الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه من الاختصار، والحذف والإضمار، والتقديم والتأخير، فمن لم يحكم ظاهر التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية، كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسّر القرآن بالرأي.
فالنقل والسماع لا بدَّ منه في ظاهر التفسير أولًا، ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتَّسع التفهمُّ والاستنباط.
رأي الشاطبي:
يقول الشاطبي: إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيضًا ما يقتضي إعماله. وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق، فإنه نقل عنه أنه قال -وقد سئل في شيء من القرآن "أيُّ سماء تظلُّني، وأيُّ أرض تقلني، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ " وربما روى فيه: إذا قلت في كتاب الله برأيي، ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن، فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. الكلالة كذا وكذا" فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن. وهما لا يجتمعان.
والقول فيه أن الرأي ضربان:
(أحدهما) جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة. فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما؟ لأمور.
1 -
أن الكتاب لا بد من القول فيه، ببيان معنى، واستنباط حكم، وتفسير لفظ، وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير ممكن فلا بد من القول فيه بما يليق.
2 -
أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف، فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول، والمعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه
إلا به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم، فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
3 -
أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا بإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح.
4 -
أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأن النظر في القرآن من جهتين: من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلًا، ومن جهة المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين، وهو باطل، فاللازم عنه مثله. وبالجملة فهو أوضح من إطناب فيه.
(وأما الرأي) غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، كما كان مذمومًا في القياس أيضًا، حسبما هو مذكور في كتاب (1) القياس؛ لأنه تقول على الله بغير برهان، فيرجع إلى الكذب على الله تعالى. وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء، كما روى عن ابن مسعود:(ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم. فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق). وعن عمر بن الخطاب (إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه) وإنما هذا كله توقٍ وتحرزٌ أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم، والقول فيه من غير تثبت، وقد نقل عن الأصمعي -وجلالته في معرفة كلام العرب معلومةٌ- أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله، وإذا سئل عن ذلك لم يجب: انظر الحكاية عنه في الكامل للمبرَّد (2).
(1) راجع المسألة الثانية في القياس من كتاب الأحكام للآمدي.
(2)
الكامل للمبرد (2/ 927)، (3/ 1435).
فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء.
(منها) التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة، فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات:
إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين، كالصحابة والتابعين ومن يليهم. وهؤلاء قالوا مع التقوي والتحفظ، والهيبة والخوف من الهجوم. فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم. وهيهات.
والثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم، فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه.
والثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد، أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض. فهذا أيضًا داخل تحت حكم المنع من القول فيه؛ لأن الأصل عدم العلم، فعند ما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال. وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال. وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين. ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل.
(ومنها) أن من ترك النظر في القرآن، واعتمد في ذلك على من تقدمه، ووكل إليه النظر فيه، غيرُ ملوم، وله في ذلك سعة إلا فيما لا بد له منه وعلى حكم الضرورة، فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس كما هو مذكور في بابه، وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه، وكذلك وجدناهم في القول في القرآن، فإن المحظور فيهما واحد، وهو خوف التقول على الله، بل القول في القرآن أشد؛ فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا، أو عنى كذا بكلامه المنزّل. وهذا عظيم الخطر.
(ومنها) أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد
منه للمتكلم، والقرآن كلام الله، فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد. وإلا فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضًا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم، وإلا فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة. فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمّل - من شاهد يشهد لأصله، وإلا كان باطلًا، ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم والله أعلم (1).
ولقد بحث الكاتبون في التفسير هذه القضية، وأطالوا فيها النفس -سامحهم الله- فلقد أشار إليها الراغب الأصفهاني ومن بعده الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان رحمهم الله جميعًا- ثم ذكرها من المحدثين الشيخ الزرقاني في مناهل العرفان، ثم الشيخ الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون رحمهم الله جميعا- ثم ذكرها من بعدهم، ومن هؤلاء الدكتور إبراهيم خليفة في كتابه الدّخيل في التفسير حيث نقل أقوال أولئك السابقين والمعاصرين، وخلاصة ما قاله هؤلاء الكاتبون: إن العلماء اختلفوا فبعضهم منع التفسير بالرأي، ولم يقبل منه إلا ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ما كان فيه إجماع من الصحابة. وآخرون ذهبوا مذهبًا آخر فأجازوا التفسير بالرأي، إذا كان ناشئًا عن أسس ثابتة ليس للجهل ولا للنحل الفاسدة دخل فيه.
ولقد ذهب كثير من المحدثين منهم الشيخ الزرقاني، والشيخ الذهبي، إلى أن هذا الخلاف لفظي؛ لأن الذين أجازوا التفسير بالرأي، إنما كانوا يقصدون الرأي المحمود، الناشيء عن أسس صحيحة، والذين منعوه كانوا يقصدون الرأي المذموم الناشيء عن الهوى.
وقد تعقبهم صاحب كتاب (الدخيل في التفسير)، وأطال القول ورد عليهم بأن الخلاف ليس لفظيًّا كما ادّعوا، بل هو خلاف حقيقي، والحق مع الشيخين
(1) الموافقات (3/ 421 - 424).