الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكثر خلافات المفسّرين يَرجع إلى الرأي والاجتهاد وأمثلة لذلك:
تلك بعض الاختلافات في التفسير التي يرجع الخلاف فيها إلى القراءات الصحيحة أو إلى اختلافهم في المعنى اللغوي للكملة؛ وما سوى هذين فإن الخلاف يرجع فيه إلى الرأي والاجتهاد. وهذا يتضح من الأمثلة الآتية:
أولًا: قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
اختلف المفسّرون في معنى الآية الكريمة فذهب بعضهم إلى أن المقصود بقوله "فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة" هم طلبة العلم، فالنفر في الآية الكريمة المقصود به طلب العلم وليس الجهاد، ويرى هؤلاء أنّ المؤمنين ينفر بعضهم إلى الجهاد وينفر بعضهم إلى طلب العلم. وقال آخرون إنّ المقصود بقوله "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة" هو النفر إلى الجهاد، وهؤلاء في ذهابهم إلى الجهاد يتفقهون في الدين تفقّهًا عمليًا حتى إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم وعلموهم.
ومن أصحاب الرأي الأوّل ابن عاشور في "التحرير والتنوير" والشيخ محمَّد أبو زهرة في تفسيره "زهرة التفاسير" ورجّح هذا الرأي من قبلهما صاحب روح المعاني.
ومن أصحاب الرأي الثاني شيخ المفسّرين الطبري، وتبعه صاحب الظلال سيد قطب رحمهم الله جميعًا- وسأنقل لكم ما قاله ابن عاشور من أصحاب القول الأوّل، وما قاله سيد قطب من أصحاب القول الثاني.
قال ابن عاشور رحمه الله: "وإذا قد كان من مقاصد الإسلام بثّ علومه وآدابه بين الأمّة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين
كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها. من أجل ذلك عُقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلّهم لأنَّ يكونوا غزاة أو جندًا، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسيع سلطانه وتكثير أتباعه والآخر يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأنَّ يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمّين بتدبير ذلك السلطان" (1).
وقال سيد قطب رحمه الله:
"والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية: أنّ المؤمنين لا ينفرون كافة ولكن تنفر من كلّ فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم بما رأته وفقهته، من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة.
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس رضي الله عنهما ومن تفسير الحسن البصري واختيار ابن جرير وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي لا يفقهه إلَّا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد أولى الناس بفقهه بما ينكشف لهم من أسراره ومعانيه وبما يتجلّى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به، أمَّا الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممّن تحرّكوا؛ لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا، ولا فقهوا فقههم، ولا وصلوا من أسرار هذا الدين ما وصل إليه المتحركون، وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقّه.
(1) التحرير والتنوير: ج 10/ ص 59.
ولعلّ هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة هم الذين يتفرّغون للتفقّه في الدين، ولكن هذا وهم
…
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلّا في أرض الحركة ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة
…
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية فقد وجد الدين أولًا ثم وجد الفقه، وليس العكس هو الصحيح" (1).
ونحن نرجح ما ذهب إليه شيخ المفسرين وصاحب الظلال - رحمهما الله - لانسجامه مع السياق.
ثانيًا: قال تعالى: {فَقَالوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88].
اختلف المفسرون في مرجع الضمير في (فنسي)، فقال بعضهم إنه يعود إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وقال آخرون إنّه يرجع إلى السامري.
فعلى الأول يكون المعنى: هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى إلهه.
فيكون قوله (فنسي) من كلام السامري.
وعلى الثاني - وهو أن الضمير يرجع إلى السامري - يكون كلام السامري قد انتهى عند قوله {إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ، ثم قال تعالى (فنسي) أي فنسي السامري بطلان عمله ونسي الحق الذي كان يتبعه.
وعلى الرغم من أن أكثر المفسرين رجحوا القول الأول، إلا أننا نرجح القول الثاني وذلك لأمرين:
1 -
لأنّ هذا ما يرجحه النظم.
2 -
إنه - وإن كان السامريُّ جاحدًا- لا يبلغ به جهله وصفاقته إلى اتّهام موسى بالنسيان، وبنو إسرائيل الذين صنع لهم العجل كانوا أولى بالنسيان، لكن النسيان إنما يكون لشيء كان في الذاكرة من قبل، وقضية العجل ليست من هذا القبيل ومع ذلك فإن كلا القولين غير مستبعد.
(1) في ظلال القرآن ج 3/ ص 1734 - 1735.
ثالثًا: قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
اختلفوا في مرجع الضمير في قوله {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} فبعضهم رجعه إلى الله أي إن الله يعلم صلاة كل واحد من هذه الأجناس وتسبيحه، ولكنّ القول الذي أختاره أن الضمير يرجع إلى كل من الأجناس والأفراد، أي كل واحد من هؤلاء ممن في السماوات والأرض ومن الطير، يعلم صلاته وتسبيحه، أي يعلم عبادته التي علمه الله، أو ألهمه إياها، وإنما اخترت هذا القول لأنه لا يترتب عليه محظور، لأن خاتمة الآية {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وهذه الخاتمة تغني عن أن نفسر الآية بالقول الأول.
رابعًا: ومن الاختلاف في مرجع الضمير كذلك، قوله سبحانه:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6 - 8].
فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} يرجع إلى الله تبارك وتعالى، ولكن يضعف هذا القول أنه يلزم عليه تفكيك الضمائر، فإنه وإن صح من حيث الصناعة رجوع الضمير إلى الله تعالى في قوله {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} فإنه لا يصلح رجوعه إلى الله في قوله {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} فعلى هذا التفسير يكون لكل من الضميرين مرجع، وهذا تفكيك للنظم، فالصحيح والمقبول والأليق بالنظم الكريم أن يكون الضميران عائدين إلى الإنسان أي إن الإنسان على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد.
خامسًا: ومن الآيات التي اختلف في تفسيرها المفسرون، قوله سبحانه {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61].
أهي في الجهاد كما جاء في سورة الفتح أم فيما يتعلق بشان الأكل، كما
جاء في قوله سبحانه فيما بعد
…
{وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61].
ولقد استغل بعض المستشرقين هذا الخلاف بين المفسرين، فادعى أن الآية مقحمة هنا، مستندًا في دعواه الباطلة إلى نص ذكره الإمام البيضاوي، لكنّ هذا المستشرق حرف هذا النص عن موضعه.
وهذان القولان - أعني كون الآية في الجهاد، أو كونها تتصل بما ذكر من جواز الأكل من بيوت الذين ذكروا في الآية الكريمة - فيهما بُعد؛ أما الأول فلأنه ليس للجهاد ذكر في هذه الآيات، وأما الثاني، فإنّه لا تظهر هذه الرخصة في هذه الأصناف الثلاثة فيما يتصل بالأكل من البيوت، إلا بتكلّف بعيد؛ لذا رجح بعض المفسرين وهو ما أختاره أن أول هذه الآية تابع لما قبله من آيات الاستئذان وهذا هو المعقول في تفسير الآية الكريمة، لأن الآيات الثلاث قبل هذه الآية الكريمة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} [النور: 58 - 60] تتحدث عن الاستئذان وعن الرخصة للقواعد من النساء، ثم جاء مطلع هذه الآية متحدثا عن هذه الرخصة لهذه الأصناف.
سادسًا: قال تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 1 - 2].
اختلف المفسرون في قوله "وليال عشر" فقال بعضهم إنها عشر ذي الحجة
وقال آخرون إنها العشر من المحرم، وذهبت فئة إلى أن المقصود بها العشر الأخيرة من رمضان، وهذه الروايات - وإن كان بعضها صحيحًا - فإنها ليست تفسيرًا للآية الكريمة إذ السورة مكية، وبيان فضيلة ما ذكروه لم يكن معروفا عند نزول السورة الكريمة، فإن فضيلة العشر من ذي الحجة، أو أيام المحرم، أو ليالي رمضان عُلم دْلك كله في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. ثم إن فضيلة عشر ذي الحجة وعشر المحرم يرجع إلى النهار، كما ذكر العلماء، والقول الذي يرجع إلى الليالي هو قول واحد، هو العشر الأخيرة من رمضان؛ لأن فيها ليلة القدر، ولما لم يكن هناك أثر صحيح في تفسير الآية الكريمة رأينا العلماء يعملون الفكر ويجتهدون، فذهب المحققون منهم إلى أن قوله تبارك وتعالى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} يقصد بها الليالي التي يكون القمر فيها أكثر سطوعًا ونورًا، ويكون فيها بدرًا، وهي العشر الوسط من الشهر، أي من الليلة الحادية عشرة إلى الليلة العشرين، واستدلوا لما ذهبوا إليه بما يلي:
1 -
أنها جاءت منكرة (وليال عشر) ولو كان المقصود بها شيئًا مما تقدم لقيل "الليالي العشر" أي الليالي المعهودة من المحرم أو من رمضان أو من ذي الحجة، لكن مجيئها منكرة يدل على أن المقصود شيء آخر.
2 -
أن سورة الفجر نزلت في ظرف كان المسلمون يعانون فيه كثيرًا من أذى أهل مكة، فكانت السورة بشارة لهم بأنَّ هذا الليل القاسي المدلهم سيعقبه فجر يسطع نوره، ويتنفس صبحه أنفاس العافية، وهو قول له وجاهته، والله أعلم بما ينزل.
وقد ذكر القاسمي رحمه الله في تفسيره أن الليالي العشر هي التي تكون أكثر ظلامًا فهي الخمس الأولى والخمس الأخيرة من كل شهر قمريّ. وهذا ينافي السياق منافاةً تامّةً لأنّ السورة جاءت بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم-
وللمسلمين من أنّ هذا الليل المدلهمّ لا بدّ أن يطلع فجره ويتنفّس صبحه، فكيف يُجْمع بين الفجر والليالي المدلهمّة في الظلمة؟ إنْ للسياق نصيبًا كبيرًا في فهم الآيات الكريمات والترجيح بين الأقوال المختلفة.
سابعًا: ومن الآيات التي اختلف المفسرون فيها على آراء كثيرة، تفسير العصر في قوله:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر].
ذهب بعضهم إلى أنها صلاة العصر، واستدلوا بما لهذه الصلاة من فضل ومنزلة، وقال آخرون إنه الدهر مستدلين بما جاء في بعض القراءات (والعصر ونوائب الدهر) - وهي قراءة تفسيرية - وقال آخرون إنه عصر النبي صلى الله عليه وسلم مستدلين بما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملًا إلى الليل فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك فأستأجر آخرين فقال أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا لك ما عملنا فاستأجر قومًا فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين" (1).
وقالوا إنه يؤخذ من هذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أقسم الله بعصره - زمانه - في هذه الآية وبمكانه في قوله {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وبنفسه وعمره في قوله {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] وأخذوا من هذا الحديث أيضًا أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في آخر الساعة فما بين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبين قيام الساعة، كما بين العصر وغروب الشمس.
وذهبت فئة رابعة إلى أن العصر هو الطرف الأخير من النهار، فلقد أقسم
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب.
الله بالصبح والضحى، وأقسم بالعصر.
وإذا نظرنا في هذه الأقوال كلها، نرى أنفسنا مضطرّين إلى ترجيح القول الأخير، لأن الله تبارك وتعالى أقسم بالصبح على أن هذا القرآن قول رسول كريم في سورة التكوير، وأقسم بالضحى على أنّ الله ما ودع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقسم بالعصر على أن الإنسان لفي خسر، ومعنى ذلك أن الذي لا يبادر إلى عمل الخير، حتى يقرب انتهاء وقته في خسران.
أما القول إنه صلاة العصر، فالآية مكية، وفضل صلاة العصر إنما عرف بعد الهجرة.
وأما أنه الدهر، فهذا الإطلاق ليس شائعًا، أي إطلاق الدهر على العصر، وأما أنه عصر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكفي لترجيح هذا القول الحديث السابق. إذن فالذي نرجّحه في معنى العصر الطرف الأخير من النهار.
ثامنًا: قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] ساق ابن جرير الطبري رحمه الله في معنى (الشاهد والمشهود) الأقوال الآتية:
1 -
أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.
2 -
أن الشاهد يوم الأضحى والمشهود يوم عرفة.
3 -
أن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم الجمعة في قول، ويوم عرفة في قول آخر.
4 -
أن الشاهد الله تعالى، والمشهود، قيل يوم القيامة، وقيل يوم الأضحى وقيل يوم الجمعة، ثم قال بعد أن ساق تلك الأقوال:"والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أقسم بشاهد شَهِد، ومشهود شُهِد، ولم يخبرنا بذلك أي شاهد وأي مشهود أراد، وكل الذي ذكرنا أن العلماء قالوا هو المعني مما يستحق أن يقال له شاهد ومشهود"(1).
(1) تفسير الطبري (30/ 82).
تاسعًا: وليس الطبرى وحده ينهج هذا المنهج، بل هو نهج مشاهير المفسّرين وحذّاقهم، فعند تفسير قوله تعالى في آية الكرسي {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255] يقول الشهاب الألوسي: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي أمر الدنيا (وما خلفهم) أي أمر الآخرة، وروي عكس ذلك. وقيل يعلم ما كان قبلهم، وما كان بعدهم، وقيل ما بين أيديهم من خير أو شرّ، وما خلفهم مما فعلوه كذلك، وقيل ما يدركونه وما لا يدركونه، أو يحسونه ويعقلونه، والكلّ محتمل ووجه الإطلاق فيه ظاهر (1).
عاشرًا: وهناك آيات كثيرة ورد في تفسيرها أقوال كثيرة؛ لأن اللغة تحتملها من جهة، ولم يرد في تفسيرها حديث صحيح من جهة ثانية منها قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98].
إني لأعجب من أولئك الذين يدّعون أن عالمًا فضلًا على أن يكون إمامًا يرى أنه لا يجوز أن يفسر كتاب الله إلا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست هناك آية من كتاب الله إلا وأعمل المفسرون فيها فكرهم وبذلوا فيها الجهد وتحملوا الجهد كذلك، ولنستمع إلى ما قالوا نتيجة هذا الجهد.
قال الألوسي: أي لكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض .. واستيداع في الأرحام أو في القبر، أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر. وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها، لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة فكأن الرجل أودعها ما كان عنده، وجعل وجه الأرض مستقرًا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول، واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني. وقيل: التعبير عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما
(1) روح المعاني (3/ 9).
مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو في القبر بالاستيداع لما أن كلا منهما ليس بمقرهم الطبيعي.
وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب، ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى. {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5] وأما تفسير المستودع بالأصلاب، فقال شيخ الإسلام: إنه ليس بواضح وليس كما قال، فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع، بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، ومما يدل على قوة هذا القول المعنى المروي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانًا طويلًا والجنين يبقى زمانًا طويلًا ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى، ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى. وأنا أقول لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى
…
وروى تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر
…
وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر، لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة" (1).
أليس في هذا دليل على أن المسلمين لم يجمدوا وهم يتلون هذا القرآن العظيم، بل كانوا يتدبرونه، من أجل أن يصلوا إلى المعنى الذي يتفق مع قدسية هذا القرآن الكريم وجلاله.
(1) روح المعاني (7/ 236).
حادي عشر: قال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} [الصافات: 1 - 4].
ثاني عشر: قال تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [الذاريات: 1 - 6].
ثالث عشر: قال تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} [المرسلات: 1 - 7].
رابع عشر: قال تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)} [النازعات: 1 - 6].
خامس عشر: قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 1 - 6].
هذه أشياء أقسم الله بها، وهي تلتقي فيما يلي:
1 -
كلها مختومة بالتاء.
2 -
كلها صيغ جمع.
3 -
من ذوات القسم بالواو.
4 -
العطف حينا بالواو وحينًا بالفاء.
ولقد اختلف المفسرون في معاني هذه الأمور المقسم بها، والله أعلم بمراده.
لكننا ونحن نتصفح أقوال المفسّرين نجد أن اختلافهم فيها ليس سواءً، فبعضها كثر الاختلاف فيه، وبعضها لا نكاد نجد فيه اختلافًا، وبعضها بينَ بينَ كما سنعرض، ويرجع ذلك إلى أن بعضها قد روي في تفسيرها آثار مقبولة، وبعضها