الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد عرفوها بأنها: الجزم المطابق للواقع عن دليل. من هنا حرص المفسرون المحدثون على إبراز تلك الميزة للعقيدة، فهم لا يألون جهدًا كلما سنحت فرصة، أن يبينوا أن الإسلام دين العقل، الذي لا يتناقض مع مسلماته، ولا يختلف مع مقدماته ونتائجه حتى لقد بالغ بعضهم في ذلك، فكان من جملة المآخذ عليه، كما سيظهر ذلك عند الحديث عن منهج الإمام في التفسير إن شاء الله.
2 - عدم التعقيد وسهولة العرض ويسره:
وتلك هي في الحقيقة سنة القرآن، وطريقته وهو يعرض أمور العقيدة. لقد ذكر القرآن الألوهية والبعث وأخبار الأنبياء، وكان في ذلك كله داني القطوف سهل المسلك ميسر المعنى، فعرض قضية الوجود في ذكره لصحائف الكون، كأنما هي لوحة فنية تأخذ بالألباب. والرائع في ذلك أن الصحائف الكونية التي عرضها القرآن، ليست وليدة البيئة التي نزل فيها، ولا هي مما عرفته تلك البيئة فحسب كأطلال الشعراء ورسوم الديار والوحوش والفيافي، مما تحدث عنه الشعراء، بل كان عرض القرآن وحديثه شاملًا لهذا الكون كله، بما فيه من طبقات علوية ويابسة وماء. كل هذه المشاهد جاءت أدلة على عظمة الخالق ووحدانيته وقدرته (1).
وهذه أدلة البعث كما عرضها القرآن تخاطب العقل والعاطفة معًا، فتقنع العقل وتلهب العواطف والمشاعر {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
(1) يرى بعض الأساتذة أنه ليس في القرآن آية واحدة جاءت دليلًا لوجود الله، لأن وجود الله أمر مرتكز في الفطرة، وما كان العرب ينكرون ذلك (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) ولكن إذا عرفنا أن القرآن حدثنا عن أناس، كانوا يقولون (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) وقرأنا مثل قوله تعالى:(أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)، وعرفنا أن القرآن لم يأت للعرب وحدهم ولا لتلك الفترة فحسب، أدركنا أن القرآن عرض لتلك القضية المهمة.
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7]. وكما ورد في آخر سورة يس وفي سورة الأعراف.
والملاحظ في هذه الأدلة القرآنية لإثبات العقيدة أنها ليست جافة تجريدية، وإنما هي كلها مما له صلة بهذا الإنسان، بل هي من أعظم النعم عليه. وإذا أردنا أن ندرك بوضوح مدى الفرق بين تلك الأدلة وأدلة المتكلمين فما علينا إلا أن نقرأ كتابًا كمواقف العضد، أو مقاصد السعد، أو طوالع البيضاوي أو مفاتح الرازي، فإننا سنجد الفرق الهائل بين كلا النوعين من الأدلة. فهذا ابن رشد في كتابه (الكشف عن مناهج الأدلة)(1) بعد أن يستعرض طرق البحث في إثبات وجود الله، ويذكر طريقة الحشوية التي تعتمد على السمع، وطريقة المتصوفة التي تعتمد على الإشراق، وطريقة الأشاعرة والمعتزلة التي تعتمد على العقل المجرد، يرد هذه الطرق ويقول:(إن خير طريقة هي الطريقة التي اتبعها القرآن، من حيث نبه إلى وجود أشياء لم تكن، وإلى الإبداع والتناسق بين الأشياء. فمن القسم الأول يمكن أن نكون دليلًا نسميه (دليل الاختراع)، ومن الثاني دليلًا نسميه (دليل العناية) والقرآن إذ يوجه العقول لكيفية الاستفادة من تلك الأدلة يحذرها من الخرافة والظن الذي لا يغني من الحق شيئًا، والتقليد الذي يحول بينها وبين الوصول إلى الحق.
ولقد رأينا المفسرين المحدثين، يحرصون على المنهج القرآني، في عرض مسائل العقيدة، ويتجنبون المناهج الأخرى، فينحون باللائمة على علماء الكلام، وعلى المفسرين الذين سلكوا في تفاسيرهم مسالك المتكلمين ولست بصدد مناقشة هذه القضية.
(1) ص 24 - 28 طبعة مكتبة الأنجلو المصرية.