الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول خصائص القرآن الكريم
نزل القرآن على سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكنه يختلف عن الكتب التي سبقته، ذلك أن كل نبي ممن أنزل عليهم كتبًا، كان يؤيد بالمعجزة من أجل أن يصدقه قومه. فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام أنزلت عليه التوراة كتابًا له يهتدي به قومه، أما معجزته فكانت شيئًا آخر: العصا واليد، وكذلك سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، أعطي الإنجيل ومعه من المعجزات ما معه، لكن انفرد الكريم كان الكتاب والمعجزة معًا.
من هنا كان لهذا القرآن خصائص، انفرد بها. فهو مع خلوده كتاب سماوي ومعجزة. ولقد نزل القرآن والعربية في أوجها قد اكتملت بيانًا، وبلغ العرب رشدهم اللغوى. من دقة في التعبير واختيار للألفاظ وتأثر بالفصيح من القول، يدلنا على ذلك تلك المساجلات النقدية التي كانت تعقده لها الندوات في الأسواق العامة والمنتديات الخاصة. وخبر حسان والخنساء خير دليل على ذلك (1).
ولقد كان طبيعيًا أن يحاول العرلص معارضة القرآن، لأنه زلزل معتقداتهم ونعى عليهم كثيرًا من أعرافهم وسفه أحلامهم، ولكن مع ذلك كله، لم يستطيعوا أن يحوموا حوله بمعارضة، ولا أن يقربوا منه بمناقضة، ووقفوا مشدوهين أعيتهم
(1) جاء في إعجاز القرآن للرافعي صفحة 255: ألد حسان بن ثابت في سوق عكاظ فقال:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما.
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
…
فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء: ضعفت افختارك في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟ قالت: قلت: (لنا الجفنات) والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت:(الجفان) لكان أكثر، وقلت:(الغر) والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت (البيض) لكان أكثر اتساعًا. وقلت:(يلمعن) واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت (يشرقن) لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت (بالضحى) ولو قلت (بالعشية) لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت (أسيافنا) والأسياف دون العشر ولو قلت (سيوفنا) كان أكثر، وقلت (يقطرن) فدللت على قلة القتل ولو قلت (يجرين) لكان أكثر، وقلت دما والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك.
الحيلة، فبدأوا يتلمسون المطاعن وهم بباطلها موقنون، ويلقون الشبهات وهم بزيفها مقرون، وفي إيرادها مضطربون يدلك على هذا الاضطراب قوله سبحانه:{بَلْ قَالوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5]. حيث جاءت كلمة (بل) في مواضع متلاحقة، وفي هذا دليل على تخبط القوم فيما يقولون.
ولقد وقف هؤلاء أمام القرآن يخالف ظاهرهم باطنهم، فبينما مشاعرهم ووجداناتهم تتأثر بالقرآن فيخشون هذا على أنفسهم، نجد ألسنتهم تنهى عنه وتنفر منه {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ولقد بلغ التعبير القرآني شأوا بعيدًا، وهو يصور ما يعانيه هؤلاء من صراع في داخل أنفسهم، حيث يقول:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (1)[هود: 20]. لقد أثر القرآن فيهم جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، فوقفوا جميعًا أمام عذوبته وهيمنته، فآمن من آمن وكفر من كفر. وإسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، وتفكير الوليد وتقديره، حادثتان مشهورتان.
وتأتي بعد ذلك مرحلة التحدي ليأتوا لمثل هذا القرآن، فلم يأتوا. ويرخي لهم العنان، وتحدث تنازلات: فليأتوا بعشو سور مفتريات كما يزعمون، وتستمر تلك التنازلات إلى سورة مثله. كل ذلك في مكة، وتأتي المرحلة الحاسمة في المدينة (2){فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا. فما هو ذلك السر الذي حال بينهم وبين ذلك، فتركوا رصف الحروف إلى تقلد السيوف:
ذلك هو البيان القرآني بأوسع تدل عليه تلك الكلمات. فما الخطوات التي تدرج فيها ابتداء من ذلك العصر، مرورًا بما جادت به قرائح المفسرين والباحثين؟ وما الشبهات المثارة حول التفسير التي لو قدر لها أن تحيا في النفوس لا سمح الله، فإنها تأتي على تراث هذه الأمة، وبنيانها البياني والعلمي من القواعد.
(1) نلاحظ أن القرآن الكريم نفى استطاعة السمع ولم ينفِ عنهم السمع، فلم يقل "ما كانوا يسمعون".
(2)
راجع مراحل التحدي في كتابنا إعجاز القرآن.