الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
بعد هذه المسيرة الطيبة التي عطرنا فيها أنفاسنا وألسنتنا، بعد هذا التطواف مع ما بذله المفسرون لتنقية التفسير من كل ما لا يليق بكتاب الله تعالى نستطيع أن نقرر الحقائق التالية:
أولًا: بذل المفسرون كل ما مُنحوه من طاقات، وأنفقوا كلّ ما عندهم من أوقات لتجلية المعنى الذي يتفق مع جلال الآيات الكريمات، والمفسرون ليسوا سواءً، فمنهم المحقق المدقق الذي لا يكتفي بنقل الأقوال وعَدِّها، بل يناقش كل قول ليعرضه على المعقول والمنقول، وهؤلاء قد يذكرون الأقوال الغريبة، من أجل أن يردوها وينبهوا على بطلانها، فمن ذلك مثلا ما نقله بعضهم في تفسير قوله تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27] قالوا إن المقصود بقوله {أَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} النساء، وهذا قول يرده الحق والمنطق كما ترى.
ومن ذلك ما قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: {قَال يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] حيث قال "أم كنت من الملائكة الذين علت أقدارهم، والذين لم يؤمروا بالسجود لآدم، لأن الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم قسم من الملائكة، ولكن هناك قسمًا آخر هم أرفع شأنًا وأعلى منزلة من غيرهم من الملائكة لم يؤمروا بالسجود لآدم.
وقد تجد في طريقك وأنت تقرأ في كتب التفسير ما يشبه هذين القولين، لكنك -والحمد لله- ستجد الردّ الحاسم على مثل هذه الأقوال وما يشبهها مما هو دخيل على التفسير.
ثانيًا: رأينا أن اختلافات المفسرين كلها أو جلَّها ترجع إلى إعمال الرأي ويذل الطاقة والاجتهاد في فهم الآية الكريمة، وقد تذكر أقوال كثيرة تكون كلها محتملة في تفسير الآية، صحيح أن هناك اختلافات ترجع إلى اللغة أو تعدد القراءات المتواترة، لكن هذا القسم قليل إذا قيس مع ما هو ناشيء عن الاختلاف في الرأي والاجتهاد، والأمر الذي ينبغي أن نؤكده هنا أننا لن نجد اختلافًا عند المفسرين يرجع إلى الحديث النبوي الصحيح؛ ذلك لأنه إذا صح الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الممكن أن يناقضه حديث صحيح آخر، حتى ما روي عن الصحابة وصح عنهم فإنه لا يتناقض كذلك، نعم قد تصح أكثر من رواية عن الصحابة أو عن أحد منهم، لكن يمكن الجمع بينها، ففي قول الله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30].
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات والأرض كانتا كتلة واحدة ففتقهما الله تعالى وفصل كل واحدة عن الأخرى، وهناك رواية أخرى عنه أن السماوات كانت رتقًا ففتقها الله بالمطر، وأن الأرض كانت رتقًا ففتقها الله بالنبات.
والروايات الكثيرة التي رويت عن الصحابة والتابعين جُلُّها كان الاختلاف فيها اختلاف تنوع، بمعنى أنه يمكن الجمع بينها كلها، وقد أشرت إلى هذه الحقيقة من قبل.
وهكذا ندرك أن أكثر الاختلاف ناشئ عن الرأي والاجتهاد المبنيين على أسس صحيحة، فليس كل صاحب رأي يقبل رأيه، وليس كل من ادعى الاجتهاد يسمى مجتهدًا، وللشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه في الرسالة كلام عال في هذا الموضوع ولمن بعده من العلماء كذلك.
ثالثًا: ينتج مما تقدم أننا لسنا ملزمين بكل ما جاء في كتب التفسير وأقوال المفسرين.
وليس كل خلاف جاء معتبرًا
…
إلا خلافًا له حظ من النظر
ولذا نجد بعضهم يرد أقوال بعض، فقد يرجح قول كان مرجوحًا عند كثير من المفسرين وقد يفتح الله لمتأخر ما لم يفتح به لمتقدم، فكتاب الله لا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه.
ولقد رأينا فيما قررناه من قبل أن هناك أقوالًا نقلها الأئمة ذوو الشأن كانت غير جديرة بالقبول، مثل تفسيرهم قوله تعالى:{وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] في سورة القلم أي (لم يقولوا إن شاء الله).
رابعًا: قد يعرض لبعض الناس نقبة من فكر تدور بخلده فتشغل فكره أو تزيده حيرة وهي: كيف يختلف الناس في تفسير كتاب الله وهو بيِّن يسره الله للذكر، وأنزله بلسان عربي مبين، أليس هذا الاختلاف ظاهرة غير صحية ولا صحيحة؟ ثم أليس من الأجدى أن تكون الآراء في كتاب الله واحدة، ليس فيها هذا التنازع والتعارض؟
وكي نجيب عن هذا التساؤل إجابة دقيقة، حبذا أن نسترجع ما ذكرنا من أسباب اختلاف المفسرين وأن نسترجع الآيات التي اختلف فيها كذلك وسنجد أن هذا الاختلاف كان أمرًا إيجابيًا فيه ثراء للفكر وإغناء للمعنى، فيه حركة عقلية دؤوب، تفتر لك عن آراء وتكشف لك عن معانٍ وترتفع بك من السطحية، وتسمو بك. يقول البيضاوي "محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر ليظهر منها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها
…
معالي الدرجات" (1). هذه واحدة.
(1) تفسير البيضاوي (1/ 63).
أما الثانية فإننا إذا استعرضنا اختلافات المفسرين وجدناها بعيدة عن الأمور المجمع عليها في العقيدة والأحكام والأخلاق والقضايا المقطوع بها من أمور الكون والتاريخ بل هي خلافات فرعية تَصلح وتُصلح، وقد مرّ معنا آيات كثيرة مما اختلف فيه المفسرون، ليس فيها ما يناقض بعضه بعضًا أولًا، بحيث يدعو بعضها إلى حق وآخر إلى غيره، بل ليس فيها ما ينصر مذهبًا على مذهب من مذاهب الحقّ، إنها اختلافات في أمور مما يختلف فيه ذوو العقول الصحيحة، على أن هناك خطوطًا لا يمكن أن يتجاوزها أحد، إنها اختلافات ذات جدوى فكرية واجتماعية، وكلّ قول يتناقض مع هذه الأساسيات مرفوض مردود؛ لأن القرآن الكريم ليس فيه اختلاف قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فنحمد الله أن جعلنا من أهل القرآن وصلى الله وسلم على نبي الهدى سيدنا محمد الذي أنزل الله عليه القرآن كتابًا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وعلى آله وصحبه والتابعين، وجزى الله أئمتنا الذين أنفقوا ما منحهم الله أوقاتًا وأقواتًا في خدمة هذا الدين كتابًا وسنة، ونسأل الله أن يجعلنا منهم إن ربي قريب مجيب، إن ربي رحيم ودود، إن ربي سميع الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.