الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث جهود اللغويين والنحويين وعلماء البيان
ومهما يكن من أمر فإن حركة التدوين اللغوي للقرآن الكريم، واكبت حركة التفسير بالمأثور كما أسلفت، وأول من أسهم في تلك الحركة اللغويون والنحاة، حيث ظهر كتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة. ويظن السامع لأول وهلة أن هذا الكتاب يعالج المجاز الذي اصطلح عليه علماء البيان فيما بعد، ولكن من يقرأ الكتاب يدرك أن مؤلفه لم يقصد هذا، بل قصده الطريق الذي ينبغي أن يسلك لنتبين منه معنى الآية، من قولهم جزت الشيء أو جزت الطريق هو انتقال من اللفظ إلى المعنى، وظهر كتاب (معاني القرآن) للفراء. والفراء كما نعلم من أئمة النحو الكوفيين. ولقد ظهر ذلك الطابع في مؤلفه، كما ظهر فيه وفي سابقه - مجاز القرآن- أنواع من الإبداع التي يجدها من يتصفح الكتابين، والكتابان مطبوعان والحمد لله.
أبو عبيدة:
أما أبو عبيدة فيكفينا أن نقف مع كتابه (مجاز القرآن) وسنجد في هذا الكتاب كثيرًا من الأساليب البلاغية، والمباحث البيانية التي كانت أساسًا أفاد منه كل أولئك الدين جاءوا من بعده، والتي تدل كذلك على أصالة نشأة البلاغة العربية، وترد أقوال أولئك الذين يزعمون ويدعون أنها مزق من بلاغات الأمم السابقة، ويساورنا الشك فيما نقله صاحب (العمدة) عن الجاحظ حيث قال: طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا يتقن إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيّات وقال: (ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه
إعراب. ولم أر غاية رواة الشعر إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل) (1). فإن صح كان ذلك مستغربًا، يدعو إلى الحَيْرة ذلك أن الجاحظ - كما جاء عنه في كتاب (البيان والتبيين) - يقول عن أبي عبيدة:(لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة)! (2) فكيف نجمع بين الكلمتين؟ ! (3).
وعلى كل حال، فإن خير ما يعطينا صورة واضحة عن نفاسة الملحوظات البلاغية التي ذكرها أبو عبيدة، والتي تنتظم كثيرًا من علمي المعاني والبيان، والتي تدل على قدم راسخة للرجل في هذا المضمار، ما ذكره في الجزء الأول من كتابه - أعني:(مجاز القرآن).
(قالوا: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وتصداق ذلك في آية من القرآن، وفي آية أخرى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص، وفي القرآن ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني.
ومن المحتمل من مجاز ما اختصر وفيه مضمر قال: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا} [ص: 6]، فهذا مختصر فيه ضمير مجازه: انطلق الملأ منهم، ثم اختصر إلى فعلهم، وأضمر فيه: وتواصوا أن امشوا، أو تنادوا أن امشوا، أو نحو ذلك. ومن مجاز ما حُذف وفيه مضمو قال. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]، فهذا محذوف فيه ضمير مجازه: واسأل أهل القرية،
(1)(العمدة)(2/ 84) وراجع كتابنا البلاغة المفترى عليها ص 104.
(2)
(البيان والتبيين)(1/ 331).
(3)
ونحن نرتاب كل الريبة في تلك الكلمة التي نقلت عن الجاحظ.
ومن في العير.
ومن مجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد الذي له جماع منه، ووقع معنى هذا الواحد على الجميع قال:{نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]، في موضع، أطفالًا. وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فهذا وقع معناه على قوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وقال:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17]، في موضع: الملائكة.
ومن مجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع الذي له وأحله منه، ووقع معنى هذا الجميع على الواحد قال:{الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، والناس جميع، وكان الذي قال رجل واحد {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19]، وقال:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، والخالق الله وحده لا شريك له.
ومن مجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع الذي له واحد منه، ووقع معنى هذا الجميع على الاثنين قال:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] فالأخوة جميع، ووقع معناه على أخوين، وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] في مواضع يديهما.
ومن مجاز ما جاء لا جماع له من لفظه، فلفظ الواحد منه ولفظ الجميع سواء قال:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس: 22]، والفلك جميع وواحد، وقال:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82] جميع وواحد، وقال:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] جميع وواحد.
من مجاز ما جاء من لفظ خبر الجميع المشرك بالواحد الفرد على لفظ خبر الواحد قال الله: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] جاء فعل السماوات على لفظ الواحد لما أشركن بالأرض.
ومن مجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر الناس قال: {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وقال:{قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقال للأصنام:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]، وقال:{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18]، وقال:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]
ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تُرِكَتْ وحُوِّلْت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب قال الله:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]، أي: بكم.
ومن مجاز ما جاء خبره عن غائب، ثم خوطب الشاهد قال. {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 33 - 34].
ومن مجاز ما يزاد في الكلام من حروف زوائد قال الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] وقال: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، وقال:{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20]، وقال:{وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 30]، وقال:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، مجاز هذا أجمع إلقاؤهن.
ومن مجاز المكرر للتوكيد قال: {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، أعاد الرؤية، وقال:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34]، أعاد اللفظ، وقال:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، وقال:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
ومن مجاز المقدم والمؤخر قال: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أراد: ربت واهتزت. وقال: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، أي: لم يرها، ولم يكد.
ومن مجاز ما يحوَّل خبره إلى شيء من سببه، ويترك خبره هو قال:{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، حوَّل الخبر إلى الكناية التي آخرها الأعناق.
ومن مجاز ما يحوّل فعل الفاعل إلى المفعول، قال:{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76]، والعصبة هي التي تنوء بالمفاتح.
ومن مجاز ما وقع المعنى على المفعول، وحُوِّل إلى الفاعل قال:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} [البقرة: 171]، والمعنى: على الشيء المنعوق به، وحُوِّل على الراعي الذي ينعق بالشاء.
ومجاز ما قرأته الأئمة بلغاتها فجاء لفظه على وجهين أو أكثر، من ذلك قرأ أهل المدينة:{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، فأضافوا بغير نون المضاف بلغتهم، وقال أبو عمرو: لا تضاف تبشرون إلا بنون الكناية، كقولك تبشرونني.
ويقول عند قوله سبحانه: {قَالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ} [البقرة: 30]، جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربها وقد قال تبارك وتعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، ولكن معناها معنى الإيجاب: أي: إنك ستفعل.
وقال جرير -فأوجب ولم يستفهم- لعبد الملك بن مروان:
ألَسْتُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا
…
وأنْدَى العالمينَ بُطون راحِ
وتقول -وأنت تضرب الغلام على الذنب: - ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام، ولكن تقرير) (1).
فأنت ترى أن ما ذكره أبو عبيدة ينتظم كثيرًا من مباحث علم المعاني، فقد أشار إلى مباحث الخبر والإنشاء، وخروج بعض أدوات الاستفهام -وهو من قسم الإنشاء- عما وضعت له، كما أشار إلى التقديم والتأخير، والالتفات والتغليب،
(1)(مجاز القرآن)(1/ 35 - 36).