الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا يسير الأستاذ الفاضل في بيانه لمحكم التنزيل، ولا أغالي إذا قلت إن المكتبة الإسلامية، وإن الشباب المسلم، وإن طلاب الحق أيًّا كانوا، بحاجة ماسة إلى مثل هذا الكتاب، الذي لن يستغني عنه أحد منهم، فلقد سدّ فراغًا كبيرًا. رحم الله الأستاذ وجزاه عن كتابه والمسلمين خير الجزاء.
3 - سيد قطب
كتاب التصوير الفني في القرآن:
إذا كان الرجلان السابقان وقف كل منهما وقفة العالم الخاشع أمام النص القرآني، يعرض كل لزاوية من زواياه البيانية، فإن أيّ واحدٍ منهما لم تسعد المكتبة الإسلامية القرآنية بتفسير تام له ولقد قلت من قبل: إن الأمة قد حرمت أن يكتب لها عبد القاهر تفسيرًا، باعتباره صاحب نظرية في الإعجاز، اعتمدتها الدراسات البيانية فيما بعد، لكن صاحب التصوير الفني رحمه الله، كتب في البيان القرآني، كما يسره الله له، وهيأ له أن يفسر القرآن كذلك، فأفادت المكتبة والدارسون منه كثيرًا ولن أعرض له الآن مفسرًا، وإنما الذي يهمني الآن، قضية البيان القرآني كما رسمها وأبدعتها قريحته، وهيأتها سائغة شهية نتائج أفكاره رحمه الله، ولقد كتب أول ما كتب (التصوير الفني في القرآن). وهو مبحث لعمر الحق جديد، ثم أخرج كتابه (مشاهد القيامة في القرآن) وبعده (في ظلال القرآن).
والفكرة التي يقوم عليها كتابه التصوير الفني، هي أن هذا التصوير، هو الأداة المفضلة للتعبير، والقاعدة الأساسية في الكتاب العزيز، عدا آيات الأحكام بالطبع، وهذا التصوير ليس للمعاني المجردة فقط، بل هو للحالات النفسية والحوادث التاريخية والقصص والأمثال كذلك، وهذا التصوير يقوم على التجسيم المحسوس والتخيل، وهو إذ يأتي بأمثلة لكل ذلك، يشعر القارئ وكأنه أمام مناظر بديعة، تصور حالات من مشاهد الكون، أبدعتها ريشة فنان. بل والحق يقال إن ما تحدثه
الآيات في النفس، أعظم وأكثر روعة وأشد أثرًا من تلك.
ويتحدث بعد ذلك، عن التناسق الفني في الآيات، من إيقاع بين أجزائها، وتلاؤم بين ألفاظها ومعانيها، ومواقع كمواقع النجوم لكلماتها فهو مثلًا يحدثنا عن سر التعبير في كلمة (سجى) من قول الله تعالى:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} دون (أظلم) ودون (يغشى)، ذلك لأن هذا يتناسب مع السياق الذي جاءت له الآيات، من انقطاع الوحي مدة وفتوره. فما هي إلا حالة تشبه (سجى الليل) دون أن يعم ظلامه، وها هو يحدثنا عن هذا التناسق الفني في سورة الليل {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} إنهما شيئان: أسود وأبيض، ليل ونهار، وكأن الصورة كلها تقوم على ذلك المشهد، فهناك الذكر والأنثى، وأعطى واتقى، وبخل واستغنى، واليسرى والعسرى، والآخرة والأولى، والأشقى والأتقى.
ويبين لنا سر التعبير بكل دقة وحيوية في لفظتين من ألفاظ القرآن "خاشعة وهامدة" في قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج: 5] وقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39] فالمشهد هنا مشهد البعث والإنبات وإحياء الموتى، وإخراج من في القبور، أما هناك في آية فصلت فالمشهد الخضوع والخشوع والسجود، من الليل والنهار والشمس والقمر، فلا بد أن تشارك الأرض كذلك، ولهذا لم يقل هنا {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} بينما قالها هناك.
كما يحدثنا دون تكلف عن سر الإعجاز في الفاصلة القرآنية، وسر تغيرها، فهذه الفاصلة في سورة مريم، وهي تتحدث عنها وعن عيسى عليه الصلاة والسلام، وفجأة وإذا بالفاصلة تتغير، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34] لماذا؟ يقول: (إنه الحكم يصدر، ولهجة صدور الحكم تختلف عما قبلها من لهجات المرافعة والادعاء).
وهكذا نسير معه والآيات تسير به، وهكذا تنكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق من التناسق والاتساق: (فمن نظم فصيح إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى