الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
وعن الزهري قال: لَا بَأْسَ بِذَبيحَةِ نَصَارِىِّ العَرَبِ، فَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّي لِغَيْرِ الله فَلَا تَأْكُلْ، وإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ فَقَدْ أَحَلَّهُ الله، وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ. [صحيح]
ويذكر عن علي رضي الله عنه نحوه. أخرجه رزين.
قلت: وهو في البخاري (1) في ترجمة باب، والله أعلم.
قوله: "وعن الزهري" هذا من كلام الزهري (2) وليس بحجة، وقد تقدم أن أكل ذبائح أهل الكتاب حلال؛ للآية ولذا جاء في الحديث فى المجوس:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير أكل ذبائحهم"(3) الحديث؛ فإنه يفيد أكل ذبائح أهل الكتاب.
كتاب: ذم الدنيا وأماكن من الأرض
وفيه فصلان
الفصل الأول: [في ذم الدنيا
1 -
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: جَلَسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ:"إِنَّ مِمَّا أخافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا". فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرَّ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: فَرُئِينَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وَقال:"أينَ هَذَا السَّائِلَ؟ " - وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ - فَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا
(1) في صحيحه (9/ 636 الباب رقم 22 مع الفتح).
(2)
انظر: "فتح الباري"(9/ 637) حيث قال: ووصله عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري عن ذبائح نصارى العرب
…
(3)
أخرجه الشافعي في مسنده (ج 2 رقم 431 - ترتيب)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 189 - 190)، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر"(2/ 179)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 243 - 244)، ومالك في "الموطأ"(1/ 278 رقم 42) من حديث عبد الرحمن بن عوف
…
قال الحافظ ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر": هذا حديث غريب، وسنده منقطع أو معضل.
يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أَوْ يُلِمُّ إِلَاّ آكِلَةَ الخُضْرَةِ فَإِنَّهَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ هُوَ لمِنْ أَعْطَى مِنْهُ المِسْكِينَ وَاليَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَإِنَّ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَمَنْ يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ القِيَامَةِ". أخرجه الشيخان (1) والنسائي (2). [صحيح]
"زَهْرَةُ الدُّنْيَا" حسنها وبهجتها.
"وَالرُّحَضَاء"(3) العَرَق الكثير.
"وَالحَبَطُ"(4) الانتفاخ، يقال: حبط بطنه إذا انتفخ فهلك
"وَثَلَطَ البَعِيرُ"(5) يثلُط إذا ألقى رجيعه سهلاً رقيقاً، وفي الحديث مثلان، أحدهما للمفرط فى جمع الدنيا، والآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها.
قوله: "كتاب ذم الدنيا [وأماكن من] (6) الأرض وفيه فصلان"] (7).
["الفصل الأول في ذم الدنيا"](8).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (921، 1465، 2842، 6437) ، ومسلم رقم (1052).
(2)
في "السنن" رقم (2581).
(3)
قال ابن الأثير في "النهاية"(1/ 644): هو عرق يغسل الجلد لكثرته، وكثيراً ما يستعمل في عرق الحمى والمرض.
وانظر: "غريب الحديث" للهروي (4/ 413).
(4)
من قولهم: حبطت الدابة حبطاً إما أصابت مرعى طيباً، فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت. "النهاية"(1/ 324).
(5)
قاله ابن الأثير في "غريب الجامع"(4/ 503 - 504).
(6)
ما بين الحاصرين سقط من (أ).
(7)
في (أ): "وذم أماكن منها".
(8)
زيادة من (ب).
قوله: "ذم الدنيا" أقول: ينبغي أن تكون على حذف، والمراد: ذم من آثرها على الأخرى، وليس في أحاديث الباب إلا ما يدل على هذا، فالدنيا مزرعة الآخرة، وما أحسن ما قاله (1) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقد سمع رجلاً يذم الدنيا فقال: أيها الذام للدنيا: أتغتر (2) بالدنيا ثم تذمها!! أنت المجرِّم عليها أم هي المتجرِّمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلاء، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم علَّلت [115 ب] بكفيك؟ ومرضت بيديك تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء غداة لا يغني عنهم دواؤك، ولا يجدي عليهم بكاؤك، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثَّلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فَهِمَ عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها، ودار موعظة لمن اتَّعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا بها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها، ونعتت نفسها وأهلها، فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور! راحت بعافية، وابتكرت بفيجعة ترغيباً وترهيباً وتخويفاً وتحذيراً، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا. انتهى.
وهو كلام يأخذ بأزمة القلوب، ويعرفك أن الدنيا ينال بها المرغوب والمرهوب، وما أحسن ترجمة البخاري (3) لحديث الباب حيث قال:(باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها) انتهى.
(1) انظر نصاً في "نهج البلاغة"(ص 590 - 591 رقم 131).
(2)
في "نهج البلاغة" زيادة: (المغترُّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها".
(3)
في صحيحه (9/ 243 الباب رقم 7 مع الفتح).
فهو أحسن من الترجمة له بذمها، ولكنه سبق ابن الأثير (1) إلى ذلك فترجم به المصنف تبعاً له.
قوله: "وذم أماكن منها".
أقول: وفي "فتح الباري"(2) الدنيا؛ بضم الدال وحكي كسرها. فعلى من الدنو القرب (3) لسبقها الأخرى، أو لدنوها من الزوال، وهي ما على الأرض من الجو والهواء، وقيل: كل المخلوقات من الجواهر (4) والأعراض، ويطلق على كل جزء من ذلك مجاز ولفظها مقصور غير منون، وحكي تنوينها. انتهى.
(1) في "الجامع"(4/ 501).
(2)
في "فتح الباري"(1/ 16 - 17).
(3)
انظر: "القاموس المحيط"(ص 1656)، "لسان العرب"(4/ 419).
(4)
قال الشوكاني في "الفتح الرباني"(4/ 1787 الرسالة رقم 46 بتحقيقي): "
…
إن هذا الوجود الخارجيَّ المتشخص، إما جسم، أو هو جوهر، أو عرض، والجسم إما أن يكون نامياً أو غير نام، والنامي أن يكون حيواناً أو غير حيوان، وكل نوع من هذه الأنواع يختص باسم يتميز به عن الآخر؛ كالتراب، والماء، والنار، والهواء، ثم منها ما هو بسيط، ومنها ما هو مركب مع غيره، والمراد من هذا التقسيم: أن هذه الموجودات المشاهدة قد سميت بأسماء، ثم ما كان منها في جهة السفل فهي الأرض، وما كان منها في جهة العلو فهو السماء، ولكل نوع من الأجسام والأعراض الكائنة في الحيزين اسم يخصه، ويتميز به عن غيره، فهذه الموجودات الخارجية هي بالنسبة إلى الموجودات التي ستكون في الآخرة دنيا؛ لأنها دنت منا، أي: قربت، وتلك أخرى؛ لأنها تأخرت عنا، أي: بَعُدَت.
وهكذا ما يوجد من المأكولات والمشروبات والملبوسات وسائر ما يستمتع به في هذه الدار يقال له دنيا؛ لأنها دنت ودنى الانتفاع بها بالنسبة إلى المأكولات والمشروبات والملبوسات ونحوها التي ستكون في الدار الآخرة؛ لأن هذه لما كانت قريبة، وتلك بعيدة كانت هذه دنيا وتلك أخرى، وهكذا الحياة الكائنة في هذه الدار فإنها =
قلت: ولا يخفى أنه أخرج الأرض في الحد الأول عن الدنيا وهي منها قطعاً. [116 ب].
فالقول الثاني أقرب إلى الصواب، فالحق عندي: أن المراد من الدنيا كل ما خلق للفناء، ولذا سميت دار الفناء، والأخرى: ما كان للبقاء، ولذا يقول الله:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} (1).
= دنيا لدنوها بالنسبة إلى الحياة الكائنة في الآخرة، ولهذه وصفها الله سبحانه بالحياة الدنيا أي القريبة، وهكذا الأزمان والأكون الكائنة في هذه الدار، فإنها دنيا لأنها دنت بالنسبة إلى الأكوان والأزمان الكائنة في الآخرة.
إذا عرفت هذا فقد تطلق هذه الصفة - أعني الدنيا - على جميع هذه الأشياء، وذلك إذا قوبلت بالآخرة
…
وقد تطلق هذه الصفة على بعض هذه المذكورات كالحياة الدنيا، وقد يضاف بعض هذه المذكورات إلى الدنيا كمتاع الدنيا من باب إضافة الشيء إلى أصله، أو إلى جنسه كخاتم حديد، ومن ذلك:"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها" فإن أطلقها على بعض ما تطلق عليه، وجعل البعض الآخر كالمغاير لها من جهة كونه مظروفاً لها، والظرف غير المظروف مع أنه يصدق على الأشياء المظروفة أنها دنيا.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" حديث موضوع وقد تقدم، أن حب هذه الأشياء التي هي دانية إلينا رأس كل خطيئة، إذ لا يوجد ذنب من الذنوب، ولا خطيئة من الخطايا إلا وهي راجعة إلى حب هذه الأشياء، فإن جملة الدنيا الشهوات الجسمية والنفسية، فإنها بالنسبة إلى شهوات الآخرة دنيا، فكل مستلذٍّ للحواس والأعضاء فهو دنيا لقربه منا، وبعد مستلذات الحواس والأعضاء الكائنة في الآخرة عنا.
ومن جملة الدنيا الأفعال والأقوال الكائنة في هذه الدار، فإنها بالنسبة إلى الأفعال والأقوال الكائنة في الآخرة دنيا، وليس من حق الدنيا أن تكون جميعها شراً محضاً، بل فيها ما هو خير كالأفعال والأقوال التي هي طاعات وعبادات.
(1)
سورة الرحمن: 26.
ويقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1) فالسماوات العلى وأملاكها وأفلاكها من الدنيا؛ لأنها للفناء: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (2)، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} (3){وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} (4)، ولذا قيل:
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأ .... على ولا النيران الشمس والقمر
وفي قول الحافظ ابن حجر (5): أن الدنيا تطلق على كل جزء من ذلك مجاز. ففيه بحث؛ وذلك أن الدنيا لفظ كلي تحته أفراد؛ هي أجزاؤها، وإطلاق الكلي على أجزائه إطلاق حقيقي، فإن الحيوان كل يطلق على كل واحد من أجزائه من الإنسان والفرس وغيرهما إطلاقاً حقيقياً، بل الحق أن وجود الكلي وجود أجزائه. وقد بسطت هذا في جواب سؤال؛ لأني لم أجد لأحد كلاماً شافياً في حقيقة الدنيا.
قوله: "في حديث أبي سعيد: من زهرة الدنيا" والزهرة: بسكون الزاي وفتح الهاء، والمراد بها: الزينة والبهجة، وهي مأخوذة (6) من زهرة الشجر وهو نورها بفتح النون، والمراد: ما فيها من أنواع المتاع، والعين، والنبات، والزروع وغيرها مما يغتر الناس بحسنه مع قلة البقاء.
قلت: وفي تسميتها زهرة إشارة إلى ذلك؛ لأن الزهر سريع الذبول والذهاب.
(1) سورة القصص: 88.
(2)
سورة إبراهيم: 48.
(3)
سورة التكوير: 1.
(4)
سورة القيامة: 8.
(5)
في "فتح الباري"(1/ 16 - 17).
(6)
انظر: "فتح الباري"(9/ 245).
قوله: "أو يأتي الخير بالشر؟ " أقول: هو بفتح الواو، والهمزة للاستفهام [323/ أ] والواو عاطفة على شيء مقدر، أي: أتصير النعمة عقوبة؟ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله، فهل تعود هذه النعمة نقمة؟ وهو استفهام استرشاد لا إنكار.
والباء في قوله: "بالشر" صلة (1) ليأتي، أي: هل يستجلب الخير الشر؟ [117 ب].
وقوله: "ينزل عليه" أي: الوحي، وكأنهم فهموا ذلك بالقرينة [من](2) الكيفية التي جرت عادته بها عندما يوحى إليه.
وقوله: "الرحضاء" بضم الراء وفتح المهملة ثم المعجمة والمد، وهو العرق الكثير (3).
وقوله: ["وكأنه"](4) أي النبي صلى الله عليه وسلم. "حمده" أخذه الراوي من قرينة الحال.
"وإن مما ينبت الربيع" أي: الجدول، وإسناد الإثبات إليه مجازي، والمنبت هو الله تعالى. وفي لفظ البخاري (5):"وإن كل ما ينبت الربيع" فقال في "الفتح"(6): إن رواية (7) مما ليست فيها من للتبعيض، بل المعنى على التكثير ليوافق رواية كما أنبت.
(1) قاله الحافظ في "فتح الباري"(9/ 246).
(2)
في (أ. ب): "و"، وما أثبتناه من "الفتح".
(3)
قاله الحافظ في "الفتح"(9/ 246)، وقد تقدم شرحها.
(4)
في (ب): "وكأن".
(5)
في صحيحه رقم (6427).
(6)
(9/ 247).
(7)
هكذا العبارة في (أ. ب)، وقد اعتراها نقص، وإليك نصها من "الفتح": وفي رواية هلال: "وإن مما ينبت" ومما في قوله: مما ينبت للتكثير وليست (من) للتبعيض لتوافق رواية: "كل ما أنبت"، وهكذا كلام كله واقع كالمثل للدنيا.
قوله: "ما يقتل حبطاً أو يلم حبطاً" بفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضاً.
والحبط: انتفاخ البطن من كثرة الأكل؛ يقال: حبطت الدابة تحبط حبطاً إذا أصابت مرعى طيباً فاتسعت في الأكل حتى تنتفخ فتموت. وروي بالخاء المعجمة من التخبط وهو الاضطراب (1)، والأول المعتمد.
وقوله: "أو يلم" بضم أوله أي: يقرب من الهلاك.
وقوله: "إلا" بالتشديد حرف استثناء، وروي بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الاستفتاح.
و"أكلة" بفتح الهمزة وكسر الكاف، و"الخضر" بفتح الخاء المعجمة، وكسر الضاد المعجمة؛ وهو ضرب من الكلأ.
قال ابن الأثير (2): الخضر؛ ضرب من النبات مما له أصل غامض في الأرض، وليس من أجزاء البقول، وإنما هو من كلأ الصيف في القبض والنعم لا تتكثر منه وإنما ترعاه لعدم غيره، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر. انتهى.
قوله: "امتدت خاصرتاها" تثنية خاصرة؛ بفتح الخاء المعجمة وصاد مهملة، هما جانبا البطن من الحيوان.
قوله: "فثلطت" بالثاء المثلثة واللام مفتوحتين ثم طاء مهملة. [118 ب] أي: ألقت (3) ما في بطنها رقيقاً، والمعنى: أنها إذا شبعت فثقل عليها ما أكلت، تحيلت في دفعه بأن تجتر
(1) قال ابن الأثير في "النهاية"(1/ 324). وانظر: "فتح الباري"(9/ 247).
(2)
انظر: "النهاية"(1/ 498 - 499).
(3)
انظر: "النهاية"(1/ 498 - 499).
فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمى بها فيسهل خروجه، فإذا خرج زال الانتفاخ فسلمت. وهذا بخلاف من لم يتمكن من ذلك، فإن الانتفاخ يقتلها سريعاً.
قال الأزهري (1): هذا الحديث إذا فرق لم يكن يظهر معناه، وفيه مثالان؛ أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها، وهو ما تقدم، أي: الذي يقتل حبطاً.
والثاني: في المقتصد في جمعها وفي الانتفاع بها وهو آكلة الخضر؛ وهو ما فوق البقل ودون الشجر ترعاها المواشي بعد هيج البقول، فضرب آكلة الخضر وأكل ما يحبط الماشية إذا انحبس [رجيعها](2) في بطنها، أي: مثلين لما ذكر.
وقال الحافظ ابن حجر (3): إن سياق الحديث يقتضي وجود الحبط للجميع. أي: من أكلة الخضر وغيره إلا لمن وقعت منه المدارة حتى يدفع عنه ما يضر، وليس المراد أن آكلة الخضر لا يحصل لها من أكله ضرراً البتة، يريد كما قاله ابن المنير فيما نقله (4) عنه قال: فالمستثنى آكلة الخضر بالوصف المذكور، لا كل من اتصف بأنه آكل الخضر.
قوله: "وإن هذا المال خضر حلو" أقول: معناه: أن صورة الدنيا حسنة مزينة.
قال الحافظ في "الفتح"(5): إنه يؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف؛ لأن الماشية إذا رعت الخضر للتغذية؛ إما أن تفتقر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر، الأول الزهاد، والثاني: إما أن [يحتاج إلى](1) إخراج ما لو بقي أضر، فإذا أخرجه زال الضرر، واستمر النفع،
(1) ذكره الحافظ في "الفتح"(9/ 247).
وقاله ابن الأثير في "النهاية"(1/ 324).
(2)
في (أ): "رجعتها".
(3)
في "فتح الباري"(9/ 247).
(4)
ابن حجر في "فتح الباري"(9/ 247).
(5)
في "فتح الباري"(9/ 248).
إما أن [يحتاج إلى](1) إخراج ما لو بقي أضر، فإذا أخرجه زال الضرر، واستمر النفع، وإما أن يهمل ذلك، الأول: العاملون في جمع الدنيا بما يجب من إمساك وبذل، والثاني: العاملون في ذلك بخلاف ذلك.
قال الزين ابن المنير (2): في هذا الحديث وجوه من التشبيهات بديعة:
أولها: تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره.
ثانيها: تشبيه المنهمك في الأسباب والاكتساب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب.
ثالثها: تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه.
رابعها: تشبيه الخارج من المال مع عظمة في النفوس إذا أدى إلى [119 ب] المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السلح؛ ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعاً.
خامسها: تشبيه المتقاعد عن جمعه وضمه بالشاة إذا استراحت وحطت جانبها مستقبلة عين الشمس، فإنها من أحسن حالاتها سكوناً وسكينة، وفيه [إشارة](3) إلى إدراكها لمصالحها.
سادسها: تشبيه الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها.
سابعها: تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدواً، إذا بخل به جامعه، فينقلب سبباً للعقاب.
قلت: ولذا ورد أنه يجعل يوم القيامة شجاعاً أقرع في عنق مانع الحق منه.
ثامنها: تشبيه من أخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع.
(1) كذا في (أ. ب)، والذي في "الفتح":"يحتال على".
(2)
انظره نصاً في "فتح الباري"(9/ 248).
(3)
في (أ): "الإشارة".
وقال الغزالي (1): مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم نافع؛ فإذا أصابها العارف [324/ أ] الذي يحترز عن شرها، ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي منه لقي البلاء المهلك. هذا وقد عدّ ابن دريد (2) هذا الحديث وهو قوله:"إن ما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم" من الكلام الفرد الوجيز الذي لم يسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه.
والمصنف قد فسر ألفاظاً من الحديث رأينا عدم الاكتفاء بما قاله، والذي قاله حسن صحيح.
2 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ الله مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِر كيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَالنِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَني إِسْرَائِيلَ كانَتْ في النِّسَاءِ". أخرجه مسلم (3) والنسائي (4). [صحيح]
وعندهُ: "فَمَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ".
قوله: "في حديث أبي سعيد الثاني: إن الدنيا حلوة خضرة" أقول: أنث الخبر؛ لأن الدنيا مؤنثة، وشبهها في الغربة فيها والميل إليها ومحبتها، وحرص النفوس عليها بالفاكهة المستلذة، فإن [كلاً](5) من الخضرة والحلو مرغوب فيه على انفراده، فكيف إذا اجتمعا؟!
والمراد بالدنيا كل ما فيه لذة للنفوس من شهواتها، ولذاتها الحسنة، وغير الحسنة. والإخبار عنها بما ذكر تحذير عن الاغترار بها.
(1) ذكره الحافظ في "الفتح"(9/ 248).
(2)
ذكره الحافظ في "الفتح"(9/ 248).
(3)
في صحيحه رقم (2742).
(4)
في كتاب "عشرة النساء" رقم (387). وأخرجه الترمذي رقم (2191)، وابن ماجه رقم (4000).
(5)
في (ب): "كان".
قوله: "مستخلفكم فيها" أقول: هو مأخوذ [120 ب] من قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} (1)، ومن قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (2) الآية، أي: يجعلكم خلف عن سلف، ويمكن لكم فيها فناظر كيف تعملون فيما استخلفكم فيه، وهو عالم بما تعملون، لكنه أراد إبراز علمه اليقين إلى عين اليقين، [و](3) هو تحذير من الاغترار بالدنيا. وقد امتن الله على عباده في عدة آيات بأنه جعلهم خلائف الأرض، وخلائف في الأرض، كما قالت الرسل لأممهم:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (4) كما قاله هود لقومه، وكما قاله صالح لقومه:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} (5) الآية. وفي هذه الأخبار منه تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم تزهيد، وأنها كانت تحت يد أقوام فارقوها كذلك أنتم مفارقون لها، ولذا قيل:
إذا أنت لا تدري متى أنت ميت
…
وقبرك لا تدري بأي مكان
فحسبك قول الناس فيما ملكته
…
لقد كان هذا مرة لفلان
وهو نظير قوله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (6).
(1) سورة الأعراف: 129.
(2)
سورة النور: 55.
(3)
زيادة من (ب).
(4)
سورة الأعراف: 69.
(5)
سورة الأعراف: 74.
(6)
سورة الحديد: 7.
قوله: "واتقوا النساء" أقول: تخصيص بعد التعميم من باب عطف، وجبريل وميكائيل على الملائكة لبيان شرفهما، وهنا خصهن مع دخلوهن في الدنيا زيادة للتحذير من فتنتهن، فهن أعظم شهوات الدنيا، ولذا قدم تعالى ذكرهن في قوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} (1) الآية. فقدمهن على الستة الأشياء التي ذكرها في الآية، فإن القناطير المقنطرة أحد الستة، وإنما بينت بأنها الذهب والفضة، وقدمهن صلى الله عليه وسلم في قوله:"حبب إلي من دنياكم النساء والطيب"(2) الحديث.
والفتنة: هي الامتحان، والابتلاء، والاختبار. [121 ب].
وقوله: "فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" أقول: لا أعرف أول فتنة بني إسرائيل بالنساء، فمن عرفه فليلحقه، ولكن أول فتنة في الكون كانت من أول امرأة فيه، فإن حواء أم البشر؛ هي حسنت لآدم أبي البشر أكله من الشجرة التي كانت سبباً لأعظم الفتن من الخروج من الجنة وتحمل فتن الدنيا، وكانت أول فتنة في الدنيا من النساء؛ فكان قتل هابيل وهو أول دم سفك على وجه [الأرض](3) بسبب النساء.
أما الأول: فإنه أخرج ابن جرير (4)، وابن أبي حاتم (5)، عن ابن مسعود وناس من الصحابة قصة طويلة، ومنها: أنه قال إبليس: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} (6)
(1) سورة آل عمران: 14.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 128)، والنسائي رقم (3940)، وأبو يعلى رقم (3482) ، والطبراني في "الأوسط" رقم (5199)، والبيهقي في "السنن"(7/ 78) من طرق من حديث أنس رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(3)
زيادة من (ب).
(4)
في "جامع البيان"(16/ 189).
(5)
في تفسيره (7/ 2437 - 2438).
(6)
سورة طه: 120.
فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت (1)، ثم قالت: يا آدم! كل فإني قد أكلت فلم يضرني، {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} (2)، والروايات في هذا واسعة.
وأما الثاني: فإنه أخرج ابن جرير (3)، عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام البطن الآخر، حتى ولد له اثنان يقال لهما: هابيل وقابيل، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل، وكان هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه
…
الحديث إلى أن قال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي فقتله، كما حكاه الله.
وأخرج عبد بن حميد (4)، وابن جرير (5)، وابن المنذر (6)، وابن أبي حاتم (7)، وابن عساكر (8)، بسند جيد عن ابن عباس قال:
(1) قال ابن جرير في "جامع البيان"(16/ 189): يقول تعالى ذكره: فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس، وخالفا أمر ربهما:{فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] يقول: فانكشفت لهما عوراتهما، وكانت مستورة عن أعينهما.
(2)
سورة طه: 121.
(3)
في "جامع البيان"(8/ 322 - 323).
(4)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 55).
(5)
في "جامع البيان"(8/ 339).
(6)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 55).
(7)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 55).
(8)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 55).
نهى آدم أن ينكح المرأة [أخوها](1) توأمها، وأن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينا هم كذلك ولد له امرأة وضية، وولد له أخرى قبيحة ذميمة، فقال أخو الذميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي؛ قال: لا، أنا أحق بأختي، فقربا قرباناً - في رواية (2) - إلى الله أيهما أحق بالجارية، فجاء صاحب الغنم وهو هابيل بكبش [122 ب] أعين أقرن أبيض، وصاحب الحرث؛ أي: وهو قابيل بصبرة من طعام، فتقل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع فقتله. [324/ أ].
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَاّ ذِكْرَ الله تعَالى وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ". أخرجه الترمذي (3). [حسن]
قوله: "في حديث أبي هريرة: الدنيا ملعون ما فيها" أقول: اللعن (4): الطرد والإبعاد، فلعنها بعدها من الله، وأنه لم ينظر إليها منذ خلقها.
(1) في (أ): "أخاها".
(2)
أخرجها ابن جرير في "جامع البيان"(8/ 319).
(3)
في "السنن" رقم (2322) وقال: حديث حسن غريب.
وأخرجه ابن ماجه رقم (4112) وهو حديث حسن. وأخرجه البغوي في "شرح السنة" رقم (4028) عن عبد الله بن ضمرة. وأخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (502)، وأحمد في "الزهد" رقم (246) من حديث جابر بن عبد الله. وأخرجه البزار في مسنده رقم (3310 - كشف) من حديث عبد الله بن مسعود.
وهو حديث حسن إن شاء الله.
(4)
وقال الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن"(ص 741): اللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره.
قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 78].
قال تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18].
واعلم أنه ورد علينا (1) سؤال في لعن الدنيا، وأجيب بما حاصله: أنه معلوم أن الله تعالى قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} (2) الآية، وأن الذي زينها هو الله تعالى، أي: جعل الطباع البشرية مائلة إلى ما زينه. ودليل أنه الذي زينها قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} (3) أي: ما زينه، وثبت حديث:"حبب إلي من دنياكم النساء والطيب"(4)، ومعلوم يقيناً أن الله لا يزين ولا يحبب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً ملعوناً قطعاً. وإذا عرفت هذا فلا بدَّ من النظر فيما هو ملعون منها.
فالتحقيق: أنها تجري الأحكام الخمسة فيما خلقه الله من متاع الدنيا ونبينه في اللباس فإن ستر العورة واجب، والتجمل بالثياب لما شرع له التجمل سنة، ولبسه لا بنية التجمل مباح، ولبسه زيادة على الحاجة مكروه، ولبسه كبراً وفخراً محرم. ومعلوم أن غير المحرم غير ملعون فاعله، ولا الثوب الذي لبسه لأحدها؛ فتعين أن الملعون من متاعها هو المحرم، وقد لعن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من متاع الدنيا ما حرم كالخمر، وعاصرها، ومعتصرها، ونحوهما، والربا، وكاتبه، وشاهديه، وقال:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} (5) لأنهم فاعلوا
(1) يشير إلى الرسالة رقم (63) من "عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير" بتحقيقي، ط: ابن كثير دمشق.
وهي بعنوان: تفسير لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها
…
".
(2)
سورة آل عمران: 14.
(3)
سورة الأعراف: 32.
(4)
تقدم نصه وتخريجه، وهو حديث حسن.
(5)
سورة هود: 18.
المحرمات، ولا ريب أن لفظ الدنيا (1) مجمل وليس بلفظ عام؛ لأن الدنيا من صيغ العموم يطلق على جميع الأعيان التي فيها [اللعن](2) واقع على لفظ مجمل (3)، ولا بد من بيانه، فبينه الله ورسوله بلعن المحرمات، وأما قوله:"ملعون ما فيها" فهو لفظ عام (4)؛ لأن كلمة (ما)(5) بمعنى الذي، فهو في معنى ملعون كل شيء فيها، ولكن نعلم قطعاً ويقيناً أنه لم يرد هنا
(1) قال الأمير الصنعاني في رسالته: تفسير لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة
…
" وبهذا تعلم أن حديث: "الدنيا ملعونة" لفظ مجمل لا عام؛ لأن لفظ الدنيا ليست من ألفاظ العموم، وإذا كان مجملاً فلا بدّ لما أجمله الله ورسوله من البيان على لسان رسوله الذي أخبر الله أنه يبين للناس ما أنزل إليهم
…
(2)
في (أ): "فاللعن".
(3)
المجمل في اللغة: المبهم من أجمل الأمر إذا أبهم، وقيل في المجموع من: أُجمل الحساب إذا جُمع وجُعل جملة واحدة، وقيل: هو المتحصِّلُ من: أجمل الشيء إذا حصله.
"مقاييس اللغة"(1/ 481)، "القاموس"(ص 1266).
وفي الاصطلاح:
قيل: ما له دلالة على أحد معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه. "الإحكام" للآمدي (3/ 13).
وقال ابن فورك: ما يستقل بنفسه في المراد منه حتى يأتي تفسيره. "البحر المحيط"(3/ 454).
وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول"(ص 551): والأولى أن يقال: هو ما دل دلالة لا يتعين المراد بها إلا بمعين، سواء كان عدم التعين بوضع اللغة، أو بعرف الشرع، أو بالاستعمال.
(4)
العام: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة.
"تيسير التحرير"(1/ 190)، "البحر المحيط"(3/ 8).
(5)
(ما) تختص بما لا يعقل تكون استفهاماً كقولك: ما عندك؟ وما صنعت؟
وتكون شرطاً كقولك: ما تصنع أصنع.
وتكون بمعنى "مَنْ" هي بمعنى (الذي) نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل: 3].
انظر: "البحر المحيط"(3/ 64 - 65)، "إرشاد الفحول"(ص 404، 417).
[123 ب] العموم؛ لأن مما فيها الأنبياء، والرسل، والأولياء، وأهل الإيمان (1)، وهؤلاء معلوم أنهم غير ملعونين، ثم فيها بقاع شريفة نعلم يقيناً أنها غير ملعونة، كالمساجد (2)، والحرمين (3)، ونحوها.
فالتحقيق: أنه لفظ عام مخصص، وأن الملعون منه ما حرمه الله كما قلنا في الجملة الأولى.
قوله: "إلا ذكر الله وما والاه" أقول: قد حققنا لك قريباً أن ذكر (4) الله عام لكل طاعة؛ ولكن قوله: "وما والاه" يشعر بأنه أريد بذكره تعالى نحو: التسبيح والتحميد وغيرهما من الأذكار، ويراد بما والاه: كل طاعة سواه، كما قدمناه.
قوله: "أو عالم أو متعلم" أقول: في أكثر الروايات بغير ألف فيهما، على لغة ربيعة، أو على أنه يقرأ لفظاً وإن لم يكتب خطاً، وهو استثناء للأشخاص، كما أن الأول استثناء للمعاني.
(1) واستشهد الأمير الصنعاني في رسالته يقول الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
(2)
واستشهد الأمير الصنعاني في رسالته بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36].
(3)
يشير إلى قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125].
(4)
قال النووي في "الأذكار"(ص 49): اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى، كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه، وغيره من العلماء.
وقال عطاء رحمه الله تعالى: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف يبيع، كيف يشتري، ويصلي ويصوم، وينكح ويطلق، ويحج، وأشباه هذا.
وذكر الله من الدنيا؛ لأنه واقع فيها، وقد حققنا البحث في جواب السؤال، وفي هذا هنا إن شاء الله كفاية.
قوله: "أخرجه الترمذي" قلت: وقال (1): "حسن غريب".
قلت: وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2) من حديث أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ: "الدنيا ملعونة إلا ما ابتغي به وجه الله عز وجل".
وأخرجه البزار (3) عن ابن مسعود مرفوعاً بلفظ: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها؛ إلا أمراً بالمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ذكر الله".
4 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ". أخرجه مسلم (4) والترمذي (5). [صحيح]
قوله: "وعنه" أي: أبي هريرة.
قوله: "سجن المؤمن" أقول: أي: حبسه ومحل التضييق عليه، وذلك أنه لا يزال في خوف من الله ومما يحمله من التكاليف ومخافة عدم الوفاء بها، ومنعه لنفسه مما حرم الله عليه من شهواتها ولذاتها، فهو في سجن نفسه وتكاليفه.
(1) في "السنن"(4/ 561).
(2)
كما في "مجمع الزوائد"(10/ 222) وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه خداش بن المهاجر ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وهو حديث حسن لغيره.
(3)
في مسنده رقم (3310 - كشف)، وقد تقدم.
(4)
في صحيحه رقم (2956).
(5)
في "السنن" رقم (2314) وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجه رقم (4113)، وأحمد (2/ 323، 389، 485)، وابن حبان في صحيحه رقم (2488 - موارد).
قوله: "وجنة الكافر" أقول: أي: محل تنعمه وقضاء أوطار شهواته، وأمنه من الله ومن عذابه، وخلوص عنقه عن تحمل التكاليف الشرعية، فهي جنة له، وقد أورد هنا سؤال معروف وهو أنه: كم من كافر في بلاء وعناء وحاجة وفاقة وذلّ وصغار فكيف تكون الدنيا جنته (1)؟ وكم من مؤمن في سعة وعافية وعز ونعمة، فكيف يكون في سجن؟ وأجيب عنه: بأن ما يصير إليه المؤمن من نعيم الآخرة ولذاتها، وسعة عطائه، وروح قلبه وقالبه؛ يعد ما هو
(1) قال القرطبي في "المفهم"(7/ 109 - 110): قوله: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" إنما كانت الدنيا كذلك؛ لأن المؤمن فيها مقيد بقيود التكاليف فلا يقدر على حركة ولا سكون إلا أن يفسخ له الشرع، فيفك قيده ويمكنه من الفعل أو الترك، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا والمحن والمكابدات من الهموم والغموم والأسقام والآلام، ومكابدة الأنداد، والأضداد والعيال والأولاد. وعلى الجملة:"وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل بحسب دينه" كما قاله صلى الله عليه وسلم. وأيُّ سجنٍ أعظم من هذا؟! ثم هو في هذا السجن بحسب على غاية الخوف والوجل إذ لا يدري بماذا يختم له من عمل، كيف وهو يتوقع أمراً لا شيء أعظم منه، ويخاف هلاكاً لا هلاك فوقه؟ فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك مكانه لكنه لطف به، فهون عليه ذلك كله بما وعد على صبره، وبما كشف له من حميد عاقبة أمره.
والكافر منفك عن تلك الحالات بالتكاليف، آمنٌ من تلك المخاويف، مقبل على لذاته، منهمك في شهواته، معتز بمساعدة الأيام، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل السجن الذي لا يرام، فنسأل الله السلامة من أهوال يوم القيامة.
وانظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (18/ 93).
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(8/ 511): قوله: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" معناه: أن المؤمن مدة بقائه فيها، وعلمه بما أعدّ له في الآخرة من النعيم الدائم والبشر، أنه عند موته وعرضه عليه، فحبسه عنه في الحياة الدنيا، وتكليفه ما ألزمه، ومنعه مما حرم عليه من شهواته كالمسجون المحبوس عن لذاته ومحابه، حتى إذا ما فارقها استراح من نصبها وأنكادها خرج إلى ما أُعدَّ له واتسعت آماله، وقضى ما شاء من شهواته، والكافر إنما له من ذلك ما في الدنيا على قلته وتكديره بالشوائب، وتنكيده بالعوائق حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم وعذاب النار، وشقاء الأبد.
فيه نعيم [124 ب] الدنيا سجن، وما يلقاه الكافر من العذاب والنكال والسلاسل والأغلال يعد ما فيه في الدنيا وإن كان في أعظم شدائدها جنة هو فيها.
والحديث فيه تسلية لأهل الإيمان، وأنهم بفراق الدنيا يخرجون من السجن.
قوله: "أخرجه الترمذي" قلت: وقال (1): "هذا حديث حسن صحيح" وفي الباب عن عبد الله بن عمرو (2)، انتهى.
5 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كلِّ خَطِيئَةٍ، وَحُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ"(3) أخرجه رزين. [موضوع]
(1) أي الترمذي في "السنن"(4/ 562).
(2)
أخرجه البزار في مسنده رقم (3645 - كشف) بسندين.
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 289) وقال: رواه البزار بسندين: أحدهما ضعيف، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم.
(3)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(7/ 338 رقم 10501) من مراسيل الحسن مرفوعاً.
قلت: وأخرجه البيهقي في "الزهد" رقم (249) من كلام عيسى بن مريم عليه السلام.
وأخرجه أحمد بن حنبل في "الزهد" رقم (472، 473) من طريقين عن عيسى عليه السلام من قوله، وهو الأشبه على إعضال الطريقين.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 388) من قول عيسى عليه السلام أيضاً.
وأورده الزركشي في "التذكرة في الأحاديث المشتهرة"(ص 122 رقم 1) وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب "مكائد الشيطان" من كلام ابن دينار.
قلت: لم أجده في "مكائد الشيطان" المطبوع بتحقيق مجدي السيد إبراهيم.
عزاه العراقي في "تخريج أحاديث إحياء علوم الدين"(4/ 1854) إلى ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا.
وعزاه الألباني في "الضعيفة" رقم (1226) إلى ابن عساكر (7/ 98 رقم 1) من قول: سعد بن مسعود الصيرفي، وذكر أنه تابعي، وأنه كان رجلاً صالحاً. =
قوله: "في حديث أنس: حب الدنيا رأس كل خطيئة" الحديث أقول: الحديث ساقه ابن الأثير (1) كما ساقه المصنف بلفظه، ثم بيض له بناءً على أنه لم يخرجه أحد الستة، ولكنا وجدنا آخر الحديث وهو قوله:"حبك الشيء يعمي ويصم" أخرجه أبو داود (2).
= وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (3662)، وعزاه للبيهقي فقط عن الحسن البصري مرسلاً. ورمز السيوطي لضعفه. وقال المناوي في "فيض القدير" (3/ 369) متعقباً على السيوطي: "ثم قال -أعني البيهقي -: ولا أصل له من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ الزين العراقي: ومراسيل الحسن عندهم شبه الريح.
وقال المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير"(1/ 492): "وقال المؤلف - يعني - في فتاويه: رفعه وهم، بل عدَّه الحفاظ موضوعاً".
وقال السيوطي في "الدرر المنتثرة"(ص 191 رقم 184): "قد عدَّ الحديث في "الموضوعات"، وذكره ابن تيمية في "أحاديث القصاص" (ص 58 رقم 7) وقال: "هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس له إسناد معروف".
وأورده القاري في "الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة"، "الموضوعات الكبرى" (ص 188 رقم 163) وقال: "القائل بأنه موضوع لم يصرح بإسناده، والأسانيد مختلفة والمرسل حجة عند الجمهور إذا صح إسناده. قلت: المرسل ضعيف عند جماهير المحدثين والشافعي وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول، ولهذا قال ابن المديني: مرسلات إذا رواها عنه الثقات صحاح، وقال الدارقطني: في مراسيله ضعف، فالاعتماد على عماد الإسناد. اهـ
وقد حكم المحدث الألباني على حديث الحسن البصري في "ضعيف الجامع"(3/ 90 رقم 2681) بالضعف، وعندما تكلم على طرقه في "الضعيفة" رقم (1226) حكم عليه بالوضع.
وخلاصة الأمر: أن الحديث مو ضوع، والله أعلم.
(1)
في "الجامع"(4/ 506 رقم 2602).
(2)
في "السنن" رقم (5130) من حديث أبي الدرداء، وهو حديث ضعيف مرفوعاً، صحيح موقوفاً.
وأما أوله وهو قوله: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" فلم يخرجه؛ وإنما ذكره السيوطي في "الجامع الصغير"(1) ونسبه إلى البيهقي (2) عن الحسن مرسلاً. [325/ أ].
وقول المصنف غير صحيح أنه أخرجه أبو داود؛ فإن الذي رأيناه في "سنن أبي داود"(3) إنما هو قوله: "حبك للشيء يعمي ويصم" أخرجه من حديث أبي الدرداء بلفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حبك للشيء يعمي ويصم"، وترجم (4) له أبو داود بقوله:(باب في الهوى) ولم يذكر في الباب إلا هذا اللفظ من الحديث.
وإذا عرفت هذا؛ عرفت أن ابن الأثير فرط حيث بيض له جميعاً. والمصنف فرط حيث نسبه جميعاً إلى أبي داود كما أخطأ في قوله: (أخرجه رزين)، وقال الحافظ المنذري في "مختصر السنة" (5): فيه بقية بن الوليد، وبكير بن عبد الله بن أبي مريم وفي كل منهما مقال.
وروي عن بلال قوله ولم يرفعه؛ قيل: وهو أشبه بالصواب. ويروى من حديث معاوية ولا يثبت. وسئل ثعلب عنه فقال: يعمي العين عن النظر إلى مساوئه، ويُصمُّ الآذان عن استماع العذل فيه، وفائدته النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق فيه. انتهى.
6 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَدْ نَامَ عَلى رِمَالِ حَصِيرٍ وَقَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ. فقُلْتُ: يا رَسُولَ الله، لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً تَجعَلْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الحَصِيرِ يَقِيكَ
(1) رقم (3662).
(2)
في "الشعب" رقم (10501) من مراسيل الحسن مرفوعاً.
وفي "الزهد" رقم (249) من كلام عيسى بن مريم عليه السلام.
(3)
في "السنن"(5130).
(4)
في "السنن"(5/ 347 الباب رقم 125).
(5)
(8/ 31).
مِنْهُ؟ فَقَالَ "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلَاّ كَرَاكبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمّ رَاح وَتَرَكَهَا". أخرجه الترمذي (1) وصححه. [صحيح]
قوله: "في حديث ابن مسعود: على رمال حصير" أي: حصير مضفر، ويقال: رملت [125 ب] الحصير أرمله إذا ضفرته ونسجته (2)، و"الوطا"(3) بكسر الواو ما يوطى عليه الإنسان مما فيه بعض نعومة.
قال ابن الأثير (4) بعد نقله: ولم أجد في كتابه، يريد كتاب الترمذي.
قوله: "وطاء" إلى قوله: "فيه" وهي في كتاب رزين انتهى بلفظه، فما كان يحسن من المصنف نسبته جميعاً إلى الترمذي كما لا يخفى لا سيما وهو ناقل من "الجامع"(5).
7 -
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ". أخرجه الترمذي (6). [صحيح]
(1) في "السنن" رقم (2377)، وهو حديث صحيح.
وأخرجه ابن ماجه رقم (4109).
(2)
قاله ابن الأثير "غريب الجامع"(4/ 507).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث"(2/ 861).
(4)
في "الجامع"(4/ 507).
(5)
(4/ 507).
(6)
في "السنن" رقم (2320) وهو حديث صحيح.
وأخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (10466)، والعقيلي في "الضعفاء"(250)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 253)، وابن عدي في "الكامل"(1/ 249)، والحاكم (4/ 306) من طرق.
قوله: "في حديث سهل: أخرجه الترمذي" قلت: وليس في لفظه "ماء" بل "شربة" فقط، وهكذا في "الجامع" (1) بحذف لفظة:"ماء"، وقال (2): وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. انتهى.
8 -
وعن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحَبَّ الله عَبْدًا حَمَاهُ مِنَ الدُّنْيَا كما يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ المَاءَ". أخرجه الترمذي (3). [صحيح]
قوله: "في حديث قتادة بن النعمان: كما يظل أحدك يحمي سقيمه الماء" أقول: وذلك لأنه تعالى أعلم بما يصلح عباده، فمنهم من لو أعطاه الدنيا لأفسد فيها وضر نفسه، فحماه الله ذلك لتكمل صحة إيمانه، كما يحمي المريض عن الماء لتكمل صحته، وقد أشار الله إلى هذا بقوله:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} (4).
قوله: "أخرجه الترمذي" قلت: وقال (5): "حسن غريب".
9 -
وعن علي رضي الله عنه قال: "ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وإنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنِيْنَ، فَكُونُوا مِنْ أبنَاءِ الآخِرَة، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أبناءِ الدُّنْيَا، فَإِنَ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ". أخرجه رزين.
قلت: وأخرجه البخاري (6) بغير إسناد، والله أعلم.
قوله: "وعن علي رضي الله عنه " أقول: هذا من الخطب العلوية البالغة غاية البلاغة.
(1)(4/ 507).
(2)
الترمذي في "السنن"(4/ 560).
(3)
في "السنن" رقم (2036)، وهو حديث صحيح.
(4)
سورة الشورى: 27.
(5)
في "السنن"(4/ 381).
(6)
في صحيحه (11/ 235 الباب رقم 4 مع الفتح).
قال الحافظ في "فتح الباري"(1): هذا قطعة من أثر لعلي عليه السلام جاء عنه موقوفاً ومرفوعاً وذكر في رواية لابن أبي شيبة (2)، وكذا في "الحلية" (3) لأبي نعيم: أن أوله عن مهاجر بن عمير قال: قال علي: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، إلا وإن الدنيا [126 ب] ارتحلت مدبرة.
قال: ومن كلام علي أخذ بعض الحكماء قوله: "الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، فعجب لمن يقبل على المدبرة ويدبر عن المقبلة".
قوله: "فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل" جعل اليوم نفس العمل، والمحاسبة مبالغة وهو كقولهم:"نهاره صائم" والتقدير في الموضعين: ولا حساب فيه ولا عمل فيه.
(1)(11/ 236).
(2)
ذكره الحافظ في "الفتح"(11/ 236).
(3)
(1/ 76).
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" رقم (49)، وابن المبارك في "الزهد" رقم (255)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (1362)، وهو أثر ضعيف جداً.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 185)، وابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" رقم (4)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (1361) كلهم من طرق عن علي بن علي اللهبي، قال: حدثنا محمَّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله مرفوعاً، ولفظه:"إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، فأما الهوى؛ فيصد عن الحق، وأما طول الأمل؛ فينسي الآخرة، وهذه الدنيا مرتحلة، وهذه الآخرة قادمة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا بني الآخرة، ولا تكونوا من بني الدنيا، فإنكم اليوم في دار العمل، وأنتم غداً في دار جزاء ولا عمل". إسناده ضعيف جداً. اللهبي هذا؛ قال الذهبي في "الميزان": له مناكير، قاله أحمد. وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء.
"الميزان"(3/ 147 رقم 5897 ط: المعرفة). فالحديث لا يصح لا مرفوعاً ولا موقوفاً.