الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من بديع النظم وعلو شأنه (1).
5 -
وضع الحروف المختلفة: قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر: 13] وفي آية الأنفال: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنفال: 11] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] وفي آية أخرى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] كلتاهما في سورة الفتح (2).
*
احتمال الكلمة أكثر من معنى:
وقد تحتمل الكلمة أكثر من معنى فيجدّ العلماء السير ويجهدون الفكر ليختاروا المعنى الذي هو أليق بالآية الكريمة، فإن هذا القرآن -الذي هو أشرف الألفاظ وأصح المعاني وأحسن النظوم كما قال الخطابي رحمه الله جدير أن نبحث فيه عن المعنى المختار الذي ليس فيه تكلف ولا شطط.
ومن هذا القبيل مثلًا: أن تكون الكلمة دالةً على الاستفهام أو النداء أو الاستفهام والنفي معًا، أو أن تصلح أن تكون اسمًا موصولًا أو حرفا نافيًا، وإليكم أمثلة لذلك كله:
أولًا: قال تعالى في سورة الزمر: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
ذكر ابن هشام رحمه الله في مغني اللبيب أن الهمزة في قول الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} يمكن أن تكون للاستفهام، فيكون المقصود من الآية الكريمة بعد المنزلة ما بين القانتين القائمين وبين غيرهم؛ وذلك كالبعد بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ويمكن أن تكون الهمزة للنداء، أي يا من هو قانت
(1) ينظر تفسير أبي السعود.
(2)
ينظر كتابنا: إعجاز القرآن المجيد.
آناء الليل، فيكون ذلك تشريفًا لهذه الفئة، كما شرفت في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . ولكن الذي نطمئن إليه منسجمًا مع تدبر آي الذكر الحكيم أن الهمزة في الآية الكريمة للاستفهام لا للنداء؛ لأن الهمزة لم تستعمل للنداء في كتاب الله، ومن أراد مزيدًا فليرجع إلى مغني اللبيب في باب الهمزة.
ثانيًا: قال تعالى في سورة القمر: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5] فـ (ما) في قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} يحتمل أن تكون للاستفهام، أي: أيُّ إغناء يمكن أن تغنيه النذر؟ أو أي شيء يمكن أن يفيد منه الكفرة؟ ويمكن أن تكون للنفي، أي لا تغني النذر عن هؤلاء شيئًا، ونحن نعلم أن أسلوب الاستفهام الإنكاري قد يكون أحيانًا أبلغ من أسلوب النفي الصريح، وهذا الذي قرره أئمة البيان والمفسرون.
ثالثًا: قال تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35] اختلف المفسرون في معنى (ما) من قوله (وما عملته)، قال قوم: إنها نافية، والمعنى: أحيينا الأرض وجعلنا فيها جنات، وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من هذا الثمر الذي ليس لهم فيه شيء يذكر، فهو منّة من الله تعالى لم تعمله أيديهم وقال آخرون: إن (ما) في الآية: اسم موصول والمعنى ليأكلوا من هذا الثمر وليأكلوا من الذي عملته أيديهم من غيره والذي يترجح سياقًا ونظمًا المعنى الأول: النفي؛ لأن المقام مقام امتنان وتفضل، فالأليق والألصق بالمعنى ما عرفت وهو أن تكون (ما) نافية لا اسمًا موصولًا.
ومثل هذا في كتاب الله حري أن تُضرب له أكباد الإبل وأن تنفق فيه الأوقات، لأنه خير الزاد وأفضل الأقوات.
رابعًا: من دقة المفسرين رحمهم الله وإجلالهم لكتاب الله تبارك وتعالى، وعنايتهم بتفسيره ليحملوا الآية الكريمة على المعنى الألصق بها حتى لا يكون هناك أي شائبة تعكر على القارئ فهم الآية الكريمة، أقول من دقة المفسرين
-رحمهم الله أنّهم قد يتركون المعنى القريب للكلمة ويبحثون لها عن معنى آخر تعين عليه اللغة. وإليكم هذا المثال.
والمعنى القريب للثمر هو ما تحمله الشجر وبهذا فسره بعض المفسرين لكنّ بعض المحققين لم يرض هذا التفسير؛ لأنه يترتب عليه محظور ينبغي أن نجل القرآن الكريم عنه، بيان ذلك:
أنه جاء في الآية الكريمة {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} والأُكل هنا هو الثمر، فإذا فسرنا الثمر في قوله تعالى {وَكَانَ لَهُ ثَمَر} بما تحمله الشجر، كان ذلك تكرارًا ما عهدناه في أسلوب الكتاب الكريم؛ لذا ذهب بعض المحققين إلى أن معنى الثمر في الآية الكريمة أنواع المال من نقد أو ذهب وفضة وغير ذلك، وهذا أمر لا تنكره اللغة، قال الشهاب الألوسي رحمه الله:
"ثمر: أنواع المال كما في القاموس وغيره، ويقال ثَمَّر إذا تموَّل، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم"(1). جزى الله أئمتنا عن كتاب الله وعنا خير الجزاء.
خامسًا: قال تعالى: {قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18].
سادسًا: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81].
ذهب بعض المفسرين إلى أنّ (إنْ) في الآيتين الكريمتين نافية. فمعنى "إنْ كنتَ ثقيفًا": ما كنتَ تقيًا، ومعنى "إن كان للرحمن ولد": ما كان للرحمن ولد.
(1) روح المعاني (5/ 274).