الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة الخلق:
وفصل آخر يعقده المؤلف في كتابه يتحدث فيه عن (قصة الخلق)، جدير بنا أن نوليه اهتمامنا، ذلك لأنه لا تقل فيه المخاطر والمآخذ والمزالق والانحرافات عن سابقه، يقدم لهذا الفصل بكلمة عن نظريات العلم في أصل الخلق، وينفذ من خلال ذلك إلى نظرية داروين، ويخلص إلى القول:(بأن داروين قد أحسن ووفق فيما توصل إليه، من اكتشاف وشائج القربى بين المخلوقات جميعها، فها هي ذي نفس عضلات الأذن، التي كانت تحرك آذان أجدادنا الحمير (1)، وقد تليفت وضمرت حينما لم تعدلها وظيفة، هذا الجانب الذي أصاب فيه داروين، ولكن هناك جانبًا آخر من نظريات لم يحالفه فيه التوفيق، وهو أنه اعتبر تحول هذه المخلوقات، تحولًا ينبع من داخلها، فهو تحول ذاتي) (2). ويرد المؤلف على دارون في هذا الجانب، بأن (هنا عقل الفنان المبدع الذي يجمل مخلوقاته، نلمس آثاره في ورق الشجر وألوان الزهر، وهو الذي يحول هذه المخلوقات).
ونحن أولًا إذ نرفض مثل هذا الإطلاق على الله جل وعلا، لأنه إطلاق ينبع من أرضّيتنا وبيئتنا، وحصيلتنا اللغوية. ولا يجوز بحال أن نتجاوز الحد، فنطلق على الله ما لم يطلقه على نفسه، فنصفه بالعقل تارة، والفنان تارة، والمهندس تارة، وما يشبه تلك العبارات تارة ثالثة. ولقد بحث علماء الكلام هذه المسألة، وقرروا هذا بكل وضوح وصراحة.
أما نظرية داروين، وبخاصة الجزء الذي رأى المؤلف أنه صواب يتفق مع العلم، لبعض التشابهات بين المخلوقات، فهذا ما ينبغي أن نجعله في مجال النظرية، وذلك لعدم أهليته دخول أفنية العلم وميادين الحقائق، وجامعات اليقين، وإذا كان المؤلف قد رد الجزء الأخير من هذه النظرية، كما فعل كثيرون قبله،
(1) هذه عبارته، ونحن لا نرضى أن يكون الحمير أجدادنا.
(2)
ص 44.
وبخاصة من يعرفون بأصحاب (الداروينية الحديثة)، فإن آخرين ردوا كذلك جزءها الأول، ووجهوا لذلك نقدهم اللاذع، وأبطلوا بالعلم كثيرًا من نتائجه التي توصل إليها. وليس هذا المجال مجال حديث عن نظرية داروين، كل ما أريد أن أقوله هنا أنه لا يجوز أبدًا أن نجعل هذه النظرية أصلًا (1)، ننطلق منه، لنؤول آيات القرآن الحكيم. وفي القرآن حل لكل المشكلات المستعصية كما يعترف المؤلف لكن إذا كانت مشكلات ولدتها الحقائق العلمية الثابتة.
والتشابه بين المخلوقات في بعض الأمور، ليس دليلًا على أنها من عائلة واحدة وإلا فكيف يفسر: أن ما بين الإنسان وبين القرود العليا من تشابه، أكثر مما بين القرود أنفسها؟ وكيف تفسر: عدم استطاعة هذه الفئة العليا من القرود كما يقولون أن تتكلم، وهلا أجريت عملية لبتر هذا الغشاء الذي يحول بينها وبين التكلم. القرآن يحل ذلك كله، والله تعالى يقول:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].
وينطلق المؤلف من هذه التقريرات التي بنيت على الأوهام ليقحم القرآن إقحامًا لا يليق به، ويؤول الآيات تأويلًا تنفر عنه روعة البيان القرآني والوحدة الموضوعية في كتاب الله، لا في السورة فحسب بل في الآية نفسها، (والقرآن يقدم المسائل العلمية) كما يقول، (لا كما يعرضها آينشتاين)، وإنما يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة. وقد يفوت فهمها على المعاصرين، ولكن التاريخ والمستقبل سوف يشرحها فيما بعد) (2) ويستدل لذلك من القرآن بقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وهذا يثبت أنه ليس للكاتب صلة بالثقافة الدينية، وبفهم الكتاب والسنة، فإن هذه الجملة القرآنية لا تدل على ما أراد، بل هي حديث عن المتشابه {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
(1) راجع كتابنا: القصص القرآني صدق حدث وسمو هدف.
(2)
ص 48.
إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]. فلا يجوز إذن أن نطلق العبارات جزافًا، ونقول: الله يقول عن كلامه كذا.
ومن الآيات التي يستدل بها المؤلف على مدعاه، قول الله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أي أنه سوف يشرحه ويبينه في مستقبل الأعصر والدهور (1) ما أبعد هذا عما ترشد إليه الآية من غير تكلف، ولا أدري كيف ساغ المؤلف مثل هذا الفهم، والآية واحدة من مقطع قرآني فيبه الإشفاق على الرسول الكريم، وفيه الوعد الذي لا بد أن يتحقق. إنها مجموعة أفضال ومنن من الله على مصطفاه:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19] أيمكن أن نقطع الروابط بين هذه الآيات، لنأخذ الأخيرة منها على حدة، فنؤولها هذا التأويل ونحن نتلمّس علاقة ووشيجة للتشابه بين الأجناس لنقول بوحدة أصلها فما بالنا نمحو ذلك كله في الوحدة الموضوعية لكتاب الله، إن هذا لشيء عجيب! .
ويبدأ المؤلف بتطبيق منهجه الذي رسمه على الآيات القرآنية، فيقول في تفسير قوله تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، (والعرجون هو فرع النخل القديم اليابس لا خضرة فيه ولا ماء ولا حياة وهو تشبيه حرفي للقمر الذي لا خضرة فيه ولا ماء ولا حياة)(2).
وإذا كان تشبيهًا حرفيًا بهذا المعنى الذي قصده، فلقد فاته أن يوفق بين درجة الحرارة في العرجون وفي القمر.
ويمعن المؤلف في الإغراب رادًا أقوال أئمة التفسير، حينما يعرض لقول الله تعالى:{وَتَرَى الْجِبَال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]. فهو يرى أن القرآن هنا يقدم فكرة الحركة الخفية من وراء السكون الظاهر: (وتشبيه الجبل
(1) ص 49.
(2)
ص 50.
بسحابة هو تشبيه يقترح على الذهن تكوينًا ذريًا فضفاضًا مخلخلًا، وهو ما عليه الجبل بالفعل، فما الأشكال الجامدة إلا وهم. وكل شيء يتألف من ذرات، وما يقوله المفسرون القدامى من أن هذه الآية، تصف ما يحدث يوم القيامة هو تفسير غير صحيح لأن يوم القيامة هو يوم اليقين والعيان القاطع.
ولا يقال في مثل هذا اليوم (ترى الجبال تحسبها). فلا موجب لشك في ذلك اليوم) (1).
ترى هل يريد أن يقول المؤلف إنه تشبيه حرفي كذلك. والجبل ذرات متماسكة راسية شامخة جعلها الله أوتادًا في هذه الأرض، والتشبيه الذي جاء في الآية الكريمة ليس تشبيه الجبال بالسحاب، وإنما الآية صريحة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} . ولو أن المؤلف اكتفى باحتمال الوجه الذي ذهب إليه كما فعل غيره لكان ما ذهب إليه مقبولًا. أما وقد خَطَّأ المفسرين جميعًا، الذين فهموا الآية على أنها مشهد من مشاهد يوم القيامة. فإن ذلك يصعب علينا أن نقبله منه. فهذا الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله، يذكر أن الآية تحتمل المعنيين، فبالنظر لما قبلها وهو نفخ الصور، يرجح أنها من حوادث يوم القيامة، وبالنظر لما بعدها من صنع الله المتقن يقوى احتمال كونها في الدنيا، ولم يجرؤ على القول بأن ما ذهب إليه المفسرون غير صحيح، وأما استدلاله بجملة (تحسبها) فهو استدلال ليس في موضعه. ذلك لأن هذه الجملة تبرز هذه الصورة إبرازًا كأنه محسوس ملموس. والقول بأنه لا موجب للشك في ذلك اليوم، قول لا بد من مناقشته، فسياق الآية أولًا: لا يفيد معنى الشك في جملة (تحسبها)، وإنما هو استحضار لصورة لا بد واقعة، فهي صورة تؤثر في أعماق النفس كأنه يقول: ترى الجبال، يخيل ويهيأ لك أنها جامدة. ولكنها في الحقيقة سريعة في حركتها، وهي تمر مر السحاب، فليس المجال مجال شك.
وأما ثانيًا: فلقد استعملت هذه اللفظة نفسها في القرآن الكريم، في مشهد آخر
(1) ص 50.
من مشاهد القيامة، وفي سياق أدل على الشك من سياق تلك الآية التي معنا، وهذه الآية هي قول الله تعالى في سورة المجادلة:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18].
ونسير مع المؤلف وهو يحدثنا عن قصة خلق آدم، بفنون من القول، يمزج فيه بين بتر الآيات وتأويلها تأويلًا يبعدها عن أهدافها وغاياتها، كل هذا الانحراف وقع فيه المؤلف، وذلك لأنه اعتقد صحة نظريات، فأراد أن ينزل عليها آيات القرآن. وخلاصة ما ذكره (أن الله حينما خلق آدم في الجنة، وأمر الملائكة أن يسجدوا فسجدوا إلا إبليس، أراد إبليس أن يغوي آدم، فلما أكل من الشجرة رده الله إلى مستنقعات الطين، وبدأ هناك رحلة طويلة، من الأميبا إلى الإسفنج، إلى الحيوانات الرخوية إلى الحيوانات القشرية إلى الفقريات، إلى الأسماكِ إلى الزواحف إلى الطيور، إلى الثدييات إلى أعلى رتبة آدمية، بفضل الله وهديه وإرشاده (1). ولقد استمرت تلك الرحلة خمسة آلاف مليون سنة، وعاد آدم جديد على هذه الأرض كآدم الذي كان من قبل في الجنة. إذًا كان آدمان: آدم الصورة والمثال: وهو الذي كان في الجنة فعصى ربه. وآدم الأرض: وهو الذي مر بتلك المراحل كلها). ولم يحدثنا المؤلف عن حواء أمرّت بما مر به آدم كذلك؟ . وقد حشد لهذا القول كثيرًا من النصوص، جاء بها لتوافق ما قرره. ومن هذه النصوص قول الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4 - 5]، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
هذه بعض نصوص استشهد بها المؤلف مستدلًا على ما ذهب إليه، ومعلنًا أن لنا
(1) ص 53.
وجودًا سابقًا على وجودنا هذا أما الشجرة فيرى أنها (رمز للجنس) والموت اللذين تلازما في قصة البيولوجيا) (1) وأكرر هنا أن النظرية التي جعلها أصلًا ليطابقه القرآن، إنما هي نظرية أبى العلم أن يمنحها هويته، لتدخل في نطاقه. والآيات التي ذكرها حينما ننعم النظر فيها، نجدها بعيدة عن المعنى الذي أراده وقصده.
فالآية الأولى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يرى كثير من المفسرين أن التراخي فيها تراخ رتبي لا زمني، والتراخي في الرتبة من الأساليب التي لا يستطيع أحد أن ينكرها، حتى إن عُدَّ هذا التراخي زمنيًا فإنّ ما قاله المؤلف غير صحيح حينما ذكر أن آدم مر بهذه الأزمنة الطويلة إلى أن تكامل خلقه. وقد يدلّ حرف التراخي على أيام أو ساعات فحسب. وفي القرآن شواهد كثيرة لهذا. وهذه من المغيبات التي لا ينبغي أن نقول فيها بمجرّد الظن.
وأما الآية الثانية {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فلقد تجاهل المؤلف ما جاء عقبها {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالمقصود بالإنسان هنا جنسه (هذا النوع الإنساني) وسواء عددنا الاستثناء منقطعًا أم متصلًا، فإن الآية لا تساعده على ما أراد، وتنفر من تأويله الذي ذهب إليه. وللمفسرين في الآية أقوال وجيهة، فيرى بعضهم: أن معنى {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (الهرم) الذي يدرك بعض الناس مثل قوله تعالى {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ويكون معنى الآية: ثم رددناه إلى تلك الحالة التي تغير فيها شكله وقوامه، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فإن لهم من الأجر في حال هرمهم، مثل الذي كان لهم في حال الشباب والقوة فيكون الاستثناء متصلًا ويكون (الذين آمنوا)، ممن ردوا إلى أسفل سافلين، إذا أدركهم الهرم. ويرى بعضهم أن (أسفل سافلين)، إنما هي الدركات من العذاب يوم القيامة. فيكون المعنى، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ولكننا رددناه إلى جهنم لما كفر وأعرض، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر عظيم،
(1) ص 62.
فليسوا ممن رُدّ إلى تلك الدركات، ويكون الاستثناء منقطعًا. وعلى كل حال، فإن تأويل (أسفل سافلين) بالأميبا فما بعدها، تأباه الآية سياقًا ونصًّا.
وأما قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} فإن هذا الإجمال في الآية، بينته وفصلته آية أخرى هي آية سورة المؤمنون:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14]، وآيات كثيرة فصلت هذا الإجمال مثل آية سورة الحج:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]، فلا يعقل أن تكون الأطوار هذه، ما ذكره المؤلف مع وجود هذا البيان والتفصيل في كتاب الله.
بقي أن يقال: إن قول الله تعالى في سورة الأنعام: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالكُمْ} [الأنعام: 38]، لا يساعد ذلك التأويل الذي ذهب إليه، لأن المماثلة التي قال إنها وشيجة من وشائج القربى. مماثلة في غير ما ذهب إليه فتلك مخلوقات لها طبائعها وأنظمتها والظروف الملائمة لها. فهناك صلات قوية بين هذه المخلوقات في أسس الحاجة والتنظيم، وليست إذا وشيجة قربى.
أما وجودنا الروحي الذي تحدث عنه، واستدل له بآية الأعراف، فأمر لا نسلمه له ذلك لأن الآية تقول:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ولم تقل من (آدم نفسه). وهذه إشارة إلى ما زود به الإنسان من الفطرة السليمة كما ذهب إليه أكثر أئمة التفسير. ولو كان لنا وجود سابق على وجودنا هذا لتذكرناه، أو تذكرنا بعضه لأن وجودنا اللاحق لا ينسينا وجودنا الدنيوي، كما نص القرآن الكريم نفسه.
أما آية آل عمران (1) فإن قصارى ما تفيده: أن الله أخذ الميثاق على النبيين حينما
أرسلهم إلى أقوامهم أن يؤمنوا بالرسول الكريم وينصروه إذا أدركوه ويطلبوا من أقوامهم الإيمان به ونصرته عند بعثته.
وأما آية الأنعام وهي قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] فإنه عليه وآله الصلاة والسلام أول مسلمي هذه الأمة، ولا داعي أن نغرب في التأويل، ونغرق في البعد عن ظاهر الآيات المحكمات.
بقيت كلمة أخيرة في هذا الموضوع، وهي أن تأويله للشجرة، بأنها (رمز للجنس)، لا إخال مفهوم الزوجية نفسه يعينه على هذا التأويل، فالله يقول:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، فما معنى أن يكون المقصود من الشجرة (اللقاء الجنسي) بعد أن كانت زوجًا له بنص القرآن.
ومن أعجب ما استنتجه المؤلف هنا (أن القرآن خاطب آدم وحواء، بألف التثنية قبل الأكل من الشجرة فقال: (فكلا)، وخاطبهما بواو الجماعة بعد الأكل، (لأن اللقاء الجنسي -وهو الأكل من الشجرة- أدى إلى التكاثر)، فهم عجيب والله، وأعجب منه أن يقبله من عرف لغة القرآن، وتذوق أساليب العربية. ولقد كنا نود من المؤلف، أن يقتصر على كلمته الأخيرة في الشجرة، وهي أنها من أمور الغيب ومن المبهمات التي لو علم الله في بيانها خيرًا لنا لبينها. ونقول للمؤلف إن ألف التثنية كانت لآدم وحواء، وأما (واو) الجماعة فلهما ولإبليس، بدليل قوله تعالى في الآية نفسها:{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وليت المؤلف كان يقف عند كل آية ليصل نهايتها ببدايتها، وآخرها بأوّلها، وليته كذلك كان يسترشد بهذا القرآن، وعقله ونفسه خاليان من كل نظرية تؤثر عليه، في مسيرة فهمه للنص، لكنه لم يفعل. إن قصة آدم عليه وعلى نبينا وأنبياء الله صلوات الله وسلامه، كما يبيّنها القرآن دون تمحل أو تكلف، بيّنة الأهداف واضحة المقصد والغاية. إنها قصة آدم واحد لا آدمين، إنه هو هو الذي أسكنه الله في الجنة، وأهبطه إلى الأرض ليستأنف حياة
الإنسان، بما فيها من جهد وكدح وراحة ونصب. فليس هناك آدم المثال وآدم الأرض. وحينما نستعرض آيات القرآن متدبرين، فإنه لا يسعنا إلّا أن نقرر هذا. لقد خلق الله آدم كما تقول الآيات من عنصرين، أحدهما: أرضي: وهو ذلك الطين الذي كان حمأً مسنونًا، فصلصالًا كالفخّار، وأما العنصر الآخر، فهو الروح. وإذًا فمنذ اللحظة الأولى التي تكامل فيها خلقه، هُيِّئ بما يستلزمه هذان العنصران. أعني هذه الاستعدادات الفطرية التي هي نتيجة لا بد منها، تستلزمها طبيعة هذين العنصرين. وها هو القرآن يحدثنا عن آدم في الجنة، وقد طمأنه الله بأن لا يخشى غائلة الجوع وحياة العرى، ومشقة الظمأ وحرارة الضحوة، أفليست هذه كلها تستلزمها طبيعة الجسم الترابي والعنصر الأرضي. ثم هذا هو القرآن يحدثنا كذلك، عن هذه الاستعدادات الفطرية، التي يطلق عليها بعض العلماء الغرائز، وهي: الجنس وحب التملك، وحب البقاء، والتدين. نقرأ هذا في قول الله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117]، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] كل هذا يدلنا على الاستعداد الجنسي. أما الحرص على البقاء وحب التملك، فيشير إليهما قول الله:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَال يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]. {وَقَال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، وأما التدين فيظهر في قول الله تعالى:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
هذه هي الأمور الفطرية التي زود بها آدم في الجنة، بعضها يستلزمه الجسم وبعضها تستلزمه الروح. أفبعد هذا كله، يمكننا القول إن هناك آدمين، آدم المثال، وآدم الأرض؟ وهل آدم المثال يمكن أن يخشى الجوع، ويخاف العري، ويزعجه الظمأ، وتضيره الضحوة، ويقلقه الفناء. إن آدم هذا الذي تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، هو الذي أهبطه الله إلى الأرض. سواء أكان هذا الإهباط ماديًا أم معنويًا في أول ما تتطلبه الأرض وليس يتلاءم ويتناسب مع كرم الله، ولطف الله وحكمة الله،