الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فشكوى الأنبياء لم تكن إلا بسبب إعراض أممهم عن الاستجابة، وحزنهم لم يكن إلا بسبب بطء في سير الدعوة، واستدل بقوله تعالى:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: 70].
أما قوله {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فالمراد بقوله (اركض) عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها؛ وذلك لأن الشكوى تشعر بالوهن وعدم القوة في السير إلى الغاية لذلك، هذا ما كان من جواب تلك الشكاية.
أما قوله {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] لما كان تردد المرء في غايته ووهن عزيمته مرضًا يضايق الصدور كان عقد العزيمة، واستكمال الثقة غسلا للروح من صدئها، وشفاء للنفس من مرضها، فالمراد من المغتسل هو عقد العزيمة واستكمال الثقة، وهنا يكون اسم الإشارة راجعًا إلى الركض بالرجل التي هى كناية عن عقد العزيمة.
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43] أي هدينا أهله فآمنوا به واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله فالهبة هنا هي الهداية والإرشاد، لا هبة الخلق، لأن ما يهتم به الأنبياء، هو أن يهدي الله بهم لا أن يولد لهم.
وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] أي لا ترفع في وجوه قومك رمحًا ولا عصا ولا تغلظ لهم في القول، بل لوح لهم في وجوههم بالرياحين ولا تأثم بالغلظة.
وهذه التأويلات - كما نرى - بعيدة كل البعد عن مدلول اللفظ القرآني ولا ينبغي أن نحمل الألفاظ ما لا تحمل.
وقفة مطوّلة مع بنت الشاطئ:
1 -
عند حديث الدكتورة عائشة عبد الرحمن عن قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} تقول: السورة تبدأ بهذه الجملة الخبرية القصيرة، لكن الرازي أخرجها من
الإخبار إلى الاسمفهام بمعنى التوبيخ والتقريع، ولا نرى حاجة إلى هذا، بل لعل الخبرية هنا أوقع في الوجر والتأنيب والوعيد بما تشهد به على أن إلهاء التكاثر إياهم واقع قد كان فعلا، وليس المقام مقام استفهام
…
(1).
وإذا رجعت إلى تفسير الرازي لا تجد ما ذكرته الكاتبة، وكل ما في الأمر أن الرازي ذكر الاحتمالين بل ذكر احتمال الخبرية أوّلًا ولعلّه يرجّحه. قال: قوله (ألهاكم) يحتمل أن يكون إخبارًا عنهم، ويحتمل أن يكون استفهامًا بمعنى التوبيخ والتقريع، أي أألهاكم" (2) فهو لم يرجح القول بأن الجملة اسمفهام، كما يفهم من كلام بنت الشاطئ.
2 -
تحدثت الكاتبة عن التكاثر، وذكرت قول الرازي إن التفاخر والتكاثر شيء واحد، وردّت هذا القول، لأن سورة الحديد لا توافقه وذلك بسبب عطف التكاثر على التفاخر فيها: وتذكر أن جمهرة المفسرين أكثر ميلًا إلى عد التكاثر هنا مباهاة وتفاخرًا، متأثرين في ذلك بما روي في سبب النزول، فالطبري ذهب إلى أنها المباهاة بكثرة المال، والعدد، والراغب يفسرها كذلك، المكاثرة والتباري في كثرة المال، وتقول بعد ذلك: وهم في هذا يأخذون من التكاثر معنى المفاعلة، مع أن اللغة استعملت تفاعل في المفاعلة وغير المفاعلة فقيل: كاثر الماء واستكثره إذا أراد أن يستأثر لنفسه بكثير منه، وإن كان الماء قليلًا، كما قيل: تمارض، إذا ادّعى المرض، وتكاره الأمر إذا تكلفه على كره منه، وتهافت إذا ظهر ضعفه (3).
وهذا الذي ذكرتْه وقالت: إن المفسرين لم يتنبهوا إليه ذكره الرازي في تفسيره، قال: وقال أبو مسلم: التكاثر تفاعل من الكثرة، والتفاعل يقع على أحد
(1) ص 201.
(2)
تفسير الرازي (76).
(3)
التفسير البياني ص 204.
وجوه ثلاثة يحتمل أن يكون بين الاثنين فيكون مفاعلة، ويحتمل تكلُّف الفعل تقول تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره، وتقول تعاميت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه، وتقول تغافلت، ويحتمل أيضًا الفعل بنفسه كما تقول تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه، ولفظ التكاثرفي هذه الآية يحتمل الوجهين الأولين فيحمل التكاثر بمعنى المفاعلة؛ لأنه كم من اثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله" (1).
ولا أدري لماذا تنكر على المفسّرين جهدهم في تفسير كتاب الله وتدّعي ما لا يجوز لها ادّعاؤه.
3 -
تذكر الكاتبة أن الآية لم تحدد موضوع التكاثر فليس من السهل أن نخصه بالمال على ما ذهب الراغب أو نقصره على العدد كما قال الرازي، أو الموتى كما في النيسابوري، كما لا وجه لاحتمال أن يكون التكاثر هنا على الاستغراق والتعميم، وهو ما دعا مفسرين إلى أن ينبهوا إلى قصره على ما هو مذموم، كما أشفقوا أن يخطر ببال أحد أن التكاثر فيما هو خير وطاعة وحق داخل في عموم اللفظ" (2).
والرازي لم يقصر التكاثر على العدد، بل إنه ذكر أربعة أقوال فيها، الأول منها ألهاكم التكاثر بالعدد، والثاني بالمال، والثالث. ألهاكم الحرص على المال وطلب تكثيره حتى منعتم الحقوق المالية إلى حين الموت، والرابع، ألهاكم التكاثر فلا تلتفتون إلى الدين بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسِر ألبتة إلا إذا زرتم المقابر (3).
(1) الرازي 32/ 75.
(2)
ص 204.
(3)
الرازي (32/ 76).
بل إن الرازي ذكر قبل ذلك أن العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم، فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات، والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل، فيكون ذلك ترجيحًا لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب، وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق، فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال "ألهاكم التكاثر" ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال وبالجاه والأقرباء والأنصار والجيش، وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدينا ولذاتها وشهواتها" (1).
وعجيب ما قالته .. وإنه -ويعلم الله- مستنكر مستغرب، حيث ادّعت أنّ لفظ التكاثر يشمل ما هو خير وطاعة، وهذا أمرٌ لا يقوله صبية المكاتب، فأولًا: قوله سبحانه "الهاكم" يدلّ على أنه خاصّ بالأمور المذمومة.
ثانيًا: سياق السورة الكريمة يدلّ على التقريع والذمّ.
ثالثًا: ما جاء بعد هذه الآية الكريمة من الردع والزجر في قوله {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وما بعده. رحم الله بنت الشاطئ. لقد حاولت ما استطاعت أن تنال من المفسرين فوقعت في طين لازب ونسيت أن لحوم العلماء مسمومة.
4 -
عند قوله تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] تذكر الكاتبة أنها لا تطمئن إلى تفسير اليقين هنا، . وفي قوله تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] بالموت والبعث، وتذكر أن الطبري يؤثر أن يكون المقصود البعث وليس الموت، وأن الرازي سكت فلم يرجح قولًا، مع أن الرازي ذكر في تفسير اليقين قولين، جعل الثاني منهما الموت والبعث
(1) الرازي (32/ 79).
والقيامة، أي هو قد سوى بين هذه الأمور لتقاربها، فلم يجعل تفسير اليقين بالموت قولًا، وتفسيرها بالبعث قولًا آخر.
والكاتبة تخالف المفسرين (1) وترجح أن اليقين هنا، التحقق وإزاحة الشك، وذلك أنهم قد ذهبوا -تعني المفسرين- إلى أن علم اليقين من إضافة الصفة إلى الموصوف أي إنه علم يقين، وهذا هو القول الأول الذي ذكره الرازي حيث قال: علم اليقين وجهان: أحدهما أن معناه علمًا يقينًا فأضيف الموصوف إلى الصفة كقوله تعالى {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109] وكما يقال مسجد الجامع وعام الأول.
والذي يظهر أن الرازي يرجح القول الثاني وهو تفسير اليقين بالموت، وذلك أن الموت والبعث إذا وقعا جاء اليقين وزال الشك، فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله ويقول: "وقد يقول الإنسان أنا أعلم علم كذا أي أتحققه، وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب، لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال علمت علم كذا (2).
فكلّ ما ادّعت أنه من عندها سُبقتْ إليه.
5 -
ترى الكاتبة أن المفسرين يوجبون الوقف بين قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] وقوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6]، وتذكر أن وقوفهم وجمودهم عند المصطلح النحوي هو الذي عطل ذوقهم لحس العربية، إذ جعلوا لو شرطًا يحتاج إلى جواب، و (لترون).
وليت شعري إنْ كان المفسّرون قد عطّلوا حسّهم وذوقهم اللغوي وجمدوا
(1) لقد كان المفسرون محقين كل الحق فيما ذهبوا إليه.
(2)
الرازي (32/ 76).
عند المصطلح اللغوي، فمن يكون صاحب ذوق وحسّ؟ وإذا كان ابن جرير والزمخشري وأضرابهما عُطّلت أذواقهم أفيكون الذوق محصورًا في مدرستها التي تنتمي إليها؟ اللهم إنك تعلم أن هذا منكر من القول وزور، لكنك ربي عفوّ غفور.
لقد أسهبت الكاتبة كثيرًا حيث كتبت ما يقرب من سبع صفحات وإنّي على يقين من أنها كانت مضطربة فيما كتبت، ونحيل القارئ الكريم على ما سطره قلمها (1).
إن خلاصة ما أرادت الكاتبة قوله أنّ قوله سبحانه {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب (لو) في قوله {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} وأنّ المفسّرين قد جانبهم الصواب وجمدوا على المصطلح النحوي وكان يعوزهم الحسّ البياني ولو ملكوا هذا الحسّ ما قالوا قولهم هذا، ولو وقفوا مع النصّ لتبيّن لهم ما ذهبت إليه الكاتبة من أنّ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب (لو).
ولا أودّ أن أنقل كلام الكاتبة هنا لطوله وغموضه وإسفافه في النيل من المفسرين.
وأودّ أن أقرّر ما يلي: إنّ ما ذهب إليه المفسرون ورجّحوه من أنّ جواب (لو) محذوف هو ما يؤيده المعنى وتقتضيه الصناعة النحوية وإليكم برهان ذلك:
أولًا: إنّ المتدبّر لآي الذكر الحكيم يجد أنّ الآيات الكريمات التي حذف منها جواب (لو) كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:
(1) ص (212 - 218).
- {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَال أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالوا بَلَى وَرَبِّنَا} .
هذه الآيات الكريمات الثلاث في سورة الأنعام ولها نظائر كثيرة في القرآن الكريم. فحذف جواب (لو) من الأمور التي أشار إليها علماء البيان وبيّنوا أسرارها وفوائدها فلم تكون آية التكاثر بدعًا من تلكم الآيات الكريمات؟
ثانيًا: إن من البدهي أنّ (لو) حرف امتناع لامتناع يمتنع جوابها لامتناع شرطها فقولنا: "لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع" مَعناه أنّ عدم رضانا بالواقع كائنٌ لعدم علمنا بالغيب، وقول الله تبارك وتعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} معناه أن عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم سبب في عدم عنتهم.
وفي الآية الكريمة التي معنا: لو كان قوله تعالى {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب (لو) لفسد المعنى إذ يصير التركيب هكذا: "لو تعلمون علم اليقين لرأيتم الجحيم، لكنّ رؤية الجحيم ممتنعة لامتناع علم اليقين".
ثمّ إنّ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} لو كانت جوابًا لـ (لو) لكان منطوق هذا الكلام أنّ الذي يعلم علم اليقين هو الذي سيرى الجحيم. أمّا مفهومه فهو أنّ الذي لا يعلم علم اليقين لا يرى الجحيم، وهذا أمرٌ ثابت البطلان. قال الإمام الرازي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة: "اتفقوا على أن جواب لو محذوف وأن قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب (لو) ويدل عليه وجهان: أحدهما أن ما كان جواب (لو) فنفيُهُ إثبات وإثباتُهُ نفي، فلو كان قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جوابًا للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية وذلك باطل،
فإنّ هذه الرؤية واقعة قطعًا. فإن قيل المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا، ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا ترك الظاهر خلاف الأصل. والثاني (1) أنّ قوله {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} إخبار عن أمر سيقع قطعًا، فعطفه على ما لا يوجد قبيح في النظم. واعلم أن ترك الجواب في مثل هذا المكان أحسن. يقول الرجل للرجل:"لو فعلت هذا" أي لكان كذا. قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يجيء له جواب، وقال:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} . إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في جواب (لو) وجوهًا أحدها: قال الأخفش "لو تعلمون علم اليقين" ما ألهاكم التكاثر، وثانيها. قال أبو مسلم: لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به. وثالثها: أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم، وكأنه قال. "لو علمتم علم اليقين" لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه، ولكنكم ضلّال وجهلة. أمّا قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد وأنّ ما أوعدوا به ممّا لَا مدخل فيه للريب وكرره معطوفًا بثم تغليظًا للتهديد وزيادة في التهويل" (2).
فتقرير المعنى - والله أعلم بما ينزل-: لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم التكاثر ولتنافستم في الخير.
ثمّ قرّر معنى آخر: (لترونّ الجحيم) فاللام واقعة في جواب قسم محذوف، أي: وعزّتي لترونّ الجحيم حين لا ينفعكم العذر. ونمثّل لهذا بقولنا. (لو تدرك الأمة مكر عدوّها لينصرنّ الله من ينصره) فإنّ الجملة الثانية لا يمكن أن تكون جوابًا للجملة الأولى أي: (لو تدرك الأمة مكر عدوّها لأخذت حذرها
(1) أي الوجه الثاني.
(2)
ج 32/ ص 78 - 79.
وعدّتها) ثمّ جاءت جملة ثانية وهي (والله لينصرنّ الله من ينصره).
ومن يقرأ ما قالته الكاتبة بنصّه في كتابها يجده قولًا فيه لجاجة وغموض ويقيني أنّ الكاتبة غلبت عليها شهوة المخالفة والادعاء، ومع هذا فإني أدعو لها بالرحمة.
6 -
في قوله تعالى: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] فقد خالفت المفسرين في أن المسؤول هنا هم جميع البشر، المؤمنون والكافرون، ورجحت أن يكون المسؤول الكفار وحدهم.
وخالفت المفسرين كذلك في المقصود بالنعيم، فالمفسرون يرجحون أن يكون النعيم الذي يُسئلون عنه يوم القيامة نعيم الدنيا، إلا أن بنت الشاطئ ترى أنه نعيم الآخرة. وهو قولٌ بيّن البطلان. ومن الخير أن أطلعك أيها القارئ الكريم على بحث كنتُ قد كتبتُه قبل ما يزيد على عشرين سنة في المجلة الثقافية التي كانت تصدرها الجامعة الأردنية (1) تحت عنوان "الدكتورة بنت الشاطئ والبيان القرآني" وهذا نصّه:
تقولون أخطأنا فهاتوا صوابكم
…
وكونوا بناة قبل أن تهدموا الصرحا
القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، الذي بهر العرب ببيانه وكانوا أفصح الأمم بلا ريب، والذي بهر غيرهم بكنوز المعرفة المتعددة، فوقف كل فريق أمام جانب من جوانبه، وما أكثرها؛ وقف أمامه علماء البياء يستجلون صوره التعبيرية وتراكيبها، وخصائص هذا التركيب فوجدوا معانيها تنساب كأنها جدول عذب يترقرق، وألفاظها تتسق كأنما هي نغمات عذبة تتدفق حيوية وجمال ايقاع. وهذا هو التفسير البياني أو البلاغي لنصوص القرآن الكريم.
(1) العدد السادس، 1985 م.
وللعلماء جهود مشكورة في هذا الاتجاه، ويعلم الله أنهم لم يتركوا جملة ولا كلمة، بل لم يتركوا حرفًا من حروف هذا القرآن دون أن يبينوا جماله، وسر التعبير به، وبقي الأمر كذلك يكمل المتأخر ما بدأه المتقدم شاكرًا له جهده مقدرًا له ما أسهم به في تجلية آي الذكر الحكيم.
وفي النصف الأول من هذا القرن ظهرت مدرسة تسمّي نفسها: مدرسة التفسير البياني لآيات القرآن، مؤسس هذه المدرسة الشيخ أمين الخولي، الذي تخرّج في مدرسة القضاء الشرعي ثم ذهب إلى إيطاليا؛ حيث تسنى له أن يدرس اللغة الإيطالية وكان من أول ثمرات هذه المدرسة رسالة الفن القصصي في القرآن التي تقدم بها محمد أحمد خلف الله لنيل درجة الدكتوراه، ولقد احدثت ضجة، حيث وقف منها المنصفون وقفة استنكار وسخط لأنها جردت القرآن من صدقه وواقعيته، ووصفت كثيرًا من أخباره بالأساطير، وليس غرضنا الآن أن نتحدث عن هذا الموضوع الخطير، فلقد انبرى العلماء مشكورين للردّ عليه والتنبيه على خطر الفكرة من أساسها.
ولقد كان أكثر الناس تأثرًا بفكر الشيخ ومنهجه، تلميذته وزوجه الدكتورة بنت الشاطئ فلقد ترسمت خطاه فيما قدّمته من أبحاث وما ألقته من محاضرات وما أخرجته من كتب وسنقف عند كتابين كانا أكثر كتبها انتشارًا ضمنتهما ما لها من آراء مستمدة من هذا المنهج، وهذان الكتابان هما: التفسير البياني للقرآن الكريم. وهو تفسير لبعض قصار السور. والكتاب الثاني .. الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، وعلى الرغم من أن لكل كتاب موضوعه الخاص به، إلا أن هناك قضايا مشتركة نجدها في كليهما.
وبادي بدء لا يسعنا إلا أن نعترف للكاتبة بما بذلته من جهد وبما كان لها من وقفات ونظرات تحليلية موفقة لبعض ما سجلته وعرضت له بالبحث، ولكنّ هذا التقدير لا يمنعنا، بل يحتم علينا أن نسجل بعض الملحوظات التي يمكن أن يكون لها نتائج خطيرة.
ومع وجود قضايا مشتركة بين الكتابين -كما قلت- إلا أن الذي نودّ أن نقف معه كتاب الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق أما الكتاب الأول فعلى الرغم ممّا يشتمل عليه من قضايا كثيرة إلا أننا نكتفي هنا بالتنبيه على بعض الأمور التي يدركها القارئ لأول وهلة، من ذلك هذا الموقف الذي وقفته الكاتبة من علماء البلاغة وأئمة التفسير في القديم والحديث حتى قبل أن تخوض غمار التفسير أو الحديث عن الإعجاز. ولنستمع إليها وهي تحدثنا عن منهج شيخنا تقول:"وكان المنهج المتبع في درس التفسير -إلى نحو ربع قرن من الزمان- تقليديًا أثريًا لا يتجاوز فهم النص القرآني على نحو ما كان يفعل المفسرون من قديم، حتى جاء الامام الأستاذ أمين الخولي فخرج به عن ذلك النمط التقليدي وتناوله نصًّا أدبيًا على منهج أصله، وتلقاه عنه تلامذته وأنا منهم"(1).
ومن هذا المنطلق تستمر الكاتبة - وهذا ما يلحظه أي قارئ - لا تألو جهدًا ولا تجد فرصة ولا تدع صفحة إلا وتحاول فيها أن تنال من المفسرين قديمهم وحديثهم ومع أنها تكتب في التفسير البياني، إلا أنها في كل آية تأتي لحشد من الأقوال، سواء مما ذكره المفسرون واستحسنوه أم من الذي ذكروه ليردّوه، تأتي بهذه الأقوال جميعها لتنسبها إلى المفسرين على أنها أقوال مختارة لهم، وما نظن مثل هذا يتفق مع عرفان الجميل أو مع الأمانة العلمية.
ونضرب مثلًا لذلك بما ذكرته من أقوال كثيرة في تفسير قوله سبحانه: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} حيث ذكرت أربعة أقوال من تفاسير الباطنية. وقوله سبحانه {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} حيث نقلت عن المفسرين أن المذكور في الآية والذي سيعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ألف قصر بما فيه من فرش ونساء وخدم. وليس المفسرون وحدهم الذين تقف منهم الكاتبة هذا الموقف وإنما علماء اللغة من نحويين وبلاغيين كذلك فأكثرهم كما تقول. طارئون على العربية لم يكسبوها ذوقًا
(1) التفسير البياني للقرآن، مقدمة الطبعة الأولى، ص 13.
وسليقة. وإن أجادوها علمًا وصنعة" (1).
وهكذا تجعل صاحبة التفسير البياني -رحمها الله- القارئ في متاهة من كثرة ما تورده من أقوال حق على ذي التفسير البياني أن يتجنبها وهذا هو دأبها.
وقد تأتي باللفتة البيانية مبينة جدتها، زاعمة أن المفسرين لم ينتبهوا لها مثال ذلك عند قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، في سر التعبير بالجار والمجرور ترى أن المفسرين القدامى لم يتنبهوا لهذا السر البلاغي وترى أنه جاء للتقرير والتأكيد وتقوية الصلة (2) ولعل هذا ما لحظه الشيخ محمد عبده.
وفي تفسير قول الله تعالى
…
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} تدعي أن أحدًا من المفسرين لم يتنبه لسر التعبير بكلمة "زرتم".
ولا أود أن أحيل القارئ على ما كتبه الشيخ محمد عبده في تفسيره هذه الآيات لكني أنقل ما قاله المفسرون القدامى، حتى يدرك القارئ إدراكًا جازمًا أنّ أئمتنا رحمهم الله كانوا يقفون مع كل كلمة من كلمات هذا القرآن مبينين جمال موقعها وأصالتها في موضعها، وما تحدثه في العقل والنفس وما لها من إيقاع وجَرْس، ورحم الله الإمام الأندلسي ابن عطية إذ يقول: إنك لو أدرت لسان العرب كله على أن تأتي بكلمة مكان كلمة في كتاب الله ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
يقول العلامة أبو السعود عند قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وزيادة الجار والمجرور مع توسيطه بين الفعل ومفعوله، للإيذان من أول الأمر، بأن الشرح من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم، وتشريفًا له عليه الصلاة والسلام إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن" (3).
(1) المرجع السابق، ص 42.
(2)
المرجع السابق، ص 65.
(3)
إرشاد العقل السليم ج 5 ص 275، مطبعة محمد عبد اللطيف.
وأنقل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عند قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} يقول: "قيل فيها "حتى زرتم المقابر"، تنبيهًا على أن الزائر لا بد أن ينتقل عن مزاره فهو تنبيه على البعث"(1).
ونقل هذا القول كذلك صاحب روح المعاني وزاد عليه قوله: "وفيه إشارة إلى قصر زمن اللبث في القبور"(2).
نحن لا ننكر على الكاتبة الفاضلة أن تستنتج وتقرر، ولكن الذي ننكره على العصريين أن يستخفهم الإعجاب بأنفسهم فيحملهم أن ينالوا ممن سبقهم وأن تكون أقلامهم معاول لهدم ذلك الصرح الذي شيد على مدى تاريخ هذه الأمة. أفليس من الهدم أن تصف أقوال المفسرين بأنها أقوال مشوشة؛ وذلك لأن كل واحد منهم لا يكتب إلا وهناك فكرة تسيطر عليه؟ إنك لتتمنى أن تجد كلمة ثناء واحدة، إنها تحاول أن تتصيد الأخطاء ولو بغير حق. استمع إليها وهي تخطّيء الزمخشري شيخ البيان وهو يفسر قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} "ومعنى اصطحاب اليسر والعسر أن الله، أراد أن يصبيهم، يعني المؤمنين، بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية للقلوب"(3) تقول: إنه تعوزه الدقة في موضعين: التعبير بالبشرى عن الإصابة أولًا والتشبيه في قوله حتى جعل اليسر كالمقارن للعسر.
قل لي بربك أي الكلامين تعوزه الدقة، أكلام جار الله الزمخشري أم كلامها هي؟ كيف نسيت قول الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية ص 57 ج 13.
(2)
تفسير روح المعاني ج 30 ص 224. ذكر أبو حيان في البحر قال "وسمع بعض الأعراب {حَتَّى زُرْتُمُ} قال بعث القوم للقيامة ورب الكعبة. فإن الزائر منصرف لا مقيم وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي ج 8 ص 507.
(3)
الكشاف للزمخشري ج 4 ص 771.
وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} هذا أولًا. وأما ثانيًا فعبارة الزمخشري - وقد علك اللغة شيحها وقيصومها - بعيدة عن أن يكون فيها مطعن، لأن مثل هذا التشبيه الذي لم ترتضه الكاتبة معروف مألوف.
أقلّوا علينا لا أبا لأبيكم
…
من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا
لا أود أن أطيل الحديث عن هذا الكتاب فربما كان للحديث عنه مجال آخر. أما الكتاب الثاني فهو "الاعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق يقع الكتاب في (509) صفحات استغرقت مسائل ابن الأزرق نصف الكتاب أو يزيد ومع أن الكتاب ينتظم فصولًا قيمة إلا أننا نود هنا أن نسجل بعض الملحوظات حول موضوعات هذا الكتاب الذي تبتدؤه الكاتبة بهذه العبارة بعد الخطبة "لولا نسب لي في الشيوخ عريق لتهيبت التصدي لهذا الموضوع الدقيق" (1) وأول ما نسجله هنا أن الكاتبة -رحمها الله- حينما أعطتنا نبذة عن تاريخ الإعجاز ومن كتبوا فيه صورت لنا أئمتنا تلك الصورة المستكرهة المنفرة فحين تحدثت عن الباقلاني وعبد القاهر وغيرهما إلى الرافعي رحمهم الله (2) لم تتحدث بكلمة واحدة عن النظريات التي جاء بها أولئك أو عمّا أغنوا به المكتبة القرآنية وإنما كان حديثها نتفًا اقتطعَتْها من مقدمات كتبهم يذكرون فيها مآثرهم ويثني كل واحد على نفسه وكتابه ويتنكر لكل الجهود التي سبقته وهذا شيء مؤلم حقًّا. كما تصور الكاتبة أئمتنا بأن اللاحق منهم يجحد فضل السابق، فبعد أن ذكرت الباقلاني وعبد القاهر بما لا ينبغي ان يذكرا به تقول: "وجاء القرن السادس فلم ير في فِصَل ابن حزم ما ينهي الصراع المذهبي بين المفسرين والمتكلمين في الإعجاز والنبوة كما لم يجد في شافية الجرجاني ما يشفي غليلًا أو يروي ظمأ. ولا صح أن عبد القاهر جاء بدلائل الإعجاز على نحو تؤخذ
(1) ص (11).
(2)
كما أنها تناسبت وتجاهلت من لا ينبغي أن يتجاهل ممن كان لهم فضل لا ينكر وحرى أن يكتب كلامهم بالتبر لا بالحبر كصاحب النبأ العظيم أستاذنا محمد عبد الله دراز رحمه الله.
باليد أو بلغ منها ما قاله من إقرار الأمور قرارها ووضع الأشياء في مواضعها وبيان ما يشكل وحل ما ينعقد والكشف عما يخفى، حتى يزداد السامع ثقة بالحجة واستظهارًا على الشبهة واستبانة للدليل" (1).
أهملت الدكتورة ما ذكره المؤلفون وما أشادوا به من فضل السابقين عليهم ذكرت مثلًا تكفير ابن حزم للباقلاني ولكنها لم تذكر شيئًا عن إشادة العلوي بعبد القاهر، أيليق ذلك بصاحبة النسب العريق بالشيوخ؟ وهكذا كل حديثها عن كل من حاموا حول الإعجاز أو كتبوا فيه.
ومن الإنصاف هنا أن نستمع إلى ما ذكره صاحب الطراز في مقدمته مشيدًا بذكر عبد القاهر متمنيًا أن يكون قد اطلع على كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة يقول: ولم أطالع من الدواوين المؤلفة مع قلتها إلا كتبًا أربعة أولها كتاب المثل السائر للشيخ أبي الفتح نصر بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير وثانيها كتاب التبيان للشيخ عبد الواحد عبد الكريم. وثالثها كتاب النهاية لابن الخطيب الرازي ورابعها كتاب المصباح لابن سراج المالكي.
وأول من أسس من هذا العلم قواعده وأوضح براهينه وأظهر فوائده ورتب أفانينه الشيخ العالم القدير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهدّ من سور المشكلات بالتسويد المشيد، وفتح أزهاره من أكمامها وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والجزاء وله من المصنفات كتابان أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على شيء منهما مع شغفي بحبهما وشدة إعجابي بهما إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما، ولست بناقص لأحد فضلًا ولا عائب له قولًا فأكون كما قال بعضهم:
(1) الإعجاز البياني للقرآن ص 21.
بنقصك أهلَ الفضلِ بان لنا
…
أنك منقوصٌ ومفضولُ
ولا أدعي لنفسي إحراز الفضل والاستبداد بالخصل فأكون كما قال بعضهم:
ويسيء بالإحسان ظنًّا لا كمن
…
هو بابنه وبشِعرِه مفتون (1)
انتهى كلام صاحب الطراز.
وهكذا أئمتنا رحمهم الله تعالى يعترف اللاحق منهم بفضل السابق ولا يدّعي أنه صاحب الفضل وحده.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وأعتذر أن أطلت النقل فلقد رأيتني مضطرًا لذلك لما يجد القارئ من جحود فيما ذكرته الدكتورة وحبذا لو انصفت، فعرضت لشيء من الحسنات مع ما تود ذكره من سلبيات ومثالب، سامح الله الدكتورة عائشة عبد الرحمن ونسأل الله أن يمن علينا بنعمة الشكر: شكر الله، ثم شكر أئمتنا الذين أجهدوا أنفسهم رفعًا للواء الدين. وجنَّبَنا اللهُ الحيفَ حتى لا يحيف علينا غيرنا.
ثم الملحوظة الثانية نسجلها ونحن نعجب كيف تخفى على من كان لها نسب في الشيوخ عريق وهي تعلق على قول العلوي في الطراز "ثم لو عذرنا من كان منهم ليس له حظ في المباحث الكلامية ولا كانت له قدم راسخة في العلوم الإلهية وهم الأكثر منهم السكاكي وابن الأثير وصاحب التبيان"(2) تعلق على هذه العبارة بقولها: "لعله ابن القيم الجوزية صاحب كتاب التبيان في أقسام القرآن"(3) وابن القيم كما نعلم ويعلم غيرنا كان ذا باع في العلوم الإلهية والمباحث الكلامية هذا أولًا. وأما ثانيًا فكتاب التبيان لابن القيم ليس له دخل في الإعجاز وإنما يتحدث
(1) كتاب الطراز للإمام يحيى بن حمزة العلوي. ط دار الكتب العلمية ج 1، 3 - 4.
(2)
المرجع السابق ج 3 ص 368.
(3)
انظر الإعجاز البياني ص 23 بالهامش.
عن أقسام القرآن. وأما ثالثًا فقد كان الرجلان متعاصرين فابن القيم توفي سنة 751 بينما توفي العلوي سنة 749. وأما رابعًا فكتاب التبيان كما رأينا ذكره صاحب الطراز منسوبًا للإمام عبد الكريم أو عبد الواحد وليس هذا اسم ابن القيم بالطبع (1). ما كنا نظن أن الكاتبة تقع في مثل هذا الخطأ العلمي ولكل جواد كبوة، وجل من لا يسهو.
الملحوظة الثالثة: وهي تتكلّم عن الحرف القرآني من حيث زيادته أو حذفه، وبعد أن تحدثت عن الباء في خبر ليس و (ما) المشبهة بها - كان لها - والحق يقال - لفتات جيّدة ولمحات في الحرف القرآني، ما له من سر وما يؤديه من رسالة، نقول هذا ونحن نعترف للكاتبة فلا نقف منها ذلك الموقف الذي وقفته من الأئمة والعلماء، وبعد ذلك عوضت لما عدّوه محذوفًا من الحروف وذكرت من ذلك آيات ثلاثًا وهي قوله سبحانه:{قَالوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85]{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] حيث ذكرت أن النحويين يقدّرون (لا) .. "أي تالله لا تفتأ" .. يبين الله لكم لئلا تضلوا" .. وعلى الذين لا يطيقونه .. وهذه الآية الأخيرة هي ما يعنينا هنا فلقد أطالت الكاتبة فيها القول، ولكنها - والحق يقال - جانبها الصواب والدقة الموضوعية. ولكي لا يتهمنا القاريء الكريم بالتحامل وعدم الإنصاف، نرى من الخير أن ننقل بعض عباراتها، حتى يكون القارئ على بينة من الأمر. تقول: منهم من قال إنها منسوخة والقول بنسخها هو أول ما أورده الطبري من الأقوال في تفسيرها: .. قال بعضهم كان ذلك في أول ما فرض الصوم وكان من أطاقه من المقيمين - غير المسافرين - صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا، حتى نسخ ذلك، فلم تزل الرخصة إلا للمريض والمسافر".
(1) انظر مقدمة كتاب البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن لابن الزملكاني وما كتبه الدكتور شوقي ضيف في كتاب البلاغة. تطور وتاريخ.
يعين النسخ بقوله تعالى في الآية بعدها .. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
…
وكذلك أشار الزمخشري في (الكشاف) إلى القول بنسخ الحكم بالإفطار والفدية على الذين يطيقونه ونقله أبو حيان وقال .. وهذا قول أكثر المفسرين.
على أن الإمام الطبري نقل كذلك، بعد القول بنسخ الحكم في الآية قول آخرين "لم ينسخ ذلك ولا شيء منه وهو حكم من لدن نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة"(1).
"القول بأن الحكم فيها نُسخ بالآية بعدها إنْ لم يوهنه ما نقل الإمام الطبري من قول من قرروا أنه لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبت من لدُن نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة فقد بقي أن الآيتين تشرعان لحالين مختلفين:
الفدية على من يطيقونه طعام مسكين.
والقضاء على من كان مريضًا أو على سفر عدةٌ من أيام أخر
…
" (2).
"
…
فندرك أن الأمر في احتمال الصوم إذا جاوز الطاقة إلى ما لا يطاق سقط التكليف، لأنه لا تكليف شرعًا بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها فالحكم بالفدية في الآية غير وارد على من يستطيعونه، إذ التكليف مع الاستطاعة قائم.
وغير وارد كذلك على من يطيقونه، بسقوط التكليف عمن لا يطيق.
وإنما الفدية تيسير على من لا يطيقونه، بمعنى يستنفد الصوم طاقتهم وأقصى احتمالهم، فليسوا بحيث يستطيعون القضاء عدة أيام أخر. ونقبل هنا قول من ذكروا
(1) الإعجاز البياني للقرآن ص 181.
(2)
المرجع السابق ص 182.
في تفسير الآية:
"المريض الذي لا يرجى شفاؤه والشيخ الفاني الهرم: لا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها ليتمكن فيها من القضاء"(1).
وكلام الكاتبة الفاضلة، نفهم منه أن الإمام الطبري نقل القول بالنسخ ثم نقل بعده قولًا آخر بيّن فيه أن الآية محكمة إلى قيام الساعة، ورغم أن القول بالنسخ قاله أكثر العلماء - كما نقلت الكاتبة - إلا أنها ضعفته لأكثر من سبب ولعل في أولها توهين الإمام الطبري للقول بالنسخ، وأودُّ أن نتحاكم إليك أيها القاريء الكريم، فأنا والله أعجب وستعجب معي أو أكثر مني كذلك حينما تعرف ما قاله الطبري .. ومن المستحسن هنا أن نذكر كلمة موجزة عن منهج هذا المفسر العظيم، حينما يريد تأويل آية من كتاب الله يقول مثلًا .. القول في تأويل قوله تعالى .. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} يفسر الآية بكلام يصوغه هو ثم يقول: ذكر من قال ذلك فيذكر الروايات بأسانيدها التي تؤيد ما فسر به الآية، ثم يقول وقال قوم كذا .. ذكر من قال ذلك. وهكذا يذكر ما في الآية الكريمة من أقوال وينقل الروايات التي تسند كل قول بعد ذلك يقول: وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول من قال كذا .. وهذا منهج علمي قويم فالطبري رحمه الله بعد أن يذكر كل قول وما يؤيده من روايات يختار ما يرجحه مستدلًا لهذا الترجيح. وهذا ما اتبعه الطبري في هذه الآية فقد ذكر فيها أقوالًا عدّة اقتصرت الكاتبة على قولين القول بالنسخ وهو في الجزء الثاني صفحة (77) والقول بعدم النسخ (صفحة 79) وهو أن حكم الآية مثبت من لدن نزول الآية إلى قيام الساعة.
وهذه العبارة يوهم صنيع الكاتبة أنها رأي الطبري الأخير. وقد قلت لك إنك ستعجب أكثر من عجبي ولتستمع إلى ما قاله الطبري وأهملته الكاتبة وطوته ولكن لا تسلني لِمَ؟ فأنا مثلك لا أعلم بخفايا الناس. في صفحة (82) يقول الطبري:
(1) صفحة 183، 184.
"وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" منسوخ بقول الله تعالى ذِكْرُهُ "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" لأن الهاء التي في قوله "وعلى الذين يطيقونه" من ذكر الصيام ومعناه وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين فإذا كان ذلك كذلك وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام كان معلومًا أن الآية منسوخة هذا مع ما يؤيد هذا القول من الاخبار التي ذكرناها آنفًا عن معاذ بن جبل وابن عمر وسلمة بن الأكوع من أنهم كانوا بعد نزول هذه الآية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسقوط الفدية عنهم وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فألزموا فرض صومه وبطل الخيار والفدية.
الطبري إذن لم يوهن القول بالنسخ بل اختاره ورجحه ودلل له، وكذلك الزمخشري ذو القدم الراسخة؟ في البيان العربي، وكذلك النحوي اوؤي أبو حيّان، كلُّ أولئك وغيرهم رأوا أن خير ما تحمل عليه الآية هذا الوجه من التأويل، فليس فيه تكلف، ولا تحميل للنص ما لا يحمل.
بقي أن ننظر فيما اختارته الكاتبة مخالفة للمفسرين، وأنت أيها القارئ إذا رجعت البصر وأعدت النظر فيما نقلناه لك من كلامها وجدت أن في كلامها اضطرابًا وخفاءً فهي تقسم الناس أقسامًا ثلاثة:
أولًا: من يستطيعون الصوم وهؤلاء لا تقبل منهم الفدية.
ثانيًا: من لا يطيقون - كما تقول، ولم تقل من لا يستطيعون - وهؤلاء لا تقبل منهم الفدية كذلك لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
ثالثًا: إنما الفدية تيسير على من يطيقون، بمعنى من يستنفد الصوم طاقتهم وأقصى احتمالهم فليسوا بحيث يستطيعون القضاء عدة من أيام أخر.
1 -
وهذا القول مع كونه غير مقبول فقهًا لأن الشيخ الفاني والمريض مرضًا لا يرجى بُرؤه داخلان في القسم الثاني من الناس وهم الذين لا يطيقون، وعلى ما قررته لا تجب عليهما؟ الفدية لأنهما غير مكلفين.
2 -
وهو مرفوض كذلك من حيث البيان والبلاغة، لأن فيه بترًا وتشويهًا نجلُّ نحن والكاتبة النص القرآني عنه؛ لأننا حينما نفسر الذين يطيقونه بمن يستنفد الصوم جهدهم وطاقتهم فماذا نقول في قول الله بعد ذلك "وإن تصوموا خير لكم"؟ إنّ يسر الإسلام وعدالة أحكامه، ورحمة الله سبحانه كل أولئك يمنع هذا التأويل؛ إذ كيف يتأتى مع الرفق ومع قوله في آية الصيام {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} كيف يتأتى أن نقول للمريض مرضًا مزمنًا وللشيخ الهرم، صومك خير لك. كنا نرجو الكاتبة أن لا تقحم نفسها في مثل هذا الخضم، وأن تكتفي بما جاءت الآية من أجله وهو أنه ليس في الآية حرف محذوف، كما قرره العلماء من قبل، كما كنا نود منها أن تقفنا على سر التعبير القرآني بكلمة (يطيقون) بدل (يستطيعون)، لكنها - سامحها الله - تحاول أن تتعقب المفسرين كلما وجدت ذلك ممكنا وكلما سنحت لها فرصة في كل ما قالوه.
وبعد فنحن نرى أن ما قرره الأئمة في الآية هو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، فالآية منسوخة وهذا ينفي القول بزيادة (لا) كما يريحنا من أقوال وآراء مرجوحة.
الملحوظة الرابعة. حديث الكاتبة عن مسائل نافع بن الأزرق، فقد ذكرت لنا مقدمات عن اهتمام المغاربة بهذه المسائل وما قالوه في تلك المسائل من منظومات وهذا حسن لكننا كنا نودُّ من كاتبتنا أن تتحدث لنا عن القيمة العلمية لهذه المسائل وما يدور حولها من مباحث سواء كانت تتعلق بالسند أم بالمتن مع أنها خصصت لها نصف الكتاب أو يزيد. كما نود أن تعالجها علاجًا علميًّا موضوعيًا.
أولًا: هل يمكن أن نجزم بصحة سند هذه المسائل؟
ثانيًا: هل يمكن أن يوجه نافع مسائله هذه التي تقرب من المئتين لابن عباس في
مجلس واحد مستشهدًا على كل مسألة بأبيات من الشعر وأن يحفظ الجالسون أو بعضهم ذلك كله في هذا المجلس؟
ثالثًا: كان بعض هذه الأسئلة عن كلمات ما أظن أن أحدًا في زماننا يجهلها فكيف يمكن أن يسال عنها في ذلك العصر؟ أي إن هذه الأسئلة لم تكن كلها عما هو غريب.
رابعًا: كان بعض الشعر الذي استشهد به ابن عباس رضي الله عنهما لأولئك الذين قرأوا القرآن وعرفوا مضمون كلماته بعد نزولها كعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، حيث استشهد ابن عباس بشعره حينما سأله نافع عن كلمتي فاز وينزفون، ويشعر عمر بن أبي ربيعة حيث استشهد ابن عباس بشعره حينما سئل عن كلمة تضحى في قوله تعالى .. {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119] أفيكون شأن نافع الجدِل الخصِم اللّسِن أن يرضى بمثل ذلك الشبعر وهو يسأل عما قالته العرب قديمًا؟ ثعم أيكون شأن ابن عباس الفطن اليقظ أن يستشهد له بمثل شعر ابن أبي ربيعة (1)؟
خامسًا: كانت الكاتبة تعلق على كل إجابة فتقرها حينا وتمحصها حينا آخر وأظن أن القول الموضح كله عن ابن عباس رضي الله عنهما ما كان لنا أن نغير فيه ونبدل. إن مثل هذه القضايا الهامة حرية أن تؤخذ لها كل حيطة وحذر وأن نحيطها بكل فكر ونظر وأن نعدّ لها كل عدة.
سادسًا: لم تشر الكاتبة إلى سند هذه المسأل من قريب أو بعيد بل إن الأسلوب الذي ذكرتها به يوهم القاريء بصحة السند وقوته والأمر على العكس من ذلك تمامًا.
لذا أجد من الخير والفائدة والأمانة والإنصاف أن أعرض لأسانيد هذه المسائل: رويت مسائل نافع من ثلاث طرق:
(1) البيان القرآني لمحمد رجب البيومي.
1 -
ما أخرجه ابن الأنباري في الوقف والابتداء.
2 -
ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.
3 -
ما رواه السيوطي في الإتقان بسنده.
أما إسناد ابن الأنباري ففيه محمد بن يزيد اليشكري الميموني قال كذاب أعور يضع الحديث وقال ابن المديني رميت بما كتبت عنه وضعّفه جدًّا، وكذا قال أبو زرعة والدارقطني وابن معين .. وذكروا له أحاديث موضوعة وأما إسناد الطبراني ففيه جويبر بن القاسم صاحب الضحاك قال ابن معين ليس بشيء وقال النسائي والدارقطني وغيرهما متروك الحديث. وذكروا له أحاديث موضوعة.
وأما سند السيوطي ففيه عيسى بن دأب وهو ابن يزيد. قال البخاري وغيره منكر الحديث وكذا قال أبو حاتم وقال خلف الأحمر كان يضع الحديث. وبعد فهذه أسانيد مسائل ابن الأزرق ونظن بعد ذلك أننا بحاجة إلى الحيطة في قبول مثل هذه المسائل.
الملحوظة الخامسة: حاولت الكاتبة التفريق بين بعض الألفاظ القرآنية لتعطى كل لفظة مدلولها الذي يشهد به حسّ القرآن الكريم وهو عمل جيد وجهد مشكور، فلقد ذكرت مثلًا التفرقة بين الرؤيا والحلم، والإبصار والأنس، والنأي والبعد، والتصدع والتحطم، ونرجو أن تؤجر فيما ذهبت إليه وإن كان لنا أن نقول شيئًا فأحب أن أعلق على ما ذكرته من فرق بين الحلف القسم، وزوج وامرأة، ونعمة ونعيم.
ذكرت أن الحلف لا يكون إلا فيما هو كذب ومن هنا أسند الحلف كثيرًا إلى المنافقين، كما ذكر في كفارة اليمين "ذلك كفارة إيمانكم إذا حلفتم" أما القسم فإنما يكون لليمين الصادق صاحبها (1) .. وما نظننا نوافقها على هذا الذي ذهبت إليه والذي يظهر لي أن الحلف قد يكون صاحبه صادقًا أو كاذبًا.
هذا ما تشهد به الآيات {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 84]،
(1) انظر ص 204.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62]{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} [التوبة: 95]{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] فآية المائدة تتحدث عن كفارة اليمين للمؤمنين الذين لا يحلفون إلا صادقين ولكنهم يريدون أن يكفروا عن حلفهم وتلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلف ووجد أن من الخير أن يعود لما حلف عليه فليعد وليكفر عن يمينه.
أما القسم فإنما يأتي في معرض التأكيد والصيغ التي ذكرت في كتاب الله جميعًا كانت عن المنافقين والكافرين ولم تأت آية منها حديثًا عن المؤمنين قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38]. وقال تعالى .. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42] وفي سورة الأنعام: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ} [الأنعام: 109] وهذا بالطبع لا يشمل الآيات التي أقسم بها ربنا تبارك وتعالى كقوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}
…
وكأن الكافرين والمنافقين أرادوا أن يغلظوا الإيمان ليخفوا وراءها ما يتفاعل في نفوسهم من كذب وخديعة.
أما كلمتا زوج وامرأة فتقول الدكتورة عائشة كلمة زوج تأتي حيث تكون الزوجية هي مناط الموقف، حكمة وآية أو تشريعًا وحكمًا فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة، بخيانة أو تباين في العقيدة فهي امرأة لا زوج" (1).
وما جاء في آيات الله تبارك وتعالى لا يشهد لهذا الذي قالته .. وبعد الوقوف مع الآيات وتدبّرها نستنتج أن هناك فرقين بين هاتين الكلمتين:
أولًا: أن امرأة تطلق على الأنثى من الناس حتى لو لم تكن ذات زوج فكأنما هي تأنيث مرء أو امرئ قال تعالى في سورة القصص: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ
(1) انظر ص 212 - 213.
امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} وهما بنتا الشيخ الكبير كانتا غير متزوجتين وقال في سورة الأحزاب {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} أما زوج فلا تكون إلا حينما يكون رباط الزوجية قائمًا فكل زوج امرأة وليس كل امرأة زوجًا.
ثانيًا: تطلق كلمة زوج حينما يناط أمر بين الزوجين أي حينما تكون قضية مشتركة بينهما {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا} [البقرة: 35]{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] .. {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة: 11] فنحن نرى في هذه الآيات الكريمة أن هناك قضايا مشتركة بين الزوجين سواء كانت هذه القضية تبليغًا أم إنجابًا أم أمرًا آخر. أما قول الكاتبة بأن المرأة تستعمل حينما تتعطل آيتها من السكن والرحمة والمودة بخيانة أو تباين عقيدة فشيء نعجب منه فلئن جاز في امرأة نوح وأمرأة لوط فإنه لا يجوز في غيرهما. قال تعالى يحدثنا عن إبراهيم عليه السلام {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] وعن زكريا: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 5].
أما النعيم والنعمة فترى الكاتبة أن النعمة هي ما كانت دنيوية فحسب وأن النعيم ما كان أخرويًا فقط وأن قول الله تعالى .. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] إنما يقصد به النعيم الأخروي أي حينما يرون الجحيم يسألون عن النعيم الذي ضيّعوه (1) " وهذا التفسير خلاف ما يتبادر من فهم الآية الكريمة ومخالف للآثار الصحيحة (2) والذي نحسبه -والله اعلم- أن النعمة تختلف عن النعيم من حيث هي واحدة أما النعيم فكأنما هو اسم لجملة من النعم، وإنما لم يسألنا الله عن النعمة الواحدة لأننا نعيش في أنعم كثيرة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] فكان النعيم يدل على ما فيه زيادة على ما تقتضيه
(1) انظر ص 218.
(2)
راجع تفسير ابن كثير في تفسير هذه الآية ج 54 ص 547.
ضرورات الحياة (1)، ثم إن النعيم جاء موصوفًا. ثم إن وصف النعيم في مثل قول الله تعالى:{وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] وهذا الوصف لا يؤيده ما ذهبت إليه لأن وصف النعيم بالمقيم في الآخرة يدل على أن هناك نعيمًا في الدنيا ليس كذلك. وأيضًا فلقد استعملت كلمة نعيم مقصودًا بها النعيم الدنيوي في قول لبيد "وكل نعيم لا محالة زائل". لذلك استثنى منه نعيم الجنة والله أعلم.
الملحوظة السادسة: ظاهرة القسم بالواو: أطالت الكاتبة النفس في كتابيها التفسير البياني والإعجاز البياني وهي تتحدث عن القسم بالواو، فأتهمت وأنجدت وخلاصة ما ذهبت إليه أن القسم بالواو في أوائل السور خرج عن أصله، فالقسم إنما يكون لتعظيم المقسم به، ولكنه هنا ليس من هذا القبيل لذلك فإن القسم بالواو لا يحتاج إلى جواب، وهنا لم تأل الكاتبة جهدًا في النيل من المفسرين جميعًا ومعهم البلاغيون كذلك، فهم لم يفطنوا إلى ما فطنت إليه، بل سيطرت عليهم فكرة التعظيم؛ تعظيم المقسم به فوقعوا في الحيرة والاضطراب وبدأوا يتكلفون للقسم أي جواب، وإلا فما الصلة بين قوله {وَالْعَادِيَاتِ} وقوله {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} ؟ وما الصلة بين قوله و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ؟ إن ذلك كله ليس له ما يسوغه، لأن هذه الواو خرجت عن الأصل فلا داعي أن نجهد أنفسنا بالبحث عن جواب لهذا القسم. والذي أوقع المفسرين في هذا الخطأ وهذه الغفلة هو أن علماء البلاغة حينما قرروا أن الأمر والنهي والاستفهام والخبر يمكن أن يخرج كل منها عن الأصل الذي وضع له لم يقدروا أن القسم كذلك، وهناك خطأ آخر وقع فيه المفسرون، وهو أنهم حينما تحدثوا عن هذه الكلمات التي جاءت بعد الواو تحدثوا عنها مطلقة، فحينما تحدثوا عن الضحى تحدثوا عن الضوء في النهار كله، وحينما تحدثوا عن الليل وعن النجم أهملوا القيود التي ذكرها القرآن فلم يتحدثوا عن الليل إذا أدبر وإذا عسعس وإذا يسري وإذا سجى، ولم يتحدثوا عن
(1) وهذا ما تؤيده الأحاديث الكثيرة، والمرجع السابق.
النجم إذا هوى وإنما تحدثوا عن مطلق ليل ومطلق نجم وهذا ديدنهم قديمهم وحديثهم والثالثة الأخرى إن هؤلاء المفسرين جميعًا لم يفرقوا بين القسم بالواو وبين غيرها من صيغ القسم مثل لا أقسم .. وقد أدركت الكاتبة الفرق فمجيء القسم مقترنًا بحرف النفي دائمًا دليل على أن الله ليس -كما تقول- في حاجة إلى القسم.
وأخيرًا فما جاء بعد هذه الواو التي يسمونها واو القسم لا بدّ أن يكون أمرًا محسوسًا فهذا هو الغرض منه "فالصافات صفًّا والزاجرات زجرًا والتاليات ذكرًا" كذلك "الفارقات فرقًا والملقيات ذكرًا عذرًا أو نذرًا" وكذلك "المقسمات أمرًا والنازعات" كل هذه لا بدّ أن تكون أمورًا محسوسة لا يصح أن يراد بها الملائكة كما ذهب إليه كثير من المفسرين.
هذا هو خلاصة رأيها في ظاهرة القسم بالواو، ولنقتطع من كلامها بعضه ليطّلع عليه القاريء الكريم، تقول عند تفسير سورة الضحى:"ولقد ترددت في تأويل قوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} بـ"لا أقسم بالضحى وأقسم بالليل إذا سجى" لأن القرآن الكريم لا يستعمل القسم مسندًا إلى الله سبحانه. إلا مع "لا" النافية، باستقراء كل آيات القسم في القرآن. فكان لي من هذا الاستقراء، ما يؤذن بأنه سبحاته في غير حاجة إلى القسم"(1).
وعند تفسيرها لسورة النازعات ونقلها اختلاف العلماء في جواب القسم أين هو وما هو تقول: "ولا داعي عندنا لإطالة الوقوف عند هذه التأويلات، فليس القسم هنا على أصل وصفه اللغوي، وإنما يتم لنا بالمقطع الأول من السورة -بآياته الخمس- مشهد حسِّي وصورة مادية للخيل فيما تعاني من عنف النزع وقوة الجذب وشدة التجمع للإفلات والانطلاق، كي تحسم أمرًا أريدت له وتبت في مصير حشدت له قواها، وعانت في السبق إليه وما عانت من نزع وجذب، ومن تجمع وتقبض وتوثب، شأن النازع المغرق والسابح في غير مجال".
(1) التفسير البياني ص 25.
وفي كتابها الإعجاز البياني تقول: "وقد اتجه بها -الواو- المفسرون أو جمهرتهم فيما أعلم إلى تعظيم المقسم به ثم مضوا يلتمسون وجه العظمة في كل ما تلا الواو، وأكثر ما ذكروه من ذلك يدخل في الحكمة وهي تختلف تمامًا عن العظمة
…
" (1).
" .. ثم إنهم غالبًا لم يراعوا القيد في المقسم به، ففى الضحى مثلًا تحدثوا عن عظمة الضياء، وليس مقصورًا على وقت الضحى، بل لعله في الظهيرة أقوى
…
وفي الليل إذا سجى تحدثوا عن عظمة الليل مطلق الليل، وهي في الآية مقيدة بـ {إِذَا سَجَى} وجاء في آيات أخرى مقيدًا بـ {إِذَا عَسْعَسَ} . و {إِذَا يَغْشَى} ، و {إِذَا يَسْرِ} ، و {إِذْ أَدْبَرَ} .
وفي آية النجم تحدثوا عن عظمة النجم، وهو في الآية مقيد بـ:{إِذَا هَوَى} .
واضطروا كذلك في ربط القسم بهذه الواو، بجواب قسمه: فأين الصلة بين عظمة العاديات ضبحًا، وبين كنود الإنسان لربه، وبعثرة ما في القبور؟ وما معقد الصلة بين عظمة الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وبين:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ؟ أو بين عظمة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} و {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ؟
وقيل ذلك كله، ما السر البياني لهذا البدء بواو القسم؟ وهل كان العربي الأصيل في عصر المبعث لا يجد فرقًا بين الآيات: والضحى، والليل إذا سجى، والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والنجم إذا هوى وبين مألوف التعبير بصريح القسم: أقسم بالضحى وبالليل إذا سجى وأقسم بالنجم إذا هوى؟
إن التعظيم الذي لفتهم من واو القسم يتحقق مثله بصريح لفظ القسم، فهل العدول عن:(أقسم بالنجم) إلى (والنجم) لا يعطي أي ملحظ بياني؟ " (2).
"
…
وهم قد ذكروا في القسم بالليل والنهار مثلًا
…
وحمّلوا الآيات من
(1) ص 226.
(2)
ص 227.
التأويلات الفلسفية والإشارية -في مثل ما نقرأ في تفاسير الفخر الرازي والنيسابوري والطبري والشيخ محمد عبده- ما لا نتصور أن هذه الواو يمكن أن تحمله من قريب أو بعيد. مع ملاحظة أن البيان القرآني يلفت إلى آيتي الليل والنهار، أو الشمس والقمر بغير القسم، فيفهمها الناس بأيسر تنبه كالذي في آيتي القصص:
"
…
من هنا كان وقوفي أمام هذه الظاهرة الأسلوبية في البيان القرآني، لعلي أجتلي من سرها البياني ما أضيفه إلى فكرة الإعظام التي سيطرت وحدها على كل من قرات لهم من المفسرين والبلاغيين.
والذي اطمأننت إليه بعد طول التدبر في الآيات المستهلة بالواو هو أن هذه الواو قد خرجت عن أصل معناها اللغوي الأول في القسم للتعظيم إلى معنى بلاغي، وهو اللفت بإثارة بالغة إلى حسيّات مدركة لا تحتمل أن تكون موضع جدل ومماراة، توطئة أيضًا حية لبيان معنويات يماري فيها، أو تقرير غيبيات لا تقع في نطاق الحسيات والمدركات" (2).
"
…
ولعل السلف الصالح من المفسرين ما فاتهم هذا الملحظ البياني إلا لأن علماء البلاغة قد عرفوا خروج الخبر والاستفهام والأمر والنهي عن معانيها الأولى في أصل اللغة، إلى معان بلاغية نصوا عليها في كتب البلاغة المدرسية، ثم لم يشيروا إلى خروج القسم عن معناه الأول فكان ما كان من اعتساف التأويل للآيات
(1) ص 229.
(2)
ص 230.
المبدوءة بواو القسم لتظل كما أراد لها علماء البلاغة، على أصل معناها اللغوي لا تخرج عنه إلى معنى بلاغي
…
" (1).
ولنستمع إليها عند تفسير سورة "والنازعات""وأمام ذلك من أسلوب القرآن في اللفت بالواو إلى مادي مدرك لا نستطيع أن نطمئن إلى تفسير "النازعات، بما اطمأن إليه أكثر المفسرين من أنها الملائكة تنزع الأرواح، إذ ليست الملائكة في نزعها للأرواح، وسبقها إلى تدبير أمر الله ممّا يدخل في نطاق الحسيات المدركة التي لا موضع فيها لجدل من المشركين أو مماراة، كما يبدو مستبعدًا في رأينا أن يلفت إليها القرآن للاستدلال على البعث، إذ لو أنهم كانوا يؤمنون بملائكة تنزع الأرواح وتدبر شؤون الكون بأمر الله لصدقوا بالبعث واليوم الآخر.
ونحن أكثر اطمئنانًا إلى تفسير النازعات بالخيل المغيرة" (2).
وأحبُّ أن أؤكد أن كثيرًا من المفسرين (3) وقد تحدثوا عن سرّ القسم في كتاب الله لم يحصروا ذلك في تعظيم المقسم به وإنما بينوا حكمًا كثيرة تناسب كل واحد من هذه المخلوقات التي أقسم بها سبحانه، وقد تكون تلك الحكمة توجيه الأنظار، وقد تكون التنبيه على خطأ قد وقع فيه المخاطبون، يقول الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير قوله {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}:"إذا رجعت إلى جميع ما أقسم الله به وجدته إما شيئًا أنكره بعض الناس، أو احتقره لغفلته عن فائدته، أو ذهل عن موضع العبرة فيه، وعمى عن حكمة الله في خلقه، أو انعكس عليه الرأي في أمره فاعتقد فيه غير الحق الذي قدر الله شأنه عليه؛ فيقسم الله إما لتقرير وجوده في عقل من ينكره، أو تعظيم شأنه في نفس من يحتقره أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره، أو لقلب الاعتقاد في قلب من أضله الوهم، أو خانه الفهم"(4) أهـ.
(1) ص 233 - 234.
(2)
التفسير البياني ص 408.
(3)
المعنى البلاغي الذي قصرت الواو عليه لا يتعارض مع ما قاله المفسرون البلاغيون.
(4)
تفسير جزء تبارك للشيخ عبد القادر المغربي ص 29.
وكثير منهم كذلك لم يتحدث عن هذه الأشياء حديثًا مطلقًا، وإنما تحدث عنها وعن حكمة القيود التي قيدت بها فلم يتحدثوا عن النجم فحسب وإنما تحدثوا عن الحكمة بتقيده بقوله تعالى:{إِذَا هَوَى} كذلك حينما تحدثوا عن الضحى، لم يتحدثوا عن مطلق الضوء -كما زعمت- وإنما من ذلك الوقت الذي تكون به الشمس في شبيبة النهار كما يقول الشيخ محمد عبده. أما الصلة بين القسم وجوابه فلم يتكلف لها المفسوودْ ولم يتعسفوا فيها. والذي يقف مع النصوص القرآنية الكريمة يدرك التناسب والصلة بين قوله {وَالْعَادِيَاتِ} وبين قوله {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}. وبين قوله {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وقوله {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. ثم ما الفرق بين هذا وبين ما جاء في لفظ القسم وبين ما جاء فيه من ذكر القسم صراحة مثل قوله سبحانه {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}. أفيقال ما الصلة بين القسم بهذا البلد وبين قوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} ؟ والسؤال يظل مطروحًا حتى على الرأي الذي ذهبت إليه فيقال ما سرّ مجيء قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} بعد قوله {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} .
الحق أن القسم بالواو كما يرشد إليه الحس القرآني أولا وكما فهمه العرب الذين نزل فيهم القرآن ثانيًا وكما قرره أئمة البيان والتفسير ثالثًا لم يخرج وضعه الأساس الرئيس وإن خروج الخبر والأمر والنهي والاستفهام كان لأغراض ذات صلة وثيقة مباشرة بمعاني هذه الأشياء، فالاستفهام مثلًا حينما خرج إلى الإنكار أو التقرير كانت هذه المعاني لازمة للاستفهام لأن الذي يستفهم عن شيء إنما يستفهم عن شيء إنما يستفهم عنه لينكره أو يحث عليه أو ينتزع اعترافًا به من المخاطب، وكذلك يقال في غير الاستفهام.
إن ورود فعل القسم مقترنًا بـ"لا"(1) ليس دليلًا على أن الله ليس في حاجة إلى
(1) وما ذهبت إليه هو أن (لا) نافية وهذا أحد أقوال كثيرة وقد رجحنا غير هذا في بحثنا عن الزوائد وهو بحث نشر في مجلة (دراسات).
قسم -كما تقول الكاتبة- وكيف يتفق هذا مع قوله سبحانه فيهم {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76] وقد أقسم الله تبارك وتعالى بنفسه وهذا أعرابي يسمع قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} : "ويحهم من أغضب الجليل فاضطروه إلى الحلف"(1).
أما أن القسم بالواو لا يكون إلا في المحسوسات فترده آيات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال قوله سبحانه {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} ، وأما أن الله تبارك وتعالى يذكر الناس بالليل والنهار الحكمة منهما دون الحاجة إلى القسم مثل آية القصص، فقول نعجب له فنحن نعلم أن القرآن الكريم لم يلتزم أسلوبًا واحدًا فيما أراد تقريره، حتى في قضايا الأحكام.
بقيت قضية هامة وهي قول الكاتبة "هل كان العربي الأصيل في عصر المبعث لا يجد فرقًا بين الآيات المبدوءة بواو القسم {وَالضُّحَى} .. وبين القسم الصريح (أقسم بالضحى) .. تريد الكاتبة أن تقول إن العربي كان يدرك الفرق بين لفظ القسم صراحة وبين ذكر الواو النائبة عن القسم ومن أجل هذا فسرت. والضحى "بـ أقسم بالضحى" والليل بـ أقسم بالليل" ولما كان هذا الفعل (أقسم) لم يذكر في كتاب الله تعالى إلا مقترنًا بالنفي استنتجت أن الواو قد خرجت عن هذا الأصل.
وللإجابة عن تساؤل الكاتبة نرشد القارئ إلى كتاب أبي إسحاق الجرمي "أيمان العرب في الجاهلية" وسيجد بنفسه أن العرب عرفوا هذه الواو ولم يخرجوا بها عن أصلها كما خرجوا في الأمر والنهي والاستفهام نذكر من ذلك مثلا: "لا والسماء، لا والماء لا والطارقات، لا والساعات"، لا والقمر الطاحي (2)"، وقد اشتهر قولهم "وأبيك": إن العربي حينما كانت تطرق مسامعه هذه الواو كان يدرك أنها للقسم، وكان إذا أراد أن يقسم كان يستغني بهذه الواو كذلك. نعم يمكن أن يكون هناك
(1) راجع الكشاف للزمخشري ج 4، ص.
(2)
كتاب إيمان العرب ص 23.
فرق بين الواو والقسم الصريح من غير هذه الجهة. جهة القسم، وإنما من حيث المقسم عليه أو من حيث الغرض النفسي الذي يقصده المتكلم؛ فالله تبارك وتعالى مثلًا أقسم باليوم الموعود، تارة بالواو وتارة بالقسم الصريح وكذلك بمكة فقال {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وقال {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقال {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} وقال:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} كل هذه أقسام.
بقي أن يتلمس البيانيون الحكمة التي جاء من أجلها القسم تارة بالواو وأخرى بغيرها، أما أن نذهب بالواو غير هذا المذهب فذلك لا يُسعف عليه النص بل هو اعتساف وتكلف.
وما ذهبت إليه من أن القسم بالواو لا بد أن يكون أمرًا محسوسًا، ومن هنا لا يمكن أن يراد بالنازعات الملائكة لأنهم كانوا لا يؤمنون بملائكة تنزع الأرواح ولو كانوا يؤمنون بها لآمنوا بالبعث، فهذا ما لا نرضاه من الكاتبة؛ ذلك لأن القوم كانوا يؤمنون بالملائكة، بل منهم من كان يعبدها، ولقد سجل القرآن هذا في أكثر من آية {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ
…
إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19 - 20].
ولئن أمكن أن نفسر النازعات بالخيل فإن كثيرًا من الأقسام بالواو لا يمكن أن نفسره بالمحسوس -كما قلنا من قبل- قال تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} .
تلك بعض الملحوظات أحببت أن أسجلها هنا، ولا يظننّ أحد أنني أريد أن أقلل أو أوهن أو أهون مما قامت به الكاتبة فمعاذ الله أن نكونَ من الجاحدين وللمجتهد نصيب إن أخطأ. كل الذي لا نقره، ولا نرضاه أن نتنكر لجهود السابقين وأن نصفهم بما لا يليق بنا وبهم وليس معنى هذا أن نوافقهم في كل ما قالوه فكلٌّ منا يؤخذ منه ويردّ عليه إلا الذي لا ينطق عن الهوى.
جزى الله الكاتبة خيرًا وعفا عن زلاتها وزلاتنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأكتفي بذكر هذه النماذج التي تثبت لنا أنّ مخالفة المفسّرين أمرٌ له عدّته وضوابطه، ولا يجوز أن تكون بالتشهّي أو لدافع شخصيّ أو طلبًا للشهرة.