الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآني. ككلمة (عائل) مثلًا في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} لم استعملت دون كلمة فقير.
وبعد، فلا أود أن أتتبع المفسرة الفاضلة كما تتبعت المفسرين ولاحقتهم في كل صغيرة وكبيرة، ولقد كانت محاولة مشكورة، محاولتها هذه، لولا أنها حشدت في كتابها من الأقوال والآراء، ما كان تركه يكسب بيانها بيانًا، وتفسيرها وضوحًا وجمالًا، ويحول القارئ بين التشويش والجفاف، ومن الوفاء أن يعترف الأواخر للأوائل (1).
6 - الأستاذ محمد المبارك وكتابه دراسة أدبية لنصوص من القرآن
وهذا عالم آخر من علماء الشام، أسهم في النهضة البيانية في تفسير القرآن، هو الأستاذ محمد المبارك رحمه الله وهو ذو ثقافة واسعة متعددة الجوانب، ففضلًا على ثقافته الدينية واللغوية، فإنه كذلك ذو ثقافة عامة، هيأتها له دراسته في بعض الجامعات الأوروبية.
والمنهج الذي اتبعه في دراسته للنصوص القرآنية، يقوم على تلخيص الفكرة العامة للسورة أو النص، ثم بسط ما تضمنته من أفكار، وكشف ما بين هذه الأفكار من صلة، وربطها بما تضمنه القرآن من مفاهيم وأفكار، ثم يعمد بعد ذلك إلى عرض معاني الآيات عرضًا مباشرًا، هو حصيلة رأيه دون نقل مختلف أقوال المفسرين (2). ثم إنه يعرض الطريقة الأدبية أو فن التعبير عن تلك المعاني، مع بيان خصائص هذا الفن وانسجامه مع الموضوع، ثم ينتقل إلى دراسة الآيات، من حيث تراكيبها وجملها ومفرداتها وخصائصها الأدبية البارزة، سواء من جهة المعنى أم
(1) من أراد المزيد فعليه الرجوع إلى المبحث الذي كتبناه حول الإعجاز البياني عند الدكتورة عائشة وقد نشر في المجلة الثقافية الجامعة الأردنية.
(2)
وهذا فرق جوهري بينه وبين الدكتورة بنت الشاطئ.
حسن التعبير وقوته ودقته، أم من جهة اللفظ وجرسه، وما لذلك كله من صلة بالفكرة المعروضة والفن الأدبي (1) وهذا المنهج كما نرى مشوق للقارئ لأنه لا يدخله في متاهات، ويجعله موزعًا بين الغث والسمين من الأقوال الكثيرة، فضلًا على ما فيه من شمول للمعنى، وعمق في البحث وجودة في العرض.
ولعل مما يزيد الأمر وضوحًا أن ننقل مقطعًا من كتابته، وليكن من دراسته لسورة (العاديات). لقد تكلم الأستاذ عن هذه السورة في سبع نواح نعرضها فيما يلي:
أولًا: يأتي بالمعنى الإجمالي للسورة بكلام متراص يظهر ترابط الآيات.
ثانيًا: يقسم السورة إلى ثلاثة أقسام وخاتمة، فيقول:
(أما القسم الأول: فهو مشهد من مشاهد صراع الإنسان في هذه الحياة للتسلط وكسب المال، مشهد فرسان يغيرون على جماعة أخرى .. وهذه الصورة ترمز إلى جميع أنواع العدوان في ميادين الصراع بين البشر، الذي يكون الاعتداء طريقه.
وأما القسم الثاني: فهو تحليل سريع موجز لنفسية الإنسان: إنه شديد الحب للمال كفور بنعمة الله ..
والقسم الثالث: إهابة وتنبيه وتذكرة بالمصير بعد الفناء.
وتختم الأقسام الثلاثة بهذه الآية. التي هي آخر المراحل {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} .
فمن صراع في هذه الحياة .. إلى موت يعقبه بعث وحساب .. حيث يكون المحاسب هو الله) (2).
(1) ص 5.
(2)
دراسة أدبية ص 11 - 12.
ثم ينتهي الأستاذ المبارك من التقسيم بتلخيص لذلك فيقول: (إن هذا النص كما ترى غني بمشاهده وأفكاره، بالنسبة إلى قصره وإيجازه، ولكن الفكرة الأساسية في الآية الأخيرة، والتي نستطيع أن نلخصها، في قولنا، إنها مسؤولية الإنسان العظمى أمام الخالق بعد هذه الحياة، وكل ما تقدمها من مشاهد وأفكار كان وسيلة للوصول إليها)(1).
ثالثًا: وينتقل بعد ذلك إلى قيمة الأفكار الواردة في النص فيذكر ثلاث نواح، يبين صلتها فيما بينها أولًا، ويعرض ما في القرآن من أفكار سامية، يهتدي إليها عقل الباحث المؤمن ثانيًا، يقول:
1 -
لا شك أن الانتقال من المسؤولية القبلية المحدودة الأثر في حياة العرب قبل الإسلام، إلى هذا النوع من المسؤولية الإنسانية العميقة .. انتقال عظيم جدًّا. وهذه المقاييس المتجلية هنا ترينا تقدمًا عظيمًا في ميدان التفكير الأخلاقي.
2 -
ولا يقتصر الأمر على هذه القيمة، فقد تضمن هذا النص القرآني أفكارًا عن الإنسان ونفسيته ومسؤوليته الأساسية، لم تبلغ مرحلة بحثها إلا قليل من الحضارات الراقية، وبعد تطورات كبيرة في الفكر والمجتمع .. وهذه ناحية بارزة من نواحي الإعجاز.
3 -
وإن فكرة مسؤولية الإنسان العظمى .. من العقائد الأساسية التي تضمنها القرآن. وجعلها ركيزة أساسية في نظامه الأخلاقي والتشريعي، وجزءًا من فلسفة الحياة التي جاء بها (2).
رابعًا: ونراه بعد ذلك يأتي بخصائص النص الفكرية، فيصوغها في خصائص ثلاث مركزة، وبكلمات موجزة وافية. يقول تحت هذا العنوان:
(1) دراسة أدبية ص 11 - 12.
(2)
دراسة أدبية ص 13.
(تبدو في النص وحدة موضوعية واضحة تدور حول فكرة المسؤولية ولذلك كان بين أجزاء النص ارتباط وتسلسل، ويعتمد النص على العنصر النفسي واعتبار النيات في تحديد المسؤولية)(1).
خامسًا: ثم يأتي إلى فن العرض أو الطريقة الأدبية ولنستمع إلى كلام الأستاذ هنا وهو يلقي الضوء على فنه في العرض. يقول: (لقد وَضَعَنا النَّصُّ رأسًا أمام مشهد واقعي حي من مشاهد الحياة، ينبض بالحركة والحياة .. ولقد اعتمد النص في هذا القسم الأول على الوصف، الذي يكاد يكون على إيجازه قصة أو مشهدًا من قصة .. ولقد كان افتتاح السورة بهذا المشهد مفاجأة مثيرة للخيال، ولا سيما بالنسبة للعرب الذين تثيرهم صورة الغزو.
أما طريقة القسم الثاني فقد كانت التحليل النفسي، فقد انتقلنا من مشهد واقعي .. إلى التأمل في نفسية الإنسان. ومن الصورة الحية .. إلى التأمل الباطني .. ومن الصورة الحسية إلى الحقائق المجردة النفسية.
وقد عاد النص في القسم الثالث إلى طريقة الوصف والتصوير .. فكأن هذا القسم في طريقته .. جمع بين التصوير الحسي الرائع والتحليل النفسي في آيتين تصفان حادثة واحدة.
أما الخاتمة فقد جاءت على طريقة الإحكام المجردة، بعد أن هيئت النفس بتلك الصور الحسية .. والصور النفسية.
سادسًا: وبعدها يتكلم الأستاذ المبارك عن صياغة الآيات فيقول:
(لقد كانت الآيات إجمالًا قصيرة في جميع أنحاء السورة، متناسبة في قصرها مع سرعة الانتقال في تصوير الحركات، أو مع إيجاز الأفكار في التحليل النفسي، ومقتصرة على العناصر الأساسية للجملة، خالية من الزوائد
(1) دراسة أدبية ص 13.
خلو الأفكار والمشاهد من التفصيلات، متناسبة في تنوعها وانتقالاتها مع تنوع الموضوع، من فعلية غير مؤكدة إلى اسمية مؤكدة إلى استفهامية).
وانظره يأتي بأمثلة تفصيلية من السورة فيقول: (ولو ألقينا نظرة على الآيات وترتيبها وتركيبها، لوجدناها متناسبة مع الأفكار وخصائصها، ولوجدنا تنوعها مقابلًا لتنوع الأفكار، إننا نجد في تركيب الآيات، الأقسام التالية التي تقابل الأقسام الفكرية السابقة.
1 -
آيات قصيرة تتألف كل واحدة منها من كلمتين، أولاهما اسم فاعل بمعنى الفعل، أو فعل {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} وكلها أفعال تدل على حركات أو أعمال حسية، وثانيتهما أحد المفاعيل. وتخلو هذه الجمل أو الآيات من الزوائد، وتتوالى سراعًا كما تتوالى حركات الخيل في عدوها، وهي كلها جمل فعلية، أو بحكم الفعلية تصور الحركات والحوادث.
2 -
أما آيات القسم الثاني، فهي تتألف من جمل اسمية، تستعمل عادة للتعبير عن الحقائق العامة، مصدرة كلها بـ (إنَّ) المستعملة للتأكيد مع اللام.
3 -
تعود الآيات في القسم الثالث إلى الجمل الفعلية لتصوير مشهد خاطف ليوم القيامة، ولكنها تأتي هنا مصدرة بالاستفهام الإنكاري المثير (أفلا يعلم). ويلفت النظر في هاتين الآيتين، استعمال الأفعال المبنية للمجهول، واستعمال (ما) الموصولة المشعرة بعدم التحديد، وفي ذلك فسح المجال للخيال.
4 -
وتعود الخاتمة مرة أخرى، وهي حقيقة كبرى تمثل الفكرة الأساسية في النص، إلى الجملة الاسمية المؤكدة بـ (إنّ) و (اللام) على طريقة القسم الثاني).
ثم يعرض للألفاظ وهي نوعان أحدهما لتصوير المعاني الحسية التي جاءت واضحة دقيقة التعبير كالصبح والموريات، وثانيهما للتعبير عن المعاني المجردة، مثل (كنود) و (شهيد).
سابعًا: ويتحدث أخيرًا عن دور الموسيقى في السورة. فيقول: وهو يشعرك بتذوقه الفني الرائع وبحسه الموسيقي - (ويشعر المرتل لهذه الآيات، أن لها طابعًا موسيقيًا واضحًا، فإذا قرأها قراءة فنية -وذلك هو الترتيل- لاحظ انقسامها إلى عدة نغمات متناسبة مع أقسام النص، من الوجهة الفكرية والنحوية (ثم إنه يعرض لكل قسم من السورة، فيبين ما فيه من موسيقى وأنغام، تارة تقل فيها المدود، وتارة تطول، وأخرى تهدأ، مع ملاحظة الجرس الموسيقي الواضح لمعنى الألفاظ إلى أن يقول: (فموسيقى النص في جملتها وتفصيلها، أي في نغمة الجمل وجرس الألفاظ وفواصل الآيات، مناسبة للمشهد والأفكار، ومقابلة لها، وتتنوع بتنوعها وتنسجم بانسجامها).
وفي النهاية يأتي الأستاذ بخلاصة تشمل بإيجاز كل ما أتى عليه من تفصيل.
تلك هي الطريقة التي اتبعها الأستاذ محمد المبارك في تحليل النص القرآني تحليلًا أدبيًّا. ولقد كان في رأيي مجليًا من تلك الحيثية، سواء في تقسيماته، أم طريقة عرضه، ولكنها مع ذلك تبقى بحاجة إلى نواح أخرى من البحث البلاغي.
ولعل عذر الأستاذ في هذا، أنه أراد أن يقف بالقارئ تلك الوقفة الأدبية، كما هو متبع في تحليل النصوص الأدبية. والحق أن الأستاذ المبارك بارك الله له في عمله، كان ذواقة في أسلوبه، مبتكرًا في عرضه.
إن الحديث عن البيان القرآني سيظل ثريًّا لأن القرآن الكريم لا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنتهي جِدَّة ألفاظه ومعانيه، مفرداته وتراكيبه سواء، وموضوعاته وأساليبه كذلك.