الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن نعلمُ أنّ (إن) قد جاءت نافية في كتاب الله في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23]{إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23]{وَلَئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] فـ (إنْ) في قوله "إنْ أمسكهما" نافية. ولكن ليس معنى هذا أنّ "إنْ" في كل آية ينبغي أن تكون نافية. وعلى الرغم من أنّ بعض المفسرين ذهب إلى أنّ "إنْ" في آيتي مريم والزخرف نافية. ولكن المحققين ذهبوا غير هذا المذهب ورأوا أنّ (إنْ) على بابها أيْ شرطيّة. فمعنى الآية الأولى: إني أعوذ بالرحمن منك حتى إنْ كنتَ تقيًّا، لأنّ مجيئك فيه ريبة مع علمها بأنه لا يمكن لأحد الوصول إليها إلّا زكريا عليه السلام. ومعنى الآية الثانية. إن كان للرحمن ولدٌ كما تزعمون فأنا أوّل العابدين له ولكن ليس الأمر كما زعمتم.
وهكذا نجد المفسّرين رحمهم الله يفترضون كل احتمال ليصلوا إلى المعنى الذي هو أليق ما يكون بتفسير الآيات الكريمات.
تلك بعض الشذرات التي تبين لنا ضرورة التضلع من اللغة لمن أراد أن يزداد فهمًا لكتاب الله فضلًا على من أراد أن يقوم بمهمة تفسير هذا الكتاب الكريم.
*
اختلافهم في الأعاريب ناشئ عن اختلافهم في فهم المعنى:
والناظر في كتب التفسير وبخاصة تلك التي تُعنى بالاتجاه اللغوي يجد أنهم رضي الله عنهم يذكرون أكثر من وجه في إعراب الكلمة أو الجملة. والذي ينعم النظر يدرك أن هذه الأعاريب ليست فضلة من القول، بل تتصل بالمعنى اتصالًا مباشرًا وهذا يدلنا على أهمية اللغة بجميع فروعها في فهم القرآن الكريم وتذوق معانيه.
أولًا: عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وما يشبهها مثل قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204] وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 205] وهذا التركيب كثير في القرآن الكريم.
المعلوم بداهة أن الجارّ والمجرور في مثل هذه الجمل يكون خبرًا مقدمًا، وما بعده مبتدأ مؤخرًا، فإذا قلنا (على الله الاعتماد) و (من الله العون)، و (بالله الثقة) و (لله الأمر) فإن الجارّ والمجرور خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر ولكن العلامة أبا السعود شيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة، ذهب مذهبًا آخر فقال: ومن الناس في محل رفع مبتدأ، فمن تبعيضية، والمعنى وبعض الناس من يقول آمنا، وبعض الناس يتخذ من دون الله أندادًا، وبعض الناس يجادل في الله بغير علم، وبعض الناس يعبد الله على حرف، ففي هذه الجمل كلها وغيرها مما يشبهها يعرب الجارّ والمجرور في محل الابتداء، وما بعده الخبر.
ولكن ما الذي حمل على هذا الإعراب؟
الناظر فيما قاله أبو السعود يجد الملحظ الدقيق الشفاف في فهم الكتاب الكريم فنحن نعلم أن المبتدأ ينبغي أن يكون معلومًا لدى المخاطبين، وأن الخبر هو الذي تتم به الفائدة. قال ابن مالك رحمه الله في الألفية.
والخبر الجزء المتم الفائدة
…
كالله برٌ والأيادي شاهدة
فإذا جعلنا (ومن الناس) خبرًا و (من يقول) مبتدأ، يصير التركيب هكذا "ومن يقول آمنا بالله وباليوم الآخر من الناس" و"من يعجبك قوله في الحياة الدنيا من الناس" و"من يجادل في الله بغير علم من الناس"، ومثل هذا التركيب لا فائدة فيه، ويجلّ عنه القرآن الكريم، لأن كون هؤلاء من الناس
أمر مفروغ منه، فلا يليق في أي كلام من كلام الناس، فما بالك بكلام الكبير المتعال؟ لكن إذا قلنا (بعض الناس يقول آمنا) وما يشبه هذا التركيب، فإن هذا كلام مفيد، يدلنا على أن الناس ليسوا سواء، فمنهم كذا، ومنهم كذا، أرايت إلى هذا الملحظ الدقيق في اختلافهم في الإعراب؟ !
ثانيًا: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21 - 22].
أعرب بعضهم (الذي) في قوله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} مبتدأ، وآخرون أعربوها صفة أو نعتًا لقوله ربكم في قول الله {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ولكنّ العلامة أبا السعود اختار الإعراب الثاني، وهو أن (الذي) صفة لِـ (ربكم) وقال إن هذا الاختيار أليق بالمعنى، ذلكم لأن خاتمة الآية الثانية {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} فإذا قطعنا أول الآية عما قبلها فأعربنا (الذي جعل .. ) مبتدأ، كان النهي عن جعل الأنداد، لأن الله جعل الأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء.
أما إذا أعربنا (الذي) صفة لـ (ربكم)، كان النهي عن جعل الأنداد، لا من أجل ما ذكر فحسب، بل من أجل شيء زائد على ذلك، وهو أن الله تبارك وتعالى ربكم هو الذي خلقكم والذين من قبلكم، وهذا لا شك أليق بالمعنى، إذ كيف تجعل لله ندًّا وهو أنعم عليك بنعمة الخلق أولًا، ثم بنعمة البقاء حيث جعل لك فراشًا.
ثالثًا: قال تعالى في سورة النازعات: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)} أعرب الزمخشري رحمه الله (واجفة) صفة للقلوب، التي هي مبتدأ، وقوله {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} خبر مبتدأ، ولكن العلامة أبا السعود رحمه الله-
رأى رأيًا آخر، وهو أن قوله {وَاجِفَةٌ} هي الخبر وقوله {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} في محل الصفة.
والمعلوم أن الخبر عمدة، وأن الصفة فضلة، وأن وجيف القلوب أكثر هولًا وأشد أثرًا من خشوع الأبصار، وخشوع الأبصار أهون من وجيف القلوب، فكيف نجعل ما يدل على التهويل صفة، وما يدل على التهوين خبرًا وهذه عبارته رحمه الله حيث يرد على صاحب الكشاف:
"قوله تعالى {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي يوم ترجف الراجفة وجفت القلوب، قيل: قلوب مبتدأ، ويومئذ متعلق بواجفة، وهي صفة لقلوب مسوغة لوقوعه مبتدأ، وقوله تعالى: {أَبْصَارُهَا} أي أبصار أصحابها {خَاشِعَةٌ} جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرًا لقلوب، وقد مر أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قالوا إن الصفات قبل العلم بها أخبار، والأخبار بعد العلم بها صفات، فحيث كان ثبوت الوجيف للقلوب وثبوت الخشوع لأبصار أصحابها سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوانًا للموضوع مسلم الثبوت مفروغًا منه، وجعل الثاني مخبرًا به مقصود الإفادة تحكمًا بحتًا، على أن الوجيف الذي هو عبارة عن شدة اضطراب القلب وقلقه من الخوف والوجل، أشد من خشوع البصر وأهول، فجعل أهون الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام، وأيضًا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول تهوين للخطب في موقع التهويل فالوجه أن يقال تنكير قلوب يقوم مقام الوصف المختص سواء حمل على التنويع كما قيل وإن لم يذكر النوع المقابل، فإن المعنى منسحب عليه، أو على التكثير كما في "شَرٌّ أَهَرَّ ذا ناب" فإن التفخيم كما يكون بالكيفيّة يكون بالكمية أيضًا، كأنه قيل: قلوب كثيرة يوم إذ يقع النفختان واجفة، أي شديدة الاضطراب (1).
(1) تفسير أبي السعود (5/ 230).
رابعًا: وقد يذكرون وجوهًا كثيرة في إعراب الكلمة الواحدة دون تعليل اعتمادًا على فهم القارئ، وأكتفي بمثال واحد لهذا النوع:
قال الله تعالى في أول سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)} [الدخان: 1 - 8].
ففي قوله سبحانه {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قالوا إن قوله {رَبِّ} يمكن أن تكون نعتًا ويمكن أن تكون بدلًا، ويمكن أن تكون عطف بيان، ولم يبينوا ما يتفرع على هذه الأعاريب من معانٍ، اعتمادًا على معرفة القارئ لما يكتبون.
والحق أن هذه الأعاريب، إنما نتجت عن الاختلاف في المعنى المراد، فمن جعل قوله سبحانه، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مدحًا وثناء على الله، أعربها نعتًا. ومن جعلها المقصود بالحكم أي إن رب السماوات والأرض من شأنه أن يكون قادرًا على إرسال الرسل وإنزال الآيات، فعلى هذا المعنى تكون بدلًا لأن البدل هو التابع المقصود بالحكم بلا واسطة كما يقولون. قال العلامة ابن مالك.
التابع المقصود بالحكم بلا
…
واسطة هو المسمى بدلًا
ومن قال: إن المقصود من قوله {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وثناء عليه، وإن قوله {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} جاءت توضيحًا لهذا أعربها عطف بيان فابحثوا -رحمني الله وإياكم وغفر لي ولكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وهو الفاتح بما شاء لمن شاء- إبحثوا
عن هذه الدقائق في فهم الكتاب العزيز، فإن أئمتنا رحمهم الله كما قلت، قد يذكرون الكلام مجملًا دون تفصيل اعتمادًا على فهم القارئ كما كانوا يعرفونه في زمانهم. فهذا هو العلامة أبو السعود يقول عند قوله تعالى {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} في سورة ق:"أَغَفلوا أو أَعَمُوا فلم ينظروا"(1).
هذه الجملة على إيجازها منه رحمه الله تحمل معنى كبيرًا. يريد الشيخ رحمه الله أن يقول: إن النظر في الآية الكريمة، إما أن يكون مقصودًا به الفكر، أي أفلم ينظروا، أي (أفلم يفكروا)، وإما أن يكون المقصود النظر بالعين أي (أولم يبصروا)، فإن كان الأول، أي إن النظر معناه الفكر، كان المعنى (أغفلوا فلم يفكروا) لأن المقابل للفكر الغفلة، وإن كان الثاني كان المعنى (أعموا فلم ينظروا) لأن المقابل للعمى الأبصار، فعضّوا -رحمكم الله، وبارك لي ولكم بالقرآن الكريم- على هذه اللطائف والدقائق بالنواجذ، فإن فيها خيرًا كثيرًا.