ليست المبادرة إلى التوبة شرطاً.
2 -
وعنه رضي الله عنه: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهْىَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالخَمْرُ، مَا خَامَرَ العَقْلَ". أخرجه الخمسة (5). [صحيح]
قوله: "وعنه" أي: عن ابن عمر أقول: ترجم البخاري (6) للحديث هذا بقوله: باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب.
(1) في شرحه لـ "صحيح مسلم"(13/ 173).
(2)
في "المفهم"(5/ 269)، ونصه:"إن من استقرأ الشريعة قرآناً وسنةً، وتتبع ما فيهما من هذا المعنى علم علم اليقين أن الله يقبل توبة الصادقين".
(3)
سقطت من (ب).
(4)
قاله الحافظ في "الفتح"(10/ 33).
(5)
أخرجه البخاري رقم (5580)، ومسلم رقم (33/ 2032)، وأبو داود رقم (3669)، والترمذي رقم (1874)، والنسائي رقم (5578، 5579).
(6)
في "صحيحه"(10/ 45 الباب رقم 5 - مع الفتح).
وقوله: "وهي من خمسة" جملة حالية. أي: نزل تحريم حال كونها تصنع من خمسة.
قال الحافظ ابن حجر (1): وهذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة؛ لأن له عندهم حكم الرفع؛ لأنه خبر صحابي شهد التنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد إنكاره.
قلت: لا يخفى أن سبب نزول آية المائدة ما ذكره أصحاب السنن (2) من حديث عمر أنه قال: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً" فنزلت آية المائدة، ثم إن حديث عمر هذا إخبار بأن الخمر الذي سألوا عنه ونزل فيه:{إِنَّمَا الْخَمْرُ} (3) الآية فسمَّاه ما ذكر، فما معنى أن له حكم الرفع.
قال الحافظ (4): وأراد عمر بنزول تحريم الخمر أي بآية المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (5) إلى آخره، ومراده بيان أن الخمر في الآية ليس خاصاً بالمتخذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غيرها.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قاله عمر، فأخرج أصحاب السنن الأربعة (6)،
(1) في "فتح الباري"(10/ 46).
(2)
أخرجه أبو داود رقم (3670)، والترمذي رقم (3050)، والنسائي رقم (5540)، وهو حديث صحيح.
(3)
سورة المائدة: 90.
(4)
في "الفتح"(10/ 40).
(5)
سورة المائدة: 90.
(6)
أخرجه أبو داود رقم (3677)، والترمذي رقم (1872)، وقال: غريب وابن ماجه رقم (3379).
وصححه ابن حبان (1) من وجهين، عن الشعبي: أن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الخمر من العصير والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر".
وأخرجه أبو داود (2) من وجه آخر عن النعمان بلفظ: "إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً" وسيأتي للمصنف قريباً، والتي قبلها (3) فيها "الزبيب" دون "العسل" والكل مقبول؛ لأنه زيادة عدل.
قوله: "والخمر ما خامر العقل". أقول: أي: غطاه أو خالطه، ولم يتركه على حاله [380/ أ].
قال الراغب في "مفردات القرآن"(4): سمي الخمر لكونه خامراً للعقل، أي: ساتراً له. وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمراً حقيقة.
وقد أطال في "فتح الباري"(5) نقل كلام الناس في مسمى الخمر إطالةً مملة. وأقول: بعد ثبوت حديث: "كل مسكر خمر" فالخمر كل ما أسكر حتى شمل الحشيشة، وثبت أن كل مسكر حرام.
(1) في "صحيحه" رقم (5358).
(2)
في "السنن" رقم (3676).
وأخرجه ابن ماجه رقم (3379)، وهو حديث حسن.
(3)
أخرجها أبو داود، وفي "السنن" رقم (3677).
(4)
(ص 298 - 299).
(5)
(10/ 46 - 48).
وقول الحنفية (1): إن تحريم خمر العنب قطعي وتحريم غيره ظني غير مسلم، بل قد ثبت تحريم الخمر كتاباً وسنة، وبين الشارع مسماها أنه كل مسكر، فلا حاجة بنا إلى معرفة مما كانت الخمر عند نزول الآية بعد تسميته كل مسكر خمر، فإنه صلى الله عليه وسلم بين أن المراد من الآية المسكر، وأن الآية في معنى إنما المسكر والأنصاب والأزلام، ولقد عظم الخطب بين الحنفية والشافعية (2) في هذه المسألة لاختلافهم حتى سرى الاختلاف في المذهب إلى الدعاوى على اللغة. فقال صاحب "الهداية" (3) من الحنفية: الخمر عندنا ما اعتصر من [ماء](4) العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم. انتهى.
وقال الخطابي (5): زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة سمو المتخذ من غير العنب خمراً، وهم عرب فصحاء، فلو لم يكن [288 ب] هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه. انتهى.
قلت: ولا يخفى أنه قد فصل الأمر الشارع بقوله: "كل مسكر خمر"، فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمراً من الشارع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية.
3 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: إِنَّ عَلَى الله عَهْدًا لمَنْ شَرِبَ السَّكَرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! وَمَا طِينَةُ الخَبَال؟ قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ".
(1)"الهداية"(4/ 108)"مختصر اختلاف العلماء"(4/ 373 - 374).
(2)
"البيان" للعمراني (12/ 519).
(3)
(4/ 108).
(4)
زيادة من (أ).
(5)
في أعلام الحديث (3/ 2089).