الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من البيان حظًّا وافيًا. وكان بحق كما قال في مقدمته (1)(مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادها). ولست مع هؤلاء الذين يتهمونه بأنه أخذ تفسيره عن الرماني، وما استندوا إليه من أن التفسير المنسوب للرماني للجزء الأخير من القرآن جزء عم، تشبه عبارته، أو تتحد مع عبارات الكشاف، فأنا أشك في نسبة هذا التفسير إلى الرماني. فعم إن الرجل تأثر -ولا شك- به.
الكشاف: للزمخشري:
ولا بد من وقفة مع الكشاف لنرى تذوق الرجل للبيان القرآني الذي ألزم خصومه أن يعترفوا له، لقد كان الزمخشري أول من فرق في التسمية بين علم المعاني وعلم البيان، إذ كانا يعرفان باسم واحد من قبل، كما يظهر ذلك من مقدمته النفيسة الرائعة التي تدل على ما للرجل من قدم راسخة في هذا المضمار، والتي لم يستطع مثل أبي حيان، أن يخفي إعجابه بها وأسرها لفؤاده (2). وإذا قلنا إن الرجل قد طبق نظرية عبد القاهر في الإعجاز فليس معنى هذا أنه مزجى البضاعة مكتسب الصناعة، بل كان تطبيق خبير ناقد، ليس كزًا جاسيًا ولا غليظًا جافيًا، ومع ذلك فلقد كان للرجل زيادات كثيرة يظهر فيها حذقه وبراعته. ويظهر كثير من هذا في أسلوب الفنقلة.
وإذا أردنا أن ندرك جمال الأسلوب وحسن العرض وكشف أسرار النظم، فما لنا إلا أن نقرأ تفسير سورة الفاتحة مثلًا، لنرى ونعلم كيف ترتب آياتها آية تلو آية، كأنما هي البناء الشامخ الذي يلائم نفس الإنسان، ولنبدأ معه في أوائل سورة البقرة لنرى هذا السلك البديع، الذى نظمت فيه تلك الفنقلات جواهر ويواقيت، سواء كان في معنى اسم الإشارة في الآية الكريمة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أم في معنى الاستغلاء وتنكير (هدى)، والإتيان بحرف العطف مع
(1) الكشاف ص 14 طبعة الحلبي 1948.
(2)
مقدمة البحر المحيط ص 9.
تركه في مواضع أخرى، والمجئ لضمير الفصل، وتعريف الخبر. وهكذا نعيش مع الكشاف، ليكشف لنا عن تلك الحقائق البيانية بما لا يدع مزيدًا لمستزيد. فها هو يبين السر الذى قال الله من أجله {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] دون كلمة منها.
والسر البلاغي في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وسر العطف وتركه، في قول الله تعالى:{مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5].
لقد كان الزمخشري معتزليًّا كما نعلم، فبينه وبين الأشاعرة ما لا يخفى، ومع ذلك فلقد كان تفسيره المرجع الذي ينهل منه جميع العلماء وإذا كان ابن المنير الذي نراه يقسو على الزمخشري كثيرًا، قد لاحقه في كل ما كتب، فإنا نرى أن الزمخشري يأبى إلا أن ينتزع منه الاعتراف له بالفضل في مواضع كثيرة أكتفي بذكر موضع واحد، عند تفسير قول الله تعالى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] حيث يقول الزمخشري: فإن قلت الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها.
فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب: شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم، بما يدرك كم طعم المرارة. أما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس. ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس. فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف (1). قال أحمد بن المنيّر وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بِذَوْب التبر لا بالحبر).
(1) تفسير الكشاف (2/ 638).