الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موازنة بينه وبين عبد القاهر:
على أن هناك حقيقة لا بد من تقريرها هنا، وهي أن الزمخشرى في تفننه وعلو همته، ورسوخ قدمه في أفانين القول، لم يكن ليبلغ ما بلغه عبد القاهر من طول النفس وامتداد جذوره إلى أغوار المعاني، والوصول إلى بديع الصنعة البلاغية.
وسأضرب مثالًا واحدًا على ذلك: يقول الزمخشرى عند تفسيره قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] شبه اليهود، في أنهم حملة التوراة وقراؤها. وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ولم يؤمنوا به، لذلك شبههم بالحمار يحمل أسفارًا أى كتبًا كبارًا من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه، فهذا مثله وبئس المثل).
ولنستمع لعبد القاهر يبين مكنون هذا التشبيه ويظهر روعته ويجلي كل ما يتعلق به (1). (الشبه منتزع من أحوال الحمار، وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول، ثم لا يحس بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ولا من الدلالة عليه بسبيل. فليس له مما يحمل حظ، سوى أنه يثقل عليه ويكد جبينه. فهو كما ترى مقتضى أمور مجموعة، ونتيجة لأشياء ألفت وقرن بعضها إلى بعض. بيان ذلك أنه احتيج إلى أن يراعى من الحمار فعل مخصوص، وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئًا مخصوصًا، وهو الأسفار التي فيها أمارات تدل على العلوم، وأن يثلث ذلك بجهل الحمار ما فيها، حتى يحصل الشبه المقصود .. ).
إلى أن يقول: (وإذ قد عرفت هذا، فالحمل من هذا القبيل أيضًا، لأنه يتضمن
(1) أسرار البلاغة ص 114، مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
الشبه من اليهود، لا لأمر يرجع إلى حقيقة الحمل، بل لأمرين آخرين أحدهما: تعديه إلى الأسفار، والآخر اقتران الجهل للأسفار به .. ).
ويستمر عبد القاهر وهو يفيض في الحديث عن تلك الآية: "فإن قلت: ففي اليهود شبه من الحمل، من حيث هو حمل على حال، وذلك أن الحافظ للشيء بقلبه، يشبه الحامل للشيء على ظهره وعلى ذلك يقال: حملة الحديث وحملة العلم، كما جاء في الأثر: (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدولُه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). فالجواب: إن الأمر وإن كان كذلك، فإن هذا الشبه لم يقصد ههنا، وإنما قصد ما يوجبه تعدي الحمل إلى الأسفار، مع اقتران الجهل بها به، وهو العناء بلا منفعة، يبين ذلك أنك قد تقول للرجل، يحمل في كمّه أبدًا دفاتر علم وهو بليد لا يفهم، أو كسلان لا يتعلم، وإن كان يحمل كتب العلم، فالحمار أيضًا قد يحمل، تريد أن تبطل دعواه، أن له في حمله فائدة، وأن تسوى بينه وبين الحمار في فقد الفائدة مما يحمل، فالحمل ههنا نفيه موجود في المشبه بالحمار ثم التشبيه لا ينصرف إليه، من حيث هو حمل، وإنما ينصرف إلى ما ذكرت لك من عدم الجدوى والفائدة. وإنما يتصور أن يكون الشبه راجعًا إلى الحمل، من حيث هو حمل، حيث يوصف الرجل مثلًا بكثرة الحفظ للوظائف أو جهد النفس في الأشغال المتراكمة، وذلك خارج عن الغرض مما نحن فيه".
وربما يقال هنا كيف يمكن المقارنة، بين الزمخشرى الذي يتقيد بتفسير الآية، وبين عبد القاهر الذي يكتب قواعد في هذا الفن غير مفيدة ولا محدودة، إنه لا مكان لتلك المقارنة ههنا، وهذا تساؤل وجيه حقًّا، ولكننا يتضح لنا الأمر حينما نعرف أن ما نقل عن عبد القاهر، إنما كان خاصًّا بالآية الكريمة، أما حديثه عن التشبيه فهذا ما لم أعرض له (1). وإذا كانت المكتبة البيانية قد حرمت تفسيرًا يخطه
(1) هذا ما كنت قد كتبته قبل ثلاثين سنة، وقد قرأت ما يشبهه فيما بعد، للدكتور محمد رجب البيومي، ولكنني علقت عليه وناقشته في كتابي (إتقان البرهان في علوم القرآن).