الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحدة. وهو: أن القرآن قد فسر بالدلالة الأولى، تفسيرًا كافيًا أو أقرب إلى الكفاية بينما لم يفسر بالدلالة الثانية.
نحن أولًا لم نسلم أن هناك دلالتين اثنتين، وعلى فرض صحة ما قاله، فكيف يدعي أن القرآن لم يفسر دستورًا للحياة. أغلب الظن بل اليقين أن الكاتب لم يطلع على ما كتب من تفسير للقرآن. سواء كان تفسيرًا تحليليًا لآيات القرآن وسوره، أم موضوعيًا لموضوعاته المتعددة المتنوعة. أما إذا أراد أن القرآن لم يفسر تفسيرًا حسب النظريات التي يريدها، كتفسير مكسيم رودنسون الذي أشاد به، فهذا صحيح، لم يفسر القرآن مثل هذا، ولن يفسر كذلك، اللهم إلا إذا خلا الوجود من العلماء، الصادعين بالحق القائمين على أمر هذا الدين، ولن تخلو منهم الحياة ما دامت، حتى يأتي أمر الله.
وبعد فتلك أمثلة من الهوى المتبع، والحقد المبطن حينًا، والمكشوف حينًا آخر، دبجتها أقلام مسمومة باسم الغيرة على الدين.
المبحث الرابع نماذج من التفسيرات المنحرفة ومناقشتها
والآن لا بد من أن أضع على مشرحة الفكر وبساط البحث، بعض الكتب التي تتصل بهذا الموضوع ونتائجه.
أ- رسالة الفتح:
هكذا سماها كاتبها، وما هي كذلك، فإنها هراء من القول، وفتح لأبواب من الهزل والسخرية، ولأول وهلة يحكم القارئ على كاتبها بالسقم العقلي والخفة والطيش اللذين يعوزهما أدنى درجات الحكمة والمهارة في العرض والسلامة في المنطق لذا لن أقف عندها كثيرًا، وإنما أشير إشارات خاطفة إلى بعض ما جاء
فيها من هذيان.
فمثلًا: من الصفاقة المضحكة ما يقوله من أن عصابة الماسون بعد الجيل الثالث، حرفوا معاني القرآن، ووضعوا الأشعار، ودونوا الأحاديث المكذوبة، ووضعوا المعجمات وقد بقي هذا الانحراف وتلقته الأمة جيلًا بعد جيل. إذًا الأحاديث مكذوبة! ومعاني الشعر مصطنعة! والمعجمات كلها بنيت على الخطأ والتحريف منذ الأساس! ويلزم من هذا بالطبع، أن معاني الكلمات التي تعارفنا عليها إنما هي من وضع الماسونية! فلو جاء أحد قبل ألف سنة يخاطبنا، ما كنا لنفهم حديثه. فليس معنى (رجل)، هو ما تعارفنا عليه من أنه البالغ أشده من ذكور بني آدم! . وهكذا يقال في (المرآة) و (الكتاب) و (القرآن). هكذا معنى رسالة الفتح. فقد يكون معناها الأساسي مثلًا:(دهاليز التخريف) أو (جهالات أحمق). الكاتب وحده إذًا هو الذي يعرف معاني الكلمات.
وهل يدعي أحد أن معاني اللغة كلها محرفة غير صحيحة، اللهم إلا أن يكون مأفونًا. ثم أليست اللغة، وهي -وسيلة التخاطب بين الناس- قوالب من الألفاظ لها معانيها، وهذه القوالب التي حفظها القرآن وأشعار العرب، لا زالت كما هي فقهًا وبلاغة ووضعًا، وإذا كانت معاني اللغة كلها محرفة غير صحيحة، فليست هناك إذًا حقيقة من الحقائق، إذ لا يمكن أن يثبت شيء.
ويمضي الكاتب في ترهاته التي لا تستدعي الإشفاق عليه إلّا بقدر ما تستدعي الضحك منه، يعرض نماذج من ذلك الجهل المركب، فهو يزعم أن كلمة (بقرة) التي وردت في سورة يوسف، في رؤيا الملك {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف: 43] معناها الطير، ولكنها حرفت في الجيل الثالث، واصطلح الناس على هذا التحريف إلى يومنا هذا. وحجته أن البقر لا يأكل بعضه بعضًا، أما الطير فذلك فيه ممكن أما بقرة بني إسرائيل التي أمروا بذبحها، فهي عنده (دجاجة). هذا العلم الذي وصل للمؤلف أراد أن يبرهن عليه بأن البقر لا يأكل
بعضه، ونسي أنها رؤيا، ولم يهده الله إلى "سورة الأنعام" التي ذكر فيها البقر بجانب الإبل تارة والغنم تارة أخرى، وذلك في قول الله:{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] وقوله في شأن اليهود {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] أفيفسر البقر هنا بالطائر كذلك، وذلك لا يستقيم أبدًا؟ اللهم إلا أن أراد بالإبل الحمام، وبالغنم العصافير، وذلك أمر ليس بعيدًا عنه.
ولم يكتف المؤلف بإنكار حقائق اللغة، بل يتجاوز ذلك إلى إنكار الأشخاص. فهو حينما يذكر الصحاح و (لسان العرب) يقول:(ولمن سموه بابن منظور).
وماذا بقي إذًا، إذا لم يكن هناك حقائق لغوية وتاريخية من السهل أن يدعي كل واحد أنه ليس هناك من يسمى بـ (عمر بن الخطاب) أو (بالرشيد) أو (بقطز) أو (بصلاح الدين).
وكما أنكر اللغة والأشخاص، فإنه أراد كذلك أن يهدم الآثار التاريخية كلها. وذلك حينما زعم أن قبيلة ثمود التي أرسل لها صالح عليه السلام، كانت مساكنهم بلاد النوبة جنوب مصر، وقد ورثهم الفراعنة الذين فجروا الذرة، وشقوا مجرى النيل، مع أن الثابت أن مساكن ثمود كانت في الحجر بين بلاد الشام والحجاز، وثبت أن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، حدث صحابته بذلك وهو في طريقه إلى تبوك، وطلب منهم أن يجدوا في السير. فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين) ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاز الوادي) (1).
(1) فتح الباري جـ 9 ص 189 طبعة الحلبي وكذلك أخرجه مسلم -في كتاب الزهد- والإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جـ 2 ص 9.