الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلك دعوة الكاتب، وهي وإن كانت تظهر هويته بصراحة ووضوح، إلا أنه يكشف لنا عن هويته، بكلام أكثر صراحة حينما يقول:(إن للدين سببًا إنسانيًا. وإن لكل دين جانبين إيمانيًا ودنيويًا، ومن ثم فللقرآن -الذي دون بعد نزوله بفترة هذان الجانبان، الأول باعتباره كلامًا موحى به، والثاني باعتباره مشتملًا على تنظيم الحياة لمن نزل عليهم. ويمعن أكثر فأكثر، وهو يكشف عن هويته حينما يقول: (إن للدين دورًا في حياة الإنسان ما ظل الإنسان يموت، لأنه يبشره بحياة بعد الموت، يثير في نفسه القدرة على تقبل بؤس الحياة وشقائها. وإذا كان للدين هذا الأثر فإن له معنى تاريخيًا).
وبعد ذلك يحاول تطبيق نظريته هذه على القرآن في مواضع متعددة فيقول: فكون أول آيات القرآن نزولًا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فإن لهذا معنى تاريخيًا. وكون الصوم كان في أول المحرم، ثم صار في رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فإن لهذا معنى اجتماعيًا. وكذلك كون الصلاة في أوقات يعينها اختلاف دورة الشمس، وكون الحج إلى الكعبة، التي كانت الأسواق التجارية على مقربة منها، كل هذا يدل على هذه المعاني التاريخية الاجتماعية. وهكذا يمضي الكاتب في تلك الشقشقات، تظهر أهدافه تارة، وما يخفيه في صدره أكبر وأعظم.
الدوافع الحقيقية لتلك الدعوة:
هذه الأقوال لا تدل على جهل صاحبها في الدين فحسب، وإنما تدل كذلك على مدى تأثره وارتباطه، بتلك النظريات المادية بعامة واليسارية بخاصة. إنها النظريات التي طغت على كثير من مثقفينا في هذا الظرف العصيب، وتلك المرحلة الصعبة التي تمر بها أمتنا، ولا أظن أن الكاتب نسي أو تناسى أن الفرنسي الذي استشهد به، والذي قال عنه إنه سبق علماء الأزهر، بمحاولة تفسير عصري للقرآن، هو شيوعي يهودي. وبالطبع فعلماء الأزهر بل وكل مسلم، مهما كان علمه يعجز -ولكن عن غير ضعف- أن يفسر القرآن تفسيرًا تبث فيه اليهودية والشيوعية
أغراضهما، من أجل النيل من هذا الدين.
ونحب أن نطمئن الكاتب إلى أن القرآن الذي أنزله عالم الغيب والشهادة والذي يعلم السر في السماوات والأرض، لا يمكن تعصيره، لأنه نزل ملائمًا لكل عصر، ولا تطوير معناه لأن معانيه ملازمة للجدة دائمًا. فهو خير مصلح للبشرية على اختلاف أزمنتها وأمكنتها، والتفسير التاريخي الاجتماعي الذي يريده الكاتب، لا يجرؤ مسلم يؤمن حق الإيمان بالله واليوم الآخر، وبقدسية القرآن، على القيام به كما يبتغيه الكاتب. ذلك أن الكاتب ينطلق من أرضية معينة ونظريات معينة. تلك النظريات التي تفسر كل شيء تفسيرًا ماديًا، فالتاريخ مثلًا ينبغي أن يفسر تفسيرًا ماديًا، فإذا قيل إن المسلمين انتصروا على الروم. قال هؤلاء نعم إن تفسير ذلك قوة المسلمين عدة، وكثرتهم عددًا، وحرصهم على المادة التي سيغنمونها، والاضطراب الداخلي في صفو أعدائهم، وهكذا يسوّغ هؤلاء حوادث التاريخ. كل ذلك ليطمسوا معالم القوة الروحية، وعامل العقيدة والدوافع الإيمانية والعناية الربانية، ولم يكتف هؤلاء بهذا التفسير المادي للتاريخ، بل تجاوزوا ذلك إلى الدين نفسه. وهذا ليس غريبًا بالطبع، فالدين ظاهرة تاريخية لها سبب إنساني كما يزعمون، فالإسلام ثورة قام بها النبي ليحارب الإقطاع ويقضي عليه، والقرآن إذن جاء من أجل هذا، وافترض ما افترض على الناس من أجل هموم مادية كما يسمونها.
فالصيام له معناه التاريخي والاجتماعي، بل الاقتصادي، والحج إلى مكة حيث الأسواق التجارية، والزكاة قصد منها تفتيت الثروة. وهكذا يقولون فيما شرعه القرآن {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] ولعل الكاتب يعبر عن ذلك كله بهذه الجملة الموجزة (ما ظل الإنسان يموت فهو بحاجة إلى الدين، لأنه يثير في نفسه القدرة على تحمل البؤس والشقاء). وهذا تمامًا يتفق مع العبارة القائلة (الدين أفيون الشعوب) والإنسان بحاجة إلى الدين إذن لأمر مادي يتصل برغبته.