الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فليس هؤلاء وحدهم الذين يستحقون العذاب المضاعف، بل أنتم مثلهم كذلك. هذا ما نفهمه من الآية، دون أن نقحمها في متاهات التأويل وغيابات الباطن، ولم يكتف المؤلف بتأويلاته هذه بل نراه هنا يستشهد بكثير من الإسرائيليات ككلام أشعيا في العهد القديم.
وكان ينبغي للمؤلف أن يقف عند ما جاء به القرآن. ولقد وصف الله نفسه بأنه رحيم، وبأنه شديد العقاب. وهذا ينبغي ألا نغفل عنه. أما أن الله لا يعذب، وإن عذب فإنما عذابه رحمة، وأنه أدخل عذابه في نطاق رحمته، في قوله تعالى:{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فذلك من الشطحات التي وددنا للمؤلف أن يتجنبها. فأكثر العمومات التي وردت في القرآن مخصصة، ثم لم لا نكمل الآية فنعرف من يستحق هذه الرحمة {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
الحلال والحرام:
وإذا تركنا ما يتعلق بالعقيدة من مسائل القدر، وقصة الخلق والنعيم والعقاب، وجئنا إلى أحكام الحلال والحرام، وجدنا المؤلف كعادته يشتط ويغرب، ولا يقل ما كتبه هنا خطورة عما كتبه في الفصول السابقة. فهو يؤول الآيات تأويلًا لا يليق بها، فالعقبة في قول الله تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} هي النفس (1)، وقتل النفس الذي جاء على لسان موسى عليه السلام مخاطبًا بني إسرائيل {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] معناها الهزيمة أي فاهزموا أنفسكم وانتصروا عليها (2).
ومثل هذا تعودنا أن نسمعه منه، والآيات من تأملها أدنى تأمل يرد سياقها
(1) ص 89.
(2)
ص 90.
ولفظها هذا التأويل. لكن موطن الخطر ما ذكره في أول هذا الفصل، عند قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] حيث يقول: (لو أخذنا الآية بظاهر حروفها، دون أن يكون جوهر القضية واضحًا في الذهن، فسوف نجد أن الحياة الطبيعية في زمننا - زمن الميني جيب .. والديكولتيه، والجابونيز والصدر العريان، والشعر المرسل، والباروكات الذهب أمر صعب، والسير في شارع مثل عماد الدين أو فؤاد أو سليمان باشا، سيرًا مطابقًا لحروف الآية هو الأمر العسير - ونحن نرى وجهًا فنهتف بالقلب إعجابًا (الله) ونقصد الخالق الذي صوّر وليس المخلوق، فلا تكون هذه النظرة حلالًا فقط .. وإنما تكتب لنا حسنة .. وهي نظرة لا يقدر عليها إلا متصوف عابد. ء وغض البصر ليس فقط غض البصر عما يتعرى من الجسد، وإنما هو غض البصر، عما في يد الناس من مال ونعمة، وهو الحياء والترفع عن النزول بالنفس إلى مواطن الشهوة والحسد والحقد والغيرة) (1).
ومثل هذا القول فضلًا على مخالفته للآيات الصريحة والسنة الصحيحة، فإنه في الحقيقة لا ينسجم مع طبيعة الأشياء، ذلك أن من المعلوم أنه لا بد من اعتبار الوسائل في كل محرم أو واجب، والإسلام حينما حرم النظرة، فإنه لم يأمر الناس بأن يضع كل على وجهه برقعًا، فيتخبط في سيره، ومن هنا جاء التعبير بكلمة (من). إن المجتمع الذي أراده القرآن، هو الذي يمكن أن تحيا في هذه الآية حياة واقعية عملية. وليس هذا القول غريبًا من المؤلف أو بدعًا من الأقوال، فلقد قاله الكثيرون قبله، محاولين أن يوجدوا لأنفسهم المسوّغ الذي يسمح لهم بمثل هذا. وأذكر هنا كلمة لمنصور فهمي (2): (واتجهت حيث يقع بصري على هذا الخلق الفتان، لم أختلس النظرات اختلاسًا، وإنّما رأيت أن أشبعها حسنًا، غير مكترث بما
(1) ص 86 - 88.
(2)
فصول ممتعة ص 15.
قد يأخذني به الناس من تلك النظرات، لأني كنت حينئذ طاهر النية أمام الله، فلا يخجلني أن أتمتع متاعًا ظاهرًا بجمال فتاة لا تكاد تبلغ الرابعة عشرة)، ثم يخاطب قسًا كان يجلس بجانبه، وهو يقرأ كتابًا صامتًا متعبدًا (ليت شعري أي العبادات كانت إلى الله أقرب يا صاحبي القس؟ أعبادة رجل يرى الله في الكتاب؟ أم عبادة من كان يعجب بالمصور الأكبر في صورة بديعة صوّرها)؟ ! .
إنه الاستهتار بالقيم، وإنه الضعف أمام الفتن والمغريات، وإنه الخداع الذي يحاول فيه أحدهم أن يتقمص أكثر من شخصية واحدة، ولكن نقول لمثل هؤلاء: إن الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا ينهى عن الشيء إلا وهو يعلم مغبة ضرره، وما يحدثه من قلق واضطراب داخل النفس وخارجها. إن النظرة سهم من سهام الشيطان، لا بد وأن يفتك بصاحبه، ونحن في واقعنا المشاهد، نرى أنه قد دمرت بيوت، وهدمت أسر، وانتهكت أعراض وحرمات، كل ذلك من جراء نظرة جموح رعناء، ملكت صاحبها فجعلته أسير الشهوة والشر، يسلم زمامه للشيطان. لقد أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن نتجنب كل هذه المزالق {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وهكذا يستمر المؤلف في الفصول اللاحقة، يبتر آية حينًا، ويكثر من نقل الإسرائيليات حينًا، وتارة ثالثة يهرع لتأويلات المتصوفة، مع أنه يعيب على البهائية تأويلهم لآيات القرآن، ويرى أنه لا بد أن يفسر القرآن تفسيرًا، لا يخرج اللفظ عن مدلوله اللغوي، وليته التزم هذا. إن الرجل لا يملك عدة المفسر، مع أننا ندرك من خلال كلماته أنه يحاول الفهم. قال لي قائل وأنا أكتب هذا الفصل: ينبغي أن يشجع مثل هذا، ألا تكفي هذه النقلة العظيمة التي انتقلها من الكفر إلى الإيمان فكفّر عن خطيئته؟ ، قلت: إذا كان الرجل صادق التوبة - وهذا ما أرجوه له، وما اقتنع به - فإنه لا يضره كلمة حق تقال له، بل ينبغي أن برحب بها. ذلك أنه ليس هناك مجاملة على حساب الدين، ورحم الله عمر وقد سجل التاريخ له صلابته في