الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول عند قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} وهي موضع حديثنا: وما جاءت به التفاسير المعتبرة، نرى أن لها وجهتين لا ثالث لهما. فالوجهة الأولى: تبين مصير الجبال في يوم القيامة حيث تؤول إلى هباءات متناثرة في السماء كأنها سحابة متحركة بالفضاء .. أما الوجهة الثانية فهي تشير إشارة صريحة إلى حركة الأرض اليومية حول نفسها والفضائية حول الشمس بحيث نرى الجبال جامدة صامدة على سطح الأرض، ولكنها هي في الحقيقة متحركة بحركتي الأرض وفي الواقع إن كل نقطة على سطحها هي في حركة مستمرة لا استقرار لها ولكن لا نحس ولا نشعر بهذه الحركة والوجهة الأخيرة هذه أقرب من الأولى إلى الحقيقة لما جاء في آخر الآية {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} من حيث. لا يتلاءم إتقان الصنعة مع التخريب والتدمير، بل يتواءم مع الإنشاء والتعمير بحركتي الأرض الخارقتين بتأثير الجاذبية، دون خلل واضطراب يصييان الأرض من جراء الحركتين المذكورتين. فيها لها من صعنة متقنة اتقانًا تحير العقول الجبارة (1)
نكتفي بهذه النماذج، ومن دراستنا لها نجد أن أقل أسباب الاختلاف بين المفسرين ما يرجع إلى السنة المطهرة، فليس هناك قولان كان سببهما حديثين مختلفين، وإنما يرجع إلى اللغة من حيث ورود أكثر من معنى للكلمة، أو مرجع الضمير أو غير ذلك مما يمكن أن نستنتجه من أسباب، كما رأينا أن السياق يساعدنا كثيرًا في حل كثير من الإشكالات، وسنزيد هذا المعنى إيضاحًا في آخر هذا المبحث، حينما نختار سورة أنموذجًا لمعرفة ما فيها من اختلاف المفسرين.
*
التجرد الحقّ أساس لفهم القرآن الكريم:
إن حديثنا عن قواعد التفسير ودعائمه من لغة ومأثور وسياق، وما يتصل بذلك كله، إنما يكون مجديًا ومفيدًا إذا كان القارئ أو المفسر متجردًا من جميع المؤثرات الخارجية والداخلية، أعني أن لا يكون متكئًا على قول ما، أو معجبًا برأي ما، يريد أن يحمل القرآن عليه، ولقد رأينا - كما حدثتك من قبل - من يتمحل
(1) بصائر جغرافية ص 281.
في فهم القرآن الكريم، ويتكلف تكلفًا يبعده عن مواطن الحق والصواب.
1 -
ولا زلت أذكر أنه قبل سنين، جاءني بحث من إحدى الجامعات، لأحد المدرسين لتحكيمه وتقويمه، وكان الأخ الباحث ممن يرون رأيًا ما في بعض أمور العقيدة، وكان مما قاله ونقله وهو يتحدث عن الوقف في آي القرآن الكريم، وعرض للآية الكريمة في سورة الأنعام، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] فكان رأي الأخ الباحث، أنه ينبغي أن يكون الوقف عند قوله تعالى:{فِي السَّمَاوَاتِ} فنقرأ الآية هكذا، (وهو الله في السموات) ونقف هنا، ونبدأ مستأنفين:(وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)، ويقول إن هذا الرأي وإن كان ابن كثير لم يرتضه، فإن شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله قد أرتضاه، وبعد تقويمي للبحث أكدت، أن ابن جرير-رحمه الله لم يقل هذا الرأي، ونقلت قول ابن جرير في صلب التقويم، ثم جاءني البحث من جهة رسمية أخرى، وإذ بالباحث لم يغيّر في البحث شيئًا، ثم جاءني البحث مرة ثالثة، وإذ هو على حاله. فقد أبى الباحث أن يرجع عما كتبه
…
وأنا أعجب من مثل هذا الإصرار على خطأ. أنا لا أحجر على الكاتب أن يرى ما يرى، وأن يقول ما يقول، لكن الذي لا يرضاه أحد، ويأباه الشرع الحنيف، ويرده العقل السليم أن نقوّل العلماء ما لم يقولوه، وأن ندّعي على ابن جرير-رحمه الله ما هو بريء منه، وما أظن أن الباحث لم يرجع إلى تفسير الطبري، لكن يظهر أنه قرأ في تفسير القرطبي عند تفسير هذه الآية، أن رأي ابن جرير الوقف عند قوله سبحانه (في السموات) وأنا على يقين من أن القرطبي لم يكن قد اطلع على تفسير ابن جرير، لأن تفسير ابن جرير لم يعثر عليه إلا متأخرًا، فلم يكن معروفًا عند المشارقة، فضلًا على أن يكون معروفًا عند المغاربة .. كم كان من الخير لهذا الباحث، أن يرجع إلى الحق، وبخاصة فيما يتصل بكتاب الله تبارك وتعالى.
2 -
قرأت في كتاب أسباب اختلاف المفسرين "عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] قال أبو بكر الجصاص: وهو صفة الخلفاء الراشدين الذين مكنهم الله في الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم، وقد مكنوا في الأرض فوجب أن يكونوا أئمة قائمين بأوامر الله، مُنتهين عن زواجره ونواهيه، ولا يدخل معاوية في هؤلاء؛ لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، وليس معاوية من المهاجرين بل هو من الطلقاء [الأحكام 3/ 246]، وما كان أغنى الجصاص عن التنصيص على إخراج معاوية من تلك الأوصاف لولا هوى في نفسه وتعصب لمعتقده، قال الذهبي تعقيبًا على ذلك:"وما كان أولى بصاحبنا أن يترك هذا التحامل على معاوية الصحابي، ويفوض أمره إلى الله ولا يلوي مثل هذه الآيات إلى ميوله وهواه"[التفسير والمفسرون: 2/ 443].
3 -
ومن الإنصاف أن أشكر الكاتب، وأدعو للذهبي بالرحمة، فهذا أمر يستحق الشكر، لكنني قرأت في اليوم نفسه، كتابًا آخر (1)، جاء فيه ما يلي.
"وفي قوله": {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال ابن القيم: وفي تفسير علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال: الذين يقولون إن الله على كل شيء قدير، وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها، ولو كانوا يقرون بها، فمنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به، ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء، لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وأنه سبحانه يقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء أن يقيم القلب أقامه،
(1) فصول في أصول التفسير ص 85.
وإن شاء أن يزيغه أزاغه لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول: من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، وأنه نزل إلى شجرة فكلم موسى كلمة منها، وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها، وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده، وأنه يتجلى لهم ويضحك، وأنه يريهم نفسه المقدسة، وأنه يضع رجله على النار، فيضيق بين أهلها، وينزوي بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك من شؤونه وأفعاله التي من لم يقر بها لم يقر بأنه على كل شيء قدير، فيالها كلمة من حبر الأمة، وترجمان القرآن" وأنا لا أود أن أعلق على مثل هذا القول، لكني ما كنت أود أن يصدر عن نحرير مثل ابن القيم رحمه الله، وأن ينقله أخ كاتب، تلمس في كتابته رواء الفكر، والجدّة في التأصيل، وأتساءل أيّ مسلم وأيُّ مؤمن حتى أولئك الذين ليسوا على هذه الملة ينكر أن الله على كل شيء قدير؟ أيجوز أن نقوّل الناس ما لم يقولوه؟ أيجوز أن نأخذ النتائج من غير المقدمات؟ ! ما كان ينبغي أن نلزم الناس بما نفهمه من أقوالهم، أو بما ينبغي أن نردّ عليهم به، وإنما ينبغي أن تكون نظرتنا للناس سواءً، فلا نقبل قولًا لأن قائله فلان أو نرد قولًا لأن قائله علّان، وكلٌّ يؤخذ منه ويردّ عليه إلا سيد المعصومين صلى الله عليه وسلم.
4 -
ويقول الكاتب الفاضل: "ومما يجدر التنبيه عليه هنا أنه قد يرد عن السلف تفسير لبعض صفات الله بلازمها، فيظن القارئ لها أن السلف يؤولون صفات الله سبحانه، وهذا ليس بصواب، وذلك لأن الأصل عند السلف هو أن صفات الله على الحقيقة، ولا يجوز التأويل، فإذا رأيت مثل هذا فاعلم أنهم لا يؤولون، لأنه لم يرد عن أحدهم أنه أنكر الصفة، وفرق بين إنكار الصفة والتفسير باللازم"(1).
ما أجمل أن يسع بعضنا بعضًا فيما اتفقنا عليه، وأن يعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.
(1) فصول في أصول التفسير ص 80.