الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول التفسير والتأويل
معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما:
لدى النظر في تاريخ التفسير ونشأته نجد أن العلماء عرضوا للفرق أو التفريق بين كلمتي تفسير وتأوبل، فالتفسير أصله من الفسر، وهو الكشف (1)، ويستعمل في الحسيات والمعنويات. الفسر والسفر كلاهما في معنى الكشف (2)، إلا أن العلامة الآلوسي في مقدمة تفسيره يقول:"إن ذلك مما لا يسفر له وجه". والذي أراه أن ما ذهب إليه علامة الرافدين من إنكار الصلة بين الفسر والسفر، لا يؤيده فقه اللغة واستعمال ألفاظها.
أما التأويل فهو من الأَوْل، وهو الرجوع ومنه آل إليه الأمر.
وإذا أردنا أن نتعرف الفرق بين هاتين الكلمتين، فإن خير ما يعيننا على ذلك، ويغنينا عن التشعب في القول، وكثرة التخبط في الحديث، كتاب الله، القرآن الكريم حيث ذكرت فيه الكلمتان. أما كلمة (التفسير) فقد وردت في الكتاب الكريم مرة واحدة، في معرض الرد على الكافرين، وهم يثيرون الشبهات حول القرآن. قال تعالى:{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33]، أي لا يأتونك بمثل مما يحيك في صدورهم إلا رددناه بأحسن بيان.
(1) لسان العرب ج 6 ص 261 الطبعة المصورة عن طبعة بولاق.
(2)
لسان العرب ج 6 ص 32.
أما كلمة (تأويل) فقد وردت في الكتاب العزيز في مواضع متعددة وسياقات مختلفة:
1 -
2 -
ما يتصل بتأويل الرؤيا، قال تعالى:{وَقَال يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100]. وفي السورة نفسها في رؤيا الملك {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].
3 -
في تأويل الأعمال وبيان ما يقصد منها، قال تعالى حاكيًا عن العبد الصالح، يخاطب موسى عليه الصلاة والسلام:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]، وبعد أن شرح له ذلك شرحًا تامًّا، قال:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].
4 -
وردت كلمة (تأوبل) في صحة ما ينبئ عنه القرآن، وأنه أمر محقق الوقوع. قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39].
وإذا تأملنا هذه الآيات الكريمة، نستطيع أن ندرك الدقة في الفرق بين التفسير والتأويل من تعبيرات القرآن نفسها. فالمواضع التي عبر فيها بالتأوبل، بحاجة إلى الرويّة وإعمال الفكر، وإلى عملية عقلية. ولا أدل على ذلك من استعمال كلمة (التأويل) في شأن المتشابه وتأويل الرؤى وأمر موسى عليه السلام، وما حدث بينه وبين العبد الصالح الخضر.
أخرج الإمام البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا إلى رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام، عند تفسير قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، فإذا رأيتم الذين يتبعون ما
تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم (1).
ندرك من هذا إذًا أن استعمالات القرآن كما يشير الحس اللغوي، تفرق بين التفسير والتأويل. وإليه ذهب كثير من الكاتيين القدامى (2) كما يعرف ذلك من كلامهم، ولقد أدرك الراغب الأصفهاني هذا الفرق بفهمه الدقيق للقرآن، فلقد كان رحمه الله على قدر عظيم من الثقافة اللغوية والدينية. فذكر في مقدمته (3) فروقًا بين التفسير والتأويل منها:
1 -
أن التفسير أعم. وأن التأويل أخص، وأن هذه الخصوصية أتت من جهتين اثنتين:
أ- إن التفسير بيان غريب الألفاظ، وبيان لفظة يستطاع بها فهم نص متضمن لها. أما التأويل فهو بيان الجمل ومعانيها. وهذا يؤكد ما سبق أن قلناه من أنّ التأويل بحاجة إلى الدقة وإعمال الفكر.
ب- إن التأويل أكثر ما يكون استعماله في الكتب الإلهية، وهذه الكتب بحاجة إلى أن يتروى فيها أكثر من غيرها، فلا يلقى الكلام فيها جزافًا، بخلاف التفسير فإنه يستعمل فيها وفي غيرها.
2 -
أن التفسير يختص بالرواية، والتأويل يختص بالدراية، والرواية لا تحتاج إلى إعمال الفكر، فإنها قول مسلم به ما دام قد ثبتت صحته.
إذا عرفنا هذا فلسنا مع صاحب روح المعاني (4) الذي ينكر الفرق بين التفسير والتأويل من الناحية اللغوية، وإن كان يفرق بينهما من الناحية العرفية. وهذا
(1) كتاب التفسير ج 6 ص 42.
(2)
الجاحظ في مقدمة كتاب الحيوان ج 1 ص 5، المفردات للراغب الأصفهاني.
(3)
مقدمة جامع التفاسير مع تفسير الفاتحة ومطالع البقرة/ الأصفهاني ص 47.
(4)
مقدمة تفسير روح المعاني الآوسي ج 1 ص 4 - 5.
نص عبارته: قال رحمه الله بعد أن بين بعض آراء المتقدمين (وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف، فكل الأقوال فيه، ما سمعتها وما لم تسمعها، مخالفة للعرف اليوم. إذ قد تعورف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية، تكشف من سجف العبارات للسالكين، وتنهلّ من سحب الغيب على قلوب العارفين. والتفسير غير ذلك، وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال، أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعًا، وفي كل إرجاع كشفًا فافهم) ونستميح العلامة عذرًا وإن كنا لا ندانيه رتبة إن كان فهمنا قد خالف فهمه بل إن ما ذهب إليه رحمه الله من الفرق بينهما من حيث العرف، كان في زمنه هو، والعرف يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويظهر أن العرف في زماننا الآن غير ما ذكره رحمه الله.
وممّا تقدم، يكون مجال التفسير وميدانه:
أولًا: الروايات التي صحت عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
ثانيًا: تفسير الكلمات اللغوية التي هي من الغريب أو ما يشبهه، والتي لا اختلاف في فهمها عند اللغويين.
ومن هنا ندرك السّر فيما دعا به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)(1) فلا يعقل أن يكون التأويل هو حفظ الروايات عن ظهر قلب.
وإذا أردت أن تتبين الفرق الواضح بين التفسير والتأويل، بعدما قلته ونقلته لك، فإني أذكرك بما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله سبحانه:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266] فقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب قال: فيم ترون هذه الآية نزلت، قالوا: الله أعلم،
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (166)، وأحمد (2397).
فغضب عمر فقال، قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس:(في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين) فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس (ضربت مثلًا لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال. (لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله)(1).
وكذلك تفسيره لسورة النصر، فقد قال ابن عباس (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكان بعضهم وجد في نفسه، فقال: لمَ يدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله، فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني يؤمئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فقال لي: (كذلك نقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال فما تقول؟ قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول (2).
فالذي ذكره الحبر من باب التأويل، لا من باب التفسير، لأن التفسير كما قلنا من قبل هو بيان الروايات، أو التفسير اللغوي للكلمات، وما ذكره في تفسير الآية {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} ليس من قبيل هذا ولا ذاك، حيث بين أنها ضربت مثلًا كما سيمر معنا. أما سورة النصر، فالذي ذكره الصحابة لعمر رضي الله عنه وعنهم جميعًا، وقد سألهم عن هذه السورة كان من قبيل التفسير، إنهم فسروا له الألفاظ التي جاءت في السورة الكريمة -كما سيمر معنا- أما ما فهمه ابن عباس رضي الله عنهما فقد كان من باب التأويل، لأنه كان وراء ما يفهم من اللفظ، فقد فهم من السورة الكريمة ما فهم لأن النبي عليه وآله الصلاة والسلام، أرسله الله ليبلغ
(1) البخاري (6/ 39) رقم الحديث 4538.
(2)
صحيح البخاري كتاب التفسير سورة النصر رقم الحديث 3627، 4970.
الرسالة، وليكوّن أمة، فكانت تلك الغاية من إرساله، فلما تحققت هذه الغاية، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فلقد بلَّغْتَ ما عليك أيها النبي، فما عليك إلا أن تشتغل بذكرنا، وأن تلحق بالرفيق الأعلى.
التأويل -إذن- ما يفهم من الآية، وراء ما تعطيه الألفاظ، أي أن نتدبر الآيات، والتدبر أن لا نكتفي بمعنى اللفظ، بل أن نتجاوزه، والتدبر من الدبر وهو الوراء، فالتدبر -إذن- البحث عما وراء الألفاظ ذلكم هو الفرق بين التفسير والتأويل، ولا يظن أحد أن التأويل والتدبر شيء واحد، فقد يكون التأويل طريقًا إلى التدبر، إلا أن التدبر لا بد فيه من التأثر بالقرآن الكريم، ولذلك أثنى الله على المتدبرين، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] وذم الذين لا يتدبرون بقوله {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82] فإذا فتح الله للإنسان باب فهم في كتابه، فأحرى به أن يكون من المتدبرين.
على أن كلتا الكلمتين في أيامنا بدأت تحل محل صاحبتها، بل إن المفسرين الأقدمين في كتبهم استعملوا الكلمتين، فبعضهم سمى مؤلفه تاويلًا، كما هو شأن الزمخشري والبيضاوي، وبعضهم سماه تفسيرًا، والله ولي كل أمر، وهو حسبنا ونعم الوكيل.