الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
آراء الكاتبين في أسباب اختلاف المفسرين
تحدّث العلماء والمفسّرون قديمًا وحديثًا عن أسباب اختلاف المفسّرين في تفسير آي كتاب الله العزيز، وقد أُلّفت في هذا كتب وبحوث خاصّة. ممّن تحدث عن ذلك قديمًا الإمام المفسّر الشهير ابن جزي رحمه الله، ففي مقدمة تفسيره (كتاب التسهيل لعلوم التنريل) وضع مقدمة عقد الباب الخامس منها للحديث عن أسباب الخلاف بين المفسّىرين والوجوه التي يرجح بها بين أقوالهم.
قال رحمه الله: "فأما أسباب الخلاف فهي اثنا عشر:
الأوّل: اختلاف القراءات.
الثاني: اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات.
الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة.
الرابع: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.
الخامس: احتمال العموم والخصوص.
السادس: احتمال الإطلاق أو التقييد.
السابع: احتمال الحقيقة أو المجاز.
الثامن: احتمال الإضمار أو الاستقلال.
التاسع: احتمال الكلمة زائدة.
العاشر: احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير.
الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخًا أو محكمًا.
الثاني عشر: اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف رضي الله عنهم" (1).
(1) التسهيل: 1/ 15.
وأتبع ابن جزي ذلك بذكر وجوهٍ للترجيح عند التعارض وهي عنده اثنا عشر وجهًا كذلك (1).
وقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية بعض أسباب الخلاف وأنواعه في مقدمته في أصول التفسير.
وذكر الطوفي بعض أسباب الخلاف في كتابه "الإكسير في علم التفسير".
وحديثًا ألفت رسائل وكتب مستقلة في هذا الموضوع منها رسالة دكتوراه للدكتور الشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان بعنوان "اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره".
وأفرد الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي مبحثًا خاصًّا لهذا في كتابه "بحوث في أصول التفسير ومناهجه" ومثله الشيخ مساعد بن سليمان الطيار في كتابه "فصول في أصول التفسير"، وأفرد الدكتور محمَّد بن عبد الرحمن بن صالح الشايع كتابًا خاصًّا للموضوع بعنوان "أسباب اختلاف المفسّرين" ذكر فيه عشرين سببًا هي:(2)
1 -
اختلاف القراءات في الآيات: الأصل في القراءات التوافق، وإنما تُعدّ القراءتان المتواترتان كالآيتين عند تعارضهما في المعنى وعدم إمكان حملهما على معنى واحد (3). وقد مثل لهذا السبب بأمثلة منها قوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ففي (اتَّخذوا) قراءتان سبعيتان: واتَخَذوا، بفتح الخاء على المضيّ، و"اتّخِذوا" بكسر الخاء على الأمر، ويستدل بالأولى على سنّيّة الصلاة خلف المقام وبالثانية على وجوبها.
2 -
ما يتعلق بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بلوغًا أو ثبوتًا أو فهمًا ومن أمثلة هذا السبب قوله
(1) التسهيل: 1/ 15 - 16.
(2)
ينظر ص 35 وما بعدها.
(3)
نقلًا عن الدر المصون: 3/ 555.
تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] حيث فُسّر الظلم بالشرك للحديث الشريف الذي أورده الشيخان في تفسير الآية (1).
3 -
احتمال الإحكام أو النسخ: ومن أمثلته قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] حيث قيل إنّها منسوخة بآية الزكاة وقيل إنها محكمة غير منسوخة فإما أنها باقية في صدقة التطوع، وإما أن المقصود بالعفو الزكاة بعينها.
4 -
احتمال العموم أو الخصوص: ومن أمثلته قوله تعالى: {الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. فلفظة الناس الأولى عامّة والمراد بها خاص وهو رجل بعينه أو جماعة بعينها وقد عُرف هذا بالإطلاع على سبب النزول.
5 -
احتمال الإطلاق أو التقييد: ومن أمثلته قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] حيث جاء تقييد ميراث الزوجين في هذه الآية وجاء إطلاقه في غيرها.
6 -
احتمال الحقيقة أو المجاز: ومن أمثلته قوله سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] حيث نقل الكاتب عن أبي حيان ميله إلى حمل هذه الآية ومثيلاتها ممَّا يوهم التجسيم على معانٍ مجازيّة، ثمَّ ردّ ذلك التأويل وضعَّفه.
7 -
احتمال اللفظ تعدد المعاني لا على سبيل الاشتراك: ومن أمثلته قوله تعالى: {وَقَال الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] ساق الكاتب ثلاثة أقوال للمفسّرين في معنى الهجران هي هجر القرآن بالإعراض عنه، أو أن يقولوا فيه هجرًا أي قبيحًا، أو أن يجعلوه هجرًا من الكلام وهو ما لا نفع فيه. ثمّ قرّب المعنى الأوّل وضعّف الثاني والثالث. وهذا من الاختلاف في الروايات وكلّها متقاربة يمكن الجمع بينها.
8 -
إجمال اللفظ: والاختلاف بسبب الإجمال كثيرٌ ومن أمثلته قوله تعالى: {كُلُوا
(1) الحديث في فتح الباري 1/ 87، 8/ 513، ومسلم الشرح النوويّ 2/ 143.
مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
فقد ورد لفظ (الحق) في الآية مجملًا، لذا اختُلف في المقصود به على أقوال، أولها: زكاة الزروع، وثانيها: الصدقة، وثالثها: أن هذا الحق كان مفروضًا قبل الزكاة ثمَّ نُسخ بها.
9 -
الاختلاف في وجوه الإعراب: مثاله قوله تعالى: {قَال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26].
ففي إعراب "أربعين" قولان: الأوّل أنها منصوبة بمحرّمة، وعليه يُوقف على قوله "يتيهون في الأرض" والمعنى أن التحريم والتيه مدّتهما أربعون سنة. والثاني أنها منصوبة بالفعل "يتيهون"، وعليه يُوقف على قوله "محرمة عليهم" والمعنى أن التحريم كان مؤبدًا، وأن التيه كان أربعين سنة. وأشار الكاتب إلى أن المعنى هنا أثر فيه كل من الإعراب والوقف، والحقّ هو العكس فالمعنى هو الذي أثر في الإعراب والوقف.
10 -
الاختلاف في مرجع الضمير: ومثاله قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] فقد اختلف في مرجع الضمير في قوله "فملاقيه" فقيل إنه عائد إلى قوله "كدحًا" وقيل إنّه عائد إلى قوله "ربك". وكلاهما صحيح. والخلاف في مرجع الضمير يعود إلى الخلاف في المعنى لا كما ذكر الكاتب.
11 -
الاشتراك اللفظي: وقد مثّل له بأمثلة للاشتراك في الاسم والفعل والحرف. ومن الأمثلة التي ساقها قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] فالإخفاء ورد في اللفظ بمعنيين متضادّين هما الكتم والإظهار وقد ورد التفسير بكليهما.
12 -
احتمال الكلام التقديم والتأخير، وتقدير إعادة الترتيب: ذكر الكاتب أن السيوطي جعله قسمين:
الأوّل: ما أشكل معناه بحسب الظاهر، فلمّا عرف أنَّه من باب التقديم والتأخير اتّضح. والثاني: ما ليس كذلك، وهو الذي لا يتوقف فهم معناه على تقدير التقديم والتأخير، وإنما لتقديمه أسباب وأسرار، على أن الأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه، فلا يصار إلى القول بالتقديم والتأخير إلا بمحجّة وقرينة.
وقد مثل الكاتب لهذا السبب بأمثلة منها قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] والتقدير: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت. والمواد قبل حضور الموت؛ لأنه إذا حضر موته فهو في شغل شاغل. والحق أن ليس في هذه الآية خلاف بين المفسِّرين وإنما تقديم الشرط على قوله الوصية لحكم بيانية ليس محلّ ذكرها هنا.
13 -
احتمال وجود حذف واحتياج الكلام إلى تقدير محذوف مثاله قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] فقد اختلف في قوله سبحانه: "وأضله الله على علم" بحسب اختلاف التقدير فقيل: على علم من العبد بضلال نفسه، وقيل على علم من الله تعالى بضلال العبد. وهذا يرجع إلى الاختلاف في المعنى لا كما ذكر الكاتب.
14 -
احتمال كون الكلمة صلة في سياق الكلام. وقد أشار الكاتب في الحاشية إلى أن بعض المفسّرين عبروا بأنّها زائدة، لكن تأدّبًا مع القرآن الكريم ودفعًا لسوء الفهم يعبّر بالصلة (1)، ومثل لها الكاتب بأمثلة منها قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76] فقد اختلف في (لا) بين كونها صلةً لتأكيد الكلام وتقويته، وبين كونها نافيةً للقسم نفسه أو
(1) الصلة اصطلاح الكوفيين، والزائد اصطلاح البصريين.
نافيةً لكلام مقدّر، ولكنّ التحقيق أن هذا قسم بدليل قوله تعالى:"وإنه لقسم لو تعلمون عظيم".
15 -
الاختلاف في الاستثناء في نوعه وعَوْده: مثاله قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فقد اختُلف في عَوْد الاستثناء في قوله {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وفي نوعه، فقيل: إنه استثناء متصل مختص بقوله {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} وبناءً عليه يقتضي المعنى تحريم المذكورات إلَّا ما أُدركتْ ذكاته ممّا أكل السبع، وقيل: إنه استثناء منقطع، وبناءً عليه يقتضي المعنى تحريم المذكورات كلها، لكن ما ذكيتم أنتم فهو الذي يحلّ لكم وقيل: إنه استثناء متصل راجع على كل ما يمكن عوده إليه من المذكورات ممّا يمكن ذكاته قبل موته. وهو قول جمهور العلماء وأقول ما دام هذا قول جمهور العلماء فغيره مردود، ثمّ إن هذا ناشيء عن اختلافهم في أصل المسألة، وليس مرده الاستثناء في الآية الكريمة.
16 -
الاختلاف في معاني الحروف: من أمثلته قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] فقد اختلف في تفسيرها للاختلاف في معنى "من" في قوله "منكم" فقيل. المعنى "لجعلنا بدلكم". فتكون "من" هنا للبدلية. وقيل: المعنى: ولو نشاء لقلبنا الخِلقة فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون من ذهب منكم فتكون "من" للتبعيض والحق أن الاختلاف في المعنى هو الذي نشأ عنه الاختلاف في معنى "من" فالإعراب فرع المعنى دائمًا، وليس كما قال الكاتب.
17 -
إغفال دلالة سياق الآية: مثاله قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] فقد ذكر بعض المفسّرين أن الطّلح هو الموز، واعترض بعض أهل اللغة بأن الطّلح عند العرب هو شجر كثير الشوك، وردّ الكاتب اعتراضهم لأنَّ سياق الآيات سياق امتنان.
18 -
التعصب المذهبي: ومن أمثلته قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] أشار الكاتب إلى أن الجصاص استدلّ بالآية على أنَّه يجوز للمرأة أن تعقد على نفسها دون وليّ ولا إذن وليّ.