الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأي صاحب المنار:
فإذا تركنا صاحب روح المعاني إلى المحدثين من المفسرين، وجدناهم يعطون هذه المسألة حظًّا من البحث. فها هو صاحب المنار يعقد فصلًا خاصًّا، عند تفسير آيات الحكم في سورة المائدة، ينقل فيه آراء العلماء وأقوال المفسرين، ثم يقرر ما يلي (1):
أ- أن عبارة الآيات عامة، وأنه إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل الله ناشئًا عن استباحته، وعدم الإذعان له، وتفضيل غيره عليه، فإن المراد بالكفر في الآية الكفر الأكبر، وكذلك الظلم والفسوق.
ب- أن الذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام، من غير تأويل يعتقدون صحته، فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا، غير مذعن له لاستباحته إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه، فهو كافر قطعًا ومن لم يحكم به لعلة أخرى، فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق، أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ. فأكل كافر وكل ظالم فاسق ولا عكس. وحكم الله العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص، وبغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال، هو العدل، فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله.
ج- يبيح للمسلم المستخدم عند الإنجليز، أن يحكم بالقوانين الإنجليزية، وذلك في الإجابة على استفتاء وجهه مفتي البنجاب في الهند للشيخ محمد عبده الذي أحاله إليه. يقول الشيخ رشيد في فتواه: (إن الأحكام المنزلة من الله تعالى، منها ما يتعلق بالدين نفسه، كأحكام العبادات وما في معناها،
(1) تفسير المنار ج 6 ص 403.
كالنكاح والطلاق، وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية، والمنزل من الله تعالى في هذه قليل، وأكثرها موكول إلى الاجتهاد. وأهم المنزل وآكده الحدود في العقوبات، وسائر العقوبات تعزير مفوض إلى اجتهاد الحاكم، والربا في الأحكام المدنية. وقد ورد في السنة النهي عن إقامة الحدود في أرض العدو، وأجاز بعض الأئمة الربا فيها، بل مذهب أبي حنيفة أن جميع العقود الفاسدة جائزة في دار الحرب). ثم يورد أقوال العلماء في مسألة إقامة الحدود في دار الحرب. ويختم فتواه بقوله: (فعلم مما تقدم، أن الأحكام القضائية التي أنزلها الله تعالى قليلة جدًّا، وقد علمت ما قيل في إقامتها في دار الحرب لا سيما عند الحنفية. فإذا كانت الحدود لا تقام هنا، فقد عادت أحكام العقوبات كلها إلى التعزير الذي يفوض إلى اجتهاد الحاكم. والأحكام المدنية أولى بذلك لأنها اجتهاد أيضًا، والنصوص القطعية فيها عن الشارع قليلة جدًّا. وإذا رجعت الأحكام هناك إلى الرأي والاجتهاد في تحري العدل والمصلحة وأجزنا للمسلم أن يكون حاكمًا عند الحربي في بلاده لأجل المسلمين، فالذي يظهر أنه لا بأس من الحكم بقانونه لأجل منفعة المسلمين ومصلحتهم. فإن كان ذلك القانون ضارًا بالمسلمين ظالمًا لهم، فليس له أن يحكم به، ولا أن يتولى العمل لواضعه إعانة له.
وجملة القول أن دار الحرب ليست محلًا لإقامة أحكام الإسلام، ولذلك تجب الهجرة منها إلا لعذر أو مصلحة للمسلمين، يؤمن معها من الفتنة في الدين. وعلى من أقام أن يخدم المسلمين بقدر طاقته، ويقوي أحكام الإسلام بقدر استطاعته، ولا وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين، مثل أعمال الحكومة، ولا سيما إذا كانت الحكومة متساهلة قريبة من العدل، بين جميع الأمم والملل كالحكومة الإنجليزية).