الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن فضل الله علينا أنَّه ليست هناك روايات في التفسير تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بينها تعارض.
ثانيًا: الاختلاف بسبب تعدد القراءات
(1):
ما كان منشأ الاختلاف فيه القراءات الصحيحة مقبول قطعًا؛ لأنه إما أن يمكن الجمع بين هذه القراءات من حيث المعنى وهو كثير، وإن لم يمكن الجمع فلا يكون ثمّ تناقض بين هذه التفاسير، فمن ذلك مثلًا:
1 -
الاختلاف في قوله تعالى. {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] "حيث ورد (آدم) فاعلًا في بعض القراءات، و (كلمات) فاعلًا في قراءة أخرى.
2 -
ومن ذلك اختلاف القراءات في قوله سبحانه {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] في سورة الأعراف، حيث قرأها عاصم بالباء، والباقون بالنون، إلا أن منهم من ضم النون والشين معًا (نُشُرا)، ومنهم من ضم النون وسكّن الشين (نُشْرا) ومنهم من فتح النون وسكّن الشين (نَشْرا)، ونحن نعلم أن قراءة الباء تختلف من حيث المعنى عن قراءة النون.
3 -
ومنه ما ورد في أول سورة البقرة في قوله سبحانه {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] و {وما يخادعون إلا أنفسهم} وفي الآية {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] من الكذب أو {يُكَذِّبُونَ} من التكذيب.
4 -
ومنه قوله سبحانه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] بالضاد المعجمة أي ببخيل وفي قراءة "بظنين" بالظاء المعجمة أي بمتَّهم، ومثل هذا كثير.
5 -
وهناك اختلاف قد يدِقُّ توجيهُه. من ذلك ما جاء في قول الله تعالى: {وَقَدْ
(1) الخلاف المعتبر في القراءات إنما هو في القراءات الصحيحة المواترة لا في غيرها. وتَعْلمُ من هذا أنّ استدلال بعض الكاتبين بقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} برفع العمرة على الابتداء كلام غير سديد لأنَّ هذه قراءة شاذّة.
مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال} [إبراهيم: 46] فهناك قراءة بنصب الفعل المضارع "تزولَ" وهناك قراءة برفعِه. والتوجيه الإعرابي للقراءة الأولى أن تكون (إنْ) نافية بمعنى (ما) والمعنى "ما كان مكرُهم ليزيلَ الجبال" فهو تهوينٌ من شأن مكرهم، فـ"إنْ" نافية واللام هي لام الجحود التي يُنْصب بعدها الفعل المضارع. وأما القراءة الثانية "لَتزولُ" بفتح اللام ورفع الفعل فتوجيهها إعرابيًا أنّ (إن) مخفّفة من الثقيلة تفيد التوكيد، واللام في (لتزول) هي الفارقة بين (إنْ) النافية و (إنْ) المخفّفة، والمعنى (إنَّ مكرهم يزيل الجبال لشدته" فهو ليس تهوينًا كما في القراءة الأولى، بل هو تهويل لمكرهم، فهما معنيان لا يمكن الجمع بينهما، لذلك حمل العلماء الجبال في القراءة الأولى التي هوّنت مكرهم على المجاز، وحملوا الجبال في القراءة الثانية على الحقيقة. والمعنى على الأولى "ما كان مكرهم ليزيل الإيمان الراسخ من قلوبكم ويزحزح قلوبكم عن الإيمان، فالإيمان راسخ كالجبال، لا يستطيعون بمكرهم إزالته وقد ثبت هذا تاريخيًا.
ويكون المعنى على القراءة الثانية وإن مكرهم لشدته يزيل الجبال الراسيات.
6 -
ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
قرأ الكوفيون: كذبوا بالتخفيف، وقرأ الباقون كذبوا بالتشديد، وقد اشتهر الخلاف بين السيدة عائشة وابن عباس رضي الله عنهم حول هذه الآية الكريمة، ومعنى قراءة التشديد أن الرسل استيأسوا وأيقنوا أن المرسل إليهم قد كذبوهم، فالضمير في (كذِّبوا) للرسل، وترى السيدة عائشة رضي الله عنها أن معنى قوله {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} أي أيقن الرسل أن اتباعهم الذين آمنوا بهم قد كذبوهم لما تأخر النصر.
أما قراءة التخفيف فلها توجيهان:
أحدهما: أن الظن بمعنى التوهم وحديث النفس، والمعنى أن الرسل لما طال انتظارهم توهموا وحدثتهم أنفسهم أنهم كذبوا وأخلفوا، ويؤيد هذا ما في الآية الأخرى في سورة البقرة قولهم {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214].
وثانيهما: هو أن أتباع الرسل هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبوا. وقد روي هذا عن سعيد بن جبير كذلك فعلى الأوّل ضمير ظنوا يرجع إلى الرسل، وعلى الثاني إلى المرسل إليهم ويكون الظن على الأوّل التوهم وحديث النفس كما قلنا. أما على الثاني فيكون الظن على حقيقته أو بمعنى اليقين.
وحجة السيدة عائشة أن الرسل لا يمكن أن يكون منهم ذلك فقالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها" (1) وحجة ابن عباس: أنهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر من الشك.
والذي يبدو لنا أن كلا من القراءتين ترشد المسلمين وتوجههم وهم يحملون لواء الدعوة إلى الله، فالقراءة الأولى تبيّن لهم إذا تيقنوا من إعراض المدعوين ويئسوا من إيمانهم، فحري بهم أن يطمئنوا لنصر الله سبحانه {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]، ومنها قوله سبحانه:{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ: 45].
أما القراءة الثانية فإنها تبيّن للمسلمين أن ما يكون من خطرات النفس وهواجسها بسبب تأخر النصر لا ينبغي أن يفل عزائمهم أو أن يضعف إرادتهم، فهواجس النفس ووساوس الشيطان لا تنقطع ولكن ينبغي أن يكونوا منها على حذر.
قراءة التشديد تعلمنا أن لا نيأس، وقراءة التخفيف ترشدنا أن نتغلب على
(1) الكشف في القراءات: مكي بن أبي طالب: 2/ 16.
الوساوس والهواجس وخطرات النفوس، فلكل قراءة وجهة حري بالدعاة إلى الله أن يحسبوا لها حسابًا وهم يقارعون الباطل والشر {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] والرسل سادة المتقين.
7 -
وهناك مثال آخر في الاختلاف في القراءات، هذه القراءة أعمل العلماء فيها أفكارهم وأكدّوا فيها أذهانهم بل كُتبت فيها الرسائل الكثيرة وكانت بحقٍّ مثالًا يدلّ على عناية أئمتنا بهذا الكتاب الكريم. تلكم هي الآية الكريمة في سورة هود عليه السلام {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81].
فقراءة ابن كثير وأبي عمرو "امرأتُك" بضم التاء، وباقي السبعة بفتحها "امرأتَك".
والتوجيه الإعرابي يسهُل لكلّ من هاتين القراءتين، فيمكن أن تكون قراءة الرفع على البدلية من "أحدٌ" وقراءة النصب على الاستثناء. وهي قضية خلافية بين النحويين فمثل هذا النمط من الاستثناء يجريه بعض النحاة على البدلية ويعضُهم على الاستثناء. ومثله قوله سبحانه {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] وفي قراءة "إلَّا قليلًا". وهناك توجيه آخر لقراءة النصب وهو أن قوله تعالى "إلا امرأتَك" ليس استثناءً من "أحد" بل هو استثناء من قوله سبحانه "بأهلك" فالمعنى على قراءة الرفع أن امرأته سَرَت معهم لكنها التفتت فأصابها ما أصاب قومها.
والمعنى على قراءة النصب أن امرأته لم تسرِ معهم فأصابها ما أصاب قومها وهي على مكانها، فالمعنى هنا "فأسر بأهلك إلَّا امرأتَك" أي إنه لم يؤمر باصطحابها. هذان توجيهان لقراءة النصب على كون الاستثناء متصلًا، أحدهما أنَّه استثناء من قوله تعالى "أحد" والآخر أنَّه استثناء من قوله تعالى:"بأهلك"
أمَّا التوجيه الثالث لقراءة النصب فهو أن الاستثناء منقطع وعليه يكون المعنى "ولا يلتفتْ منكم أحدٌ لكن امرأتَك" فكأنّها ليست من أهله.
إنَّ التوجيه الإعرابي ليس فيه إشكال لدى العلماء، ولكن الإشكال فيما يتصل بالمعنى، فقد ذكر الزمخشري أنّ هناك روايتين في التفسير إحداهما جاء فيها أنّ امرأته قد سَرَت معهم فالتفتت وهذه الرواية تؤيد قراءة الرفع، والرواية الأخرى أن امرأته لم تسرِ معهم وهذا يؤيد قراءة النصب.
قال الزمخشري رحمه الله: "قرئ "فأسرِ" بالقطع والوصل، و"إلا امرأتك" بالرفع والنصب. . . فإنْ قلتَ: ما وجه قراءة من قرأ "إلا امرأتَك" بالنصب؟ قلت: استثناها من قوله "فأسر بأهلك" والدليل عليه قراءة عبد الله: "فأسرِ بأهلك بقطعٍ من الليل إلا امرأتَك" ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل، أعني قراءة من قرأ بالرفع، فأبدلها عن أحد وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنَّه أخرجها معهم، وأُمر أنْ لا يلتفت منهم أحد إلَّا هي، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها. ورُوي أنَّه أُمر بأن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم، فلم يسرِ بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين"(1).
لكن الذي قاله الزمخشري كان مثار نقاشٍ حادّ بين العلماء، فقد ردّه كثيرٌ من علماء اللغة والأصول والتفسير. ومن هؤلاء الشيخ ابن الحاجب.
قالوا: إنَّ القراءتين متواترتان، أما الروايتان فلا شكّ أن إحداهما غير صحيحة لأنَّ امرأة لوط إمّا أن تكون قد خرجت معهم فأسري بها، أو لم تخرج معهم ولم يُسْرَ بها، وإن كنّا لا نستطيع أن نجمع بين الروايتَيْن ويجب أن نردّ إحداهما فلا يجوز أن نفسّر بهما القراءتين المتواترتَيْن. هذه خلاصة ما
(1) الكشاف: 2/ 416.
اعترضوا به عليه. ولكنّ الأمر لم يقف عند هذا الحدّ، فقد رأينا من تصدّى للدفاع عن الزمخشري قال السمين رحمه الله قد أطال الكلام في هذه القضيّة - بعد أن نقل عبارة الزمخشري السابقة:
"قال الشيخ (1): "وهذا وهم فاحش، إذ بني القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سَرى بها أو لم يَسْر بها، وهذا تكاذُبٌ في الإخبار يستحيل أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التكاذب".
قلتُ: وحاشَ لله أن تترتب القراءتان على التكاذب، ولكن ما قاله الزمخشري صحيح. الفرض أنَّه قد جاء في التفسير القولان، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ، لأنَّ من قال إنه سَرى بها يعني أنها سَرَتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر، ثمَّ أخذها العذاب فانقطع سراها، ومن قال إنه لم يسرِ بها، أي: لم يأمرها ولم يأخذها وأنه لم يَدُم سُراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يُقال: إنه سرى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب الناس بهذا، وهو حَسَن" (2).
وممن جوَّد النقل في هذه المسألة وأطال النَفَس خاتمة المحققين الشهاب الألوسي رحمه الله فقد أجاد وذكر ما يشبع ويشفي الغلّة فليراجعه من شاء حيث كتب في ذلك عدة صفحات من القطع الكبير قال بعد أن ذكر كلام الزمخشري:
"نعم. يردُ على قوله: (واختلافُ القراءتين لاختلاف الروايتين) أنَّه يلزم الشكّ في كلام لا ريب فيه من رب العالمين. ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول: السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلًا له. ولم يُرِدْ أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد
(1) يعني أبا حبَّان الأندلسي. انظر تفسيره البحر المحيط: 5/ 248.
(2)
الدرّ المصون: 6/ 368 - 369.