الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغير ذلك مما لو تأملته لوجده فيه كثيرًا ممّا قرره العلماء فيما بعد.
وقد نخالفه في بعض ما قروه هنا، وتفصيل ذلك في مواضع من كتابنا إعجاز القرآن المجيد.
أما مباحث علم البيان فنجد أبا عبيدة في كتاب (مجاز القرآن) يحدثنا في مواضع كثيرة عن الكناية، والتشبيه، والمجاز العقلي، كما نجد حديثه عن الاستعارة في كتابه (النقائض) وإن لم يسمها باسمها، وإنما يعبر بكلمة النقل، ونحن نعلم أن الاستعارة ليست إلّا نقلًا للكلمة من المعنى الذي وُضِعَت إلى معنى آخر.
استمع إليه معلقًا على بيت الفرزدق:
لا قومَ أَكْرَمُ مِن تَميمٍ إذْ غَدتْ
…
عُوذُ النِّساء يُسقْنَ كالآجالِ
"قوله: عوذ النساء: هن اللاتي معهن أولادهن، والأصل في عوذ في الإبل التي معها أولادها، فنقله العرب إلى النساء، وهذا المستعار، وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا".
ذلكم هو أبو عبيدة، ولقد صدق الجاحظ فيما قال عنه وهو بحق كما قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء:(إنه كان لا يفتش عن علم من العلوم إلا كان من يفتشه عنه يظن أنه لا يحسن غيره، ولا يقوم بشيء أجود من قيامه به)(1).
الفراء:
الفراء إمام لغوي اشتهر بالنحو، وكان من نحاة الكوفة، صاحب كتاب (معاني القرآن) ولا نعدم الملحوظات البلاغية في كتابه هذا، كالتقديم والتأخير وغيرهما من مباحث علم المعاني، كما أشار إلى بعض مباحث علم البيان: كالتشبيه والكناية وغيرهما وإن كان يغلب عليه طابع الإعراب ومن المآخذ التي أخذت على الفراء
(1) معجم الأدباء (19/ 155).
عنايته بمراعاة الفاصلة، مقدمًا لها على كل اعتبار، فهو يرى مثلًا في قول الله. {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] أن التثنية إنما جاءت لمراعاة الفاصلة، وإلا فهي جنة واحدة.
وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16].
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيْعُك وخسر بيعُك، فحسن القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21] وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير المحذوف إلا في مثل هذاء فلو قال قائل. قد خسر عبدك، لم يجز ذلك، (إن كنت) تريد أن تجعل العبد تجارةً يُربح فيه أو يُوضَع لأنه قد يكون العبد تاجرًا فيربح أو يُوضَع (1)، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجورًا فيه. فلو قال قائل: قد ربحتْ دراهمُك ودنانيرُك، وخسر بَزُّك ورقيقك، كان جائزًا لدلالة بعضه على بعض.
وقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .. } [البقرة: 17].
فإنما ضرب المثل -والله أعلم- للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مَثَل للنفاق فقال: مثلهم بهمثل الذي استوقد نارًا ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19] وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] فالمعنى -والله أعلم-: إلا كبعث نفس واحدة، ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعًا كما قال:{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] أراد القيم (2) والأجسام، وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ
(1) أوضع في تجارته (بضم الهمزة)، ووضع (كعنى وكوجل) خسر فيها.
(2)
(القيم) جمع قامة أو قيمة: وهي قوام الإنسان وقده وحسن طوله.
خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] فكان مجموعا إذ أراد تشبيه أعيان الرجال فأجرِ الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحِّدًا في شعر فأجزِه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه كقولك. ما فِغلك إلا كفعل الحَمِير، وما أفعالكم إلا كفعل الذِّئب فابن على هذا، ثم تُلْقِي الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحَمِير وكالذِّئب.
وإنما قال الله عز وجل: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وُحِّد لكان صوابًا، كقوله:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 43 - 45](ويغلي فمن أنت ذهب إلى الشجرة، ومن ذَكَّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عز وجل: {أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154] للأمنة، و (يغشى) للنعاس.
وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18].
رُفعن وأسماؤهن في أول الكلام منصوبة لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثم استؤنفت {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في آية أخرى، فكانت أقوى للاستئناف، ولو تم الكلام ولم تكن آية لجاز أيضًا الاستئناف قال الله تبارك وتعالى:{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ: 36 - 37](الرحمن) يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية. فأما ما جاءَ في رؤوس الآيات مستأنفًا فكثير؛ من ذلك قول الله:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ} [التوبة: 111] إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. ثم قال جل وجهه: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} بالرفع في قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود (التائبين العابدين الحامدين). وقال:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الصافات: 125 - 126] يقرأ ونصبه على جهتين؟ ، إن شئت على معنى: تركهم صمًا بكمًا عميًا، وإن شئت اكتفيت بأن توقع الترك عليهم
في الظلمات، ثم تستأنف (صمًا) بالذم لهم.
والعرب تنصب بالذم وبالمدح لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: ويلًا له، وثوابًا له، وبُعدًا وسقيًا ورَعيًا.
وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ .. } [البقرة: 19].
مردود على قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . {أَوْ كَصَيِّبٍ} أو كمثل صيب، فاستغنى بذكر {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} فطُرح ما كان ينبغي أن يكون مع الصيب من الأسماء، ودل عليه المعنى، لأن المثل ضُرب للنفاق، فقال:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} فشبّه الظلمات (1) بكفرهم، والبرق إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم، والوعد ما أتى في القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر قيل: إن الرعد إنما ذُكر مثلا لخوفهم من القتال إذا دُعوا إليه. ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر. {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] أي يظنون أنهم أبدًا مغلوبون.
ثم قال: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} فنصب (حذر) على غير وقوع من الفعل عليه لم ترد يجعلونها حذرًا، إنما هو كقولك: أعطيت خوفًا وفَرَقًا. فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز:{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] وكقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] والمعرفة والنكرة تفسِّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح (من)(2)، وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.
(1) الأولى عكس التشبيه، فالكفر مشبه بالظلمات، والإيمان مشبه بالبرق.
(2)
يريد أنه قد يقرب المفعول لأجله للمبتدئ.
وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] على وجه التعجب، والتوبيخ لا على الاستفهام المحض أي ولحكم كيف تكفرون وهو كقوله. {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} المعنى -والله أعلم- وقد كنتم ولولا إضمار (قد) لم يجز مثله في الكلام. ألا ترى أنه قد قال في سورة يوسف {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27]. والمعنى والله أعلم فقد كذبت، وقولك للرجل: (أصبحت كثر مالك لا يجوز إلا وأنت تريد: قد كثر مالك، لأنهما جميعًا قد كانا، فالثاني حال للأول، والحال لا تكون إلا بإضمار قد أو بإظهارها.
وقوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَال} [البقرة: 67] وهذا في القرآن كثير بغير الفاء وذلك لأنه جواب يستغني أوله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال ماذا قال لك، فيقول القائل: قال كذا وكذا، فكأن حسن السكوت يجوز به طرح الفاء وأنت تراه في رؤوس الآيات، -لأنها فصول- حسنا.
وقوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81].
وضعت (بلى) لكل إقرار في أوله جحد، ووضعت نعم للاستفهام الذي لا جحد فيه، فـ (بلى) بمنزلة (نعم)، إلا أنها لا تكون إلا لما في أوله جحد قال الله تبارك وتعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] فـ (بلى) لا تصلح في هذا الموضع، وأما الجحد فقوله:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا} [الملك: 8 - 9] ولا تصلح ها هنا نعم أداة، وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب بـ (نعم) و (لا) ما لم يكن فيه جحد، فإذا دخل الجحد في الاستفهام لم يستقم أن تقول فيه (نعم) فتكون كأنك مقر بالجحد وبالفعل الذي بعده، ألا ترى أنك لو قلت لقائل قال لك: أمالك مال: فلو قلت نعم كنت مقرًا بالكلمة بطرح الاستفهام، وحده كأنك قلت: نعم مالي مال، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرأوا بما بعده فاختاروا (بلى) لأن أصله كان رجوعًا محضًا عن الجحد إذا قالوا ما قال عبد الله بل
زيد، فكانت (بل) كلمة عطف ورجوع لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفًا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعًا عن الجحد فقط، وإقرارًا بالفعل الذي بعد الجحد، فقالوا (بلى) فدلت على معنى الإقرار والأنعام، ودل لفظ (بلى) على الوجوع عن الجحد فقط.
وقوله، {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا} [التوبة: 54].
(أنهم) في موضع رفع لأنه اسم للمنع كأنك قلت: ما منعهم أن تقبل منهم إلا ذاك. و (أن) الأولى في موضع نصب (1). وليست بمنزلة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} [الفرقان: 20] هذه فيها واو مضمرة، وهي مستأنفة (2) ليس لها موضع. ولو لم يكن في جوابها اللام لكانت أيضًا مكسورة كما تقول: ما رأيت مسهم رجلًا إلا إنه ليُحسِن، وإلا إنه يحسن. يعرِّف أنها مستأنفة أن تضع (هو) في موضعها فتصبح وذلك قولك: ما رأيت منهم رجلًا إلا هو يفعل ذلك. فدلّت (هو) على استئناف إنّ.
وقوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55].
معناه: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا. هذا معناه، ولكنه أخِّر ومعناه التقديم -والله أعلم- لأنه إنما أراد: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم هي الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقوله. {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي تخرج أنفسهم وهم كفار. ولو جعلت الحياة الدنيا مؤخرة (3) وأردت: إنما يريد الله ليعذبهم بالإنفاق كرها ليعذبهم بذلك في الدنيا، لكان وجهًا حسنًا.
(1) إذًا المصدر المؤول فيها مفعول ثان لمنع.
(2)
يريد أنها في صدر جملة وليست في موضع المفرد. وجملتها في موضع النصب لأنها حال.
(3)
أي غير منوي تقديمها، كما في الرأي السابق.
وقوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ} [التوبة: 57].
وهي الغيران واحدها غار في الجبال {أَوْ مُدَّخَلًا} يريد: سربا في الأرض.
{لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} مسرعين الجمح ها هنا: الإسراع.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58].
يقول: يعيبك، ويقولون: لا يقسم بالسوية.
{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} فلم يعيبوا.
ثم إن الله تبارك وتعالى بيَّن لهم من الصدقات.
فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60].
وهم أهل صُفَّة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا لا عشائر لهم، كانوا يلتمسون الفضل بالنهار، ثم يأوون إلى مسجد وسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الفقراء.
{وَالْمَسَاكِينِ} : الطوافين على الأبواب {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم أشراف العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم ليجتر به إسلام قومهم.
{وَفِي الرِّقَابِ} يعني المكاتبين {وَالْغَارِمِينَ} : أصحاب الدين الذين ركبهم في غير إفساد.
وقوله: {الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22].
قراءة العامة. وقد ذكر عن زيد بن ثابت (ينشركم) قرأها أبو جعفر المدني (2) كذلك. وكل صواب إن شاء الله.
(1) هي موضع مظلل من المسجد.
(2)
وكذلك ابن عامر.
وقوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} يعني الفُلك فقال: جاءتها، وقد قال في أول الكلام {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} ولم يقل: وجرت، وكل صوب، تقول. النساء قد ذهبت، وذهبن. والفلك تؤنث وتذكر، وتكون واحدة وتكون جمعًا. وقال في سورة يس {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] فذكر الفلك، وقال ها هنا: جاءتها، فأنث. فإن شئت جعلتها ها هنا واحدة، وإن شئت: جماعًا، وإن شئت جعلت الهاء في (جاءتها) للريح كانك قلت: جاءت الريح الطيبة ريح عاصف. والله أعلم بصوابه. والعرب تقول: عاصف وعاصفة، وقد أعصفت الريح، وعصفت وبالأنف لغة لبني أسد أنشدني بعض بني دبير:
حتى إذا عصفت ريح مزعزعة
…
فيها قطار ورعد صوته زجل (1)
وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23].
إن شئت جعلت خبر (البغي) في قوله (على أنفسكم) ثم تنصب (2)(متاع الحياة الدنيا) كقولك: متعة في الحياة الدنيا. ولصلح الوفع ها هنا على الاستئناف كما قال (3){لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ} [الأحقاف: 35] أي ذلك (بلاغ) وذلك (متاع الحياة الدنيا) وإن شئت جعلت الخبر في المتاع. وهو وجه الكلام.
وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26].
في موضع رفع. يقال إن الحسنى الحسنة. (وزيادة) حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني أبو الأحوص سلام بن سليم (4) عن أيي إسحاق السبيعي عن رجل عن أبي بكر الصديق رحمه الله قال: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة: النظر إلى وجه
(1) مزعزعة: شديدة تحريك الأشجار: وقطار جمع قطر، يريد: ما قطر وسال من المطر. وزجل: مصوت.
(2)
وهي قراءة حفص وابن أبي إسحاق.
(3)
وهي قراءة العامة غير حفص.
(4)
هو الكوفي أحد الأثبات الثقات. توفي سنة 179 كما في شذرات الذهب.
الرب تبارك وتعالى. ويقال: (للذين أحسنوا الحسنى) يريد حسنة مثل حسناتهم (وزيادة) زيادة التضعيف كقوله: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
وقوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27].
رفعت الجزاء بإضمار (لهم) كأنك قلت: فلهم جزاء السيئة بمثلها كما قال {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} و {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} والمعنى. فعليه صيام ثلاثة أيام، وعليه فدية. وإن شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله. {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} والأول أعحب إلي.
وقوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا} (قِطْعًا)(1). والقطع قراءة العامة. وهي في مصحف أبي (كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم) فهذه حجة لمن قرأ بالتخفيف. وإن شئت جعلت المظلم وأنت تقول قِطْع قطعًا (2) من الليل، وإن شئت جعلت المظلم نعتا للقطع، فإذا قلت قطعا كان قطعا من الليل خاصة، والقطع ظلمة آخر الليل {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81].
وقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28].
ليست من زُلت إنما هي من زلت ذا من ذا: إذا فرّقت أنت ذا من ذا، وقال (فزيلنا) لكثرة الفعل. ولو قَلَّ لقلت: زِلْ ذا من ذا كقولك: مِزْ ذا من ذا. وقرأ بعضهم (فزايلنا بينهم) وهو مثل قوله: (يراءون ويرُّءون)(3)(ولا تصعر ولا تصاعر)(4) والعرب تكاد توفق بين فاعلت وفعّلت في كثير من الكلام، ما لم ترد
(1) هذه قراءة ابن كثير والكسائي ويعقوب.
(2)
يريد أن يكون المظلم حالًا الليل، وكذا في الوجه الآتي في المتحرك. ولو كان (نعتا) كان أظهر، ويكون المراد بالنعت الحال.
(3)
[النساء: 142]. وقد قرأ بتشديد الهمزة ابن أبي إسحاق.
(4)
[لقمان: 18]. قرأ نافع وأبو عمرو والكسائي وخلف "تصاعر" الباقون "تصعر".