الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجّح المعنى الأوّل لكنه دافع دفاعًا قويًّا عن قول مجاهد، وأقام في دفاعه هذا الأدلة والبراهين.
وسامح الله شيخ المفسّرين الطبري، فما كان لمثله أن يقبل هذا القول فضلًا عن أن يتبنّاه ويدافع عنه.
ومن ذلك ما ذهب إليه ابن جرير الطبري رحمه الله عند تفسير قوله سبحانه {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] في سورة الأحزاب، حيث فسّر الآية بما يتعارض مع القرآن الكريم أولًا، وبما لا يليق بمقام النبوة ثانيًا. وسامح الله الإمام الطبري وغفر له.
*
ليس كل ما اشتهر في التفسير جديرًا بالقبول:
ليس كل قول اشتهر عند الناس في التفسير حريًّا بأن يُقبل، فضلًا على أن تكون له الصدارة، وفيما يلي بيان ذلك:
أولًا: من ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
المودة في القربى، المشتهر عند الناس أن هذه الآية نزلت في فضل أهل البيت عليهم السلام، ولكن الإمام الطبري - وقد ذكر هذا القول - ذكر معه قولين آخرين، هما:
1 -
إلَّا أن تودّوني في قرابتي منكم أي تراعوا ما بيننا من رحم القرابة.
2 -
أن تصلوا أرحامكم فيما بينكم، ولقد عدّ الإمام الطبري القول الأوّل مرجوحًا غير راجح واستند في قوله إلى اللغة، حيث قال ما خلاصته: لو كان القول الأوّل هو الراجح ما دخلت كلمة (في) بل كان النظم خاليًا منها هكذا "إلّا مودّة القربى" فتكون (أل) عوضًا عن الإضافة أي "إلَّا مودّة قرابتي أو قرابتكم" لذلك ضعّف القول الأوّل.
ثانيًا: قال تعالى في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] فالمشتهر عند أكثر المفسرين أنّ الشاهد هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه. لكنّ مسروقًا رحمه الله وهو من أئمة التابعين يقسم أن هذه الآية لم تنزل في عبد الله بن سلام؛ لأنَّ عبد الله بن سلام أسلم بعد الهجرة، وسورة الأحقاف مكيّة باتفاق. وقد نصر ابن جرير الطبري هذا القول واستدلّ له بالسياق كذلك وهو أنّ ما قبل هذه الآية لم يكن فيه ذكر لأهل الكتاب.
فمعنى الآية إذن: أخبروني إنْ كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم أنتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل وهو كليم الله موسى بن عمران على مثله أي شهد على مِثْلِ القرآن وبشَّرَ بالقرآن فآمن به قبل أن ينزل واستكبرتم أنتم ولكنّ ابن جرير الطبري - سامحه الله - بعد أن نَصَرَ هذا القول من حيث التاريخ والسياق عاد ليسوِّغ قبول القول الآخر وهو أن الشاهد عبد الله بن سلام، بحجة أن هذا هو الذي روي عن الصحابة سامح الله ابن جرير الطبري ورحمه ورضي عنه، فليته بقي على تمسّكه بالقول الذي أقام له الحجّة.
ثالثًا: قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 10: 14].
فالمشتهر عند المفسّرين أنّ معنى (زنيم) الدّعيّ أي ابن الزنا. وعلى الرغم من اشتهار هذا القول إلَّا أنَّه حريّ به أن يردّ وذلك لما يلي:
1 -
لأنَّ كلمة (زنيم) لها في اللغة معانٍ كثيرة: منها الجاف الفظّ.
2 -
إنّ القرآن الكريم - وهو كتاب الأدب والحياة - لا يذكر مثل هذه الصفة، بل إنّ المتفق عليه عند الأئمة منذ عهد النبوة هو عدم التفرقة من حيث الحقوق والواجبات بين ابن الزنا وغيره.
وقد قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].
رابعًا: قال تعالى: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] ذكر أكثر المفسّرين أن الشيخ الكبير هو شعيب صلى الله عليه وسلم وهذا قول يصعب أن يقام عليه دليل فلو كان الشيخ الكبير شعيبًا لنوّه القرآن أو أشار إلى شيء من ذلك. ولهذه المسألة موضع آخر (1).
خامسًا: قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] المشتهر في تفسير هذه الآية أنها تدل على نزول المسيح عليه السلام.
ومع أن هذا القول قد رجحه الإمام الطبري، إلا أن ما يرجحه كثير من المفسرن - ونميل إلى هذا الترجيح - أن الضمير في قوله تعالى:{قبل موته} لا يرجع إلى المسيح عيسى عليه السلام، بل إلى الكتابيّ نفسه أي وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام إيمانًا صحيحًا، أي يؤمن بأنه رسول ليس إلهًا، (قبل موته) أي قبل موت هذا الكتابي، وذلك لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الإنسان عند موته يرى منزلته، أمن أهل النار هو أم من أهل الجنة؟ وسيدرك في هذه اللحظة أن المسيح إنما هو رسول من رسل الله، فمعنى الآية إذن: كل واحد من أهل الكتاب سيعرف حقيقة المسيح عليه الصلاة والسلام عندما تحضره الوفاة.
سادسًا: قال تعالى في سورة طه: {قَال فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ (95) قَال بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 95 - 96].
(1) ينظر التفصيل في "قصص القرآن الكريم" للمؤلف.
المشتهر عند المفسرين في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين قصّة نسجت حولها كثير من الحكايات، خلاصتها: أنّ السامريّ رأى جبريل وهو نازل من السماء فنظر موضع قدم فرسه، فقبض قبضة من هذا التراب الذي مسّه قدم فرسه فوضعه مع الحليّ في النار، فكان منه هذا العجل، لأنَّ ما مسته قدم فرس الرسول يكون فيه حياة، فالرسول في الآية الكريمة جبريل.
وهذه القصة الغريبة لم يرد فيها أثر صحيح من السنة المطهرة، فلا تزيد على أن تكون من أخبار القصاص، على أن الشهاب الألوسي رحمه الله دافع عن هذا القول دفاعًا كثيرًا.
وهناك قول آخر للمفسرين ذكره أبو مسلم بن بحر الأصفهاني، ورجحه الزمخشري واختاره الرازي، وتفسير الآية الكريمة على هذا القول كما يلي:
قال فما خطبك يا سامريّ قال بصرت بما لم يبصروا به، أي عرفت ما لم يعرفوه، وكان يعني بذلك صنع التماثيل، فضعت هذا التمثال من الحليّ وكنت قد قبضت شيئًا من شريعتك، فالقبض هنا مجازي، أي اتبعت شيئًا من شريعتك ولكنني نبذته، ثمَّ اعترف بأن هذا ما سولت به نفسه له ونظن أن هذا القول أولى بالقبول مما اشتهر عند المفسرين.
وأرى أن هذه النماذج كافية لبيان حقيقه هذا الأمر، وهو أنَّه ليس كل ما اشتهر جديرًا بالقبول.
ولا أودّ أن أسترسل فكم من أقوال مشتهرة ذكرها المفسرون جديرة بالمراجعة والتمحيص. وجلّ الله تبارك وتعالى وصلَّى الله على نبيه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. ورحم الله الأئمة والعلماء فكلٌّ يؤخذ منه ويردّ عليه.