الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12]{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [النمل: 86]، ولا يجوز أن تفسر الكلمة في هذه الآيات الكريمات بعدم العمى.
وعلى هذا أرى أن يستبدل بهذه العبارة عبارة أخرى، فبدل أن يقال: ليس كل ما صح لغة صح تفسيرًا، يقال: كل ما لا يجوز لغة لا يجوز تفسيرًا، فهذه العبارة أسلم وهي غير موهمة.
الدعامة الثالثة: السياق
إذا كان المأثور واللغة كلاهما تعتمد فيه صحة التفسير وقبوله أو رده فإن السياق يعيننا كثيرًا على ترجيح القول المقبول والرأى الأصح في تفسير آي الكتاب العزيز، ونعني بالسياق الموضوع الذي تتحدث عنه الآيات الكريمة، أو القضية الكلية التي يعرض لها المقطع القرآني، أو الآية القرآنية، وهذا السياق أمر لا بد منه في الحكم على سبب النزول، أو في تفسير الآية الكريمة، ومن حسن الحظ أن العلماء -رحمهم الله تعالى وجزاهم الله خير الجزاء عن كتابه الكريم- نبهوا على أهمية السياق في تفسير الآيات القرآنية الكريمة وفهمها.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله "أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى"(1).
ويقول ابن القيم: السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]
(1) العدة على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (3/ 372).
كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير (1).
وأذكر هنا بعض الأمثلة التي تبين أهمية السياق في ترجيح المعنى.
1 -
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)} [البقرة: 76].
اختلف أهل التأويل في بيان المقصود من قول القائلين: {قَالوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} ذكر القرطبي قولين فقيل: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ - من العذاب- لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ} ، هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم، وهي رواية عن السدي.
وقيل: إن عليًّا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرَّض له، فقال:"أظنك سمعت شتمي منهم، لو رأوني لكفوا عن ذلك" ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم:"أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته" فقالوا: ما كنت جاهلًا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا، روي هذا المعنى عن مجاهد (2).
وهذان القولان لا ينهضان لمخالفتهما السياق، فالسياق حديث عن إيمان اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعثته التي أخبرت بها التوراة، فالإيمان إذا أطلق قصد به الإيمان ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المقصود من التحديث بما فتح الله عليكم،
(1) بدائع الفوائد (4/ 9).
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 2 ص 2 - 3.
أي: بما أنزله في التوراة من ذكر نعته عليه السلام، فلم يرد للعذاب الذي تعرض له اليهود ذكر، -كما جاءت الرواية عن السدي أنه قال: المقصود من الفتح العذاب الذي ذاقه اليهود، وكما قال مجاهد-، وإنما الفتح: نعت النبي عليه السلام في التوراة، فالآية التي قبل هذه الآية هي قوله تعالى:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهذا يكفي لرد ما قاله السدّي وغيره.
يقول الألوسي: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي: تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله عليه وسلم ونصرته والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سرّ مكتوم وباب مغلق" (1).
2 -
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] اختلف العلماء في تأويل هذه الآية الكريمة، فذهب بعضهم إلى أن المقصود المسجد الأقصى والمانعون النصارى وقال آخرون، بل هو المسجد الحرام، فأهل مكة هم الذين منعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من أن يذكروا الله في المسجد الحرام، وسعوا في خرابه بعبادة الأصنام، وفعل المنكر.
ويذكر الطبري أن أولى التأويلات أن النصارى هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وذلك أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، وأيضًا أن الآية التي قبل قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ولا للمسجد الحرام قبلها
…
فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه
(1) روح المعاني: ح 1/ ص 300.
هو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلًا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك وإن اتفقت قصصها فاشتبهت" (1).
3 -
قوله تعالى {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282].
اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم: ذلك نهي من الله لكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله فيكتب هذا ما لم يملله المملي ويشهد هذا بما لم يستشهده الشهيد، وقال آخرون. معنى ذلك ولا يضار كاتب ولا شهيد بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عتدهما من العلم أو الشهادة.
يقول الطبري بعد أن رجح القول الأول "وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه افعلوا أو لا تفعلوا، إنما هو خطاب لأهل الحقوق، والمكتوب بينهم الكتاب، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب .. فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلًا عنه (2).
4 -
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ} [النساء: 40] ذكر المفسرون أن معنى ذلك: وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وانفقوا مما رزقهم الله فإن الله لا يبخس أحدًا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة مثقال ذرة أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن ولكنه يجازيه به ويثيبه عليه.
(1) الطبري (1/ 397).
(2)
الطبري (3/ 89 - 90).
وذكر آخرون أن المعنى (أن الله لا يظلم عبدًا وجب له مثقال ذرة قبل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه ولكنه يأخذه منه له ويأخذه من كل ظالم لكل مظلوم تبعته قبله {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} بمعنى يضاعف له ثوابها وأجرها {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} والأجر العظيم الجنة، وبعد أن رجح القول الأول قال: وإنما اخترنا التأويل الأول لموافقته الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته، إذ كان في سياق الآية قبلها التي حث الله فيها على النفقة في طاعته وذم النفقة في طاعة الشيطان، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40](1).
5 -
قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] اختلف المفسرون في معنى ذلك: فقال بعضهم وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به يعني بعيسى، قبل موته يعنى قبل موت عيسى، أي إن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة الإسلام.
وقال آخرون: المعنى إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي، وذلك أن كل من نزل به الموت لم تخرج به روحه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.
ويرجح الطبري القول الأول وذلك لما يراه، ثم يقول:"فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم به حجة، فأما الدعاوى فلا تتعذر على أحد"(2).
(1) الطبري (3/ 57، 58).
(2)
الطبري (6/ 15 - 17).
6 -
قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، اختلف المفسرون في قائل ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه رجل من اليهود قال بأن الله تعالى لم ينزل على بشر من شيء يعني من بني إسرائيل، وذهب آخرون إلى أن هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شي، يقول الطبري وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال عنى بذلك وما قدروا الله حق قدره مشركي قريش؛ وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا، فإنّ كون ذلك أيضًا خبرًا عنهم أشبه من أن يكون خبرًا عن اليهود لم يجر لهم ذكر، يكون هذا به متصلًا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعووف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود (1).
7 -
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70] اختلف المفسرون في قوله "إن ذلك على الله يسير" فقال بعضهم معناه "إن الحكم بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة على الله يسير" وقال آخرون بل معنى ذلك أن كتابة القلم الذي أمره الله أن يكتب في اللوح المحفوظ هو كائن على الله يسير يعني هين، وهذا القول الثاني أولى وذلك أن قوله {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} إلى قوله {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} أقرب وهو له مجاور، ومن قوله (الله يحكم بينكم يوم القيامة) متباعد مع دخول قوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} بينهما فإلحاقه بما هو أقرب أولى ما وجد للكلام، وهو كذلك مخرج في التأويل صحيح" (2).
(1) الطبري (7/ 178).
(2)
الطبري (17/ 140).
8 -
قال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39].
اختلف المفسرون كثيرًا في تفسير الآية الكريمة، فهذا هو الإمام الألوسي رضي الله عنه يكتب في تفسيرها ثلاث صفحات من القطع الكبير واالخط الصغير، ويعرض فيها لقضايا كثيرة من علم الكلام، ومن الأمور العينية التي لا يعلمها إلا الله وكثير مما ذكره يحتاج إلى شرح وتوضيح، وهذا هو الإمام الطبري رضي الله عنه ينقل في تفسيرها أقوالًا كثيرة، سأذكرها لك أيها القارئ لتطلع عليها، ليسرها وسهولتها.
قال الإمام الطبري رحمه الله: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: يمحو الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران -ذكر ذلك عن ابن عباس وعن مجاهد- الشقاء والسعادة والموت والحياة لا تغيير فيها.
وقال آخرون: معنى ذلك أن الله يمحو ما يشاء ويثبت من كتاب سوى أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء ذكر ذلك عن ابن عباس بسنده
…
في الآية {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ .. } قال: كتابان، كتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت. وعنده أم الكتاب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد. ذكر من قال ذلك
…
عن الأعمش عن شقيق أنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الله ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. ذكر من قال ذلك عن ابن عباس "يمحو الله ما يشاء" قال: من القرآن يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء، فلا يبدله، وعنده أم الكتاب، يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ،
وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه يمحو من قد حان أجله ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله ذكر من قال ذلك عن الحسن. وعن مجاهد قول الله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ
…
} قالت قريش حين أنزل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر. فأنزلت هذه الآية تخويفًا، ووعيدًا لهم، أنّا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ونحدث في كل رمضان فنمحو ونثبت ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما نعطيهم وما نقسم لهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفر.
وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بتأويل الآية وأشبهها بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن ومجاهد. وذلك أن الله تعالى ذكره، توعد المشركين الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات بالعقوبة وتهددهم بها، وقال لهم:{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} . يعلمهم بذلك ان لقضائه فيهم أجلًا مثبتًا في كتاب هم مؤخرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل ثم قال لهم: فإذا جاء ذلك الأجل يجيء الله بما يشاء ممن قد دنا أجله وانقطع رزقه أو حان هلاكه، أو اتضاعه من رفعة، أو هلاك مال، فيقضي ذلك في خلقه، فذلك محوه، ويثبت ما يشاء ممن بقي أجله ورزقه وكله فيتركه على ما هو عليه فلا يمحو وبهذا المعنى جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما حدثني
…
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يفتح الذكر في ثلاث يبقين من الليل في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ذكر ما في الساعتين الآخرتين (1).
(1)(12/ 114).
{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} اختلف أهل التأويل
…
فقال بعضهم معناه: وعنده الحلال والحرام.
وقال آخرون معناه: وعنده جملة الكتاب وأصله.
وقال آخرون: هو الذكر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: وعنده أصل الكتاب وجملته، وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم عقب ذلك بقوله:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فكان بينًا أن معناه: وعنده أصل المثبت منه والممحو وجملته في كتاب لديه (1).
وما كان أغناهم عن هذه الأقوال الكثيرة! ! فالمتأمل في سياق الآية الكريمة سباقًا ولحاقًا يدرك بكل يسر، ودون عناء أن الآية الكريمة تتحدث عن ثبوت رسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله يمحو ما يشاء من الرسالات السابقة ويثبت غيرها، ونتأمل الآيات الكريمة قبل هذه الآية ابتداء من قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا
…
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
…
} [الرعد: 30 - 45]
فإن المتدبر لهذه الآيات قبل هذه الآية {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وبعدها، لا يرتاب في أن الآية الكريمة المراد بها نسخ الرسالات بعضها بعضًا، وهذه الآية شبيهة بقول الله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} فقد ذهب أبو مسلم بن بحر وتبعه الرازي
(1) ج 12/ ص 115.