الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالشيخ رشيد قد عرض إذًا للتفسير العلمي، بهذه الأدلة التي ذكرناها وبدليل ما ذكره هو من قوله أنه سيعرض للتفسير العلمي في كثير من مواضع تفسيره، وإذًا فلم يقف منه موقف المعارضة كما قيل.
جـ- عرض الشيخ عبد القادر المغربي -وهو علم من أعلام مدرسة الإمام- للتفسير العلمي في تفسيره جزء تبارك.
د- أما الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي رحمه الله، فعلى الرغم من أنه وقف من هذا التفسير موقف المعارضة في مقدمته لكتاب (الإسلام والطب)، للمرحوم الدكتور عبد العزيز إسماعيل، إلا أنه لم يستطع إهمال هذا اللون من التفسير. وسأعرض للحديث عنه وعن سابقه إن شاء الله في الباب التالي عند ذكر منهج المفسرين.
فمدرسة الإمام إذًا قد أسهمت في هذا اللون من التفسير. والوحيد من رجالها الذي لم نجد له آثارًا في هذا اللون، هو الشيخ شلتوت رحمه الله.
مناقشة ما ذهبوا إليه:
ولنبدأ بمناقشة المانعين وقد عرفنا أن من أبرز هؤلاء وأسبقهم الشاطبي رحمه الله وتتلخص دعواه في: -
أمية العرب أمية الشريعة لذا لا يجوز لنا أن نفسر الآيات بما لم يكن معروفًا عند الذين نزل القرآن فيهم، وقد ذكرنا خلاصة لأقواله من قبل، فارجعوا إليها إن شئتم. ونناقش دعوى الشاطبي رحمه الله بتقرير ما يلي:
1 -
ينبغي أن لا ننسى أن القرآن الكريم وإن نزل في العرب لكنه لم ينزل لهم وحدهم، وإنما نزل للناس جميعًا {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمسًا لم يُعطهن أحد قبلي
كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة
…
الحديث) (1) والنصوص في ذلك كثيرة، فالقرآن الكريم والشريعة -إذن- لا ينبغي أن نضيق دائرتها لنحصرها في الأمة الأمية وحدها.
2 -
إن قول الشاطبي رحمه الله إن الشريعة أمية جدير بالمناقشة، إذ لا يلزم من أمية الأمة، أمية التشريع، فهذه الشريعة التي أكرمنا الله بها نجدها -ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين- تفوق كل ما وصل إليه الإنسان المتمدين في مجالات الحياة وأنواع التشريع، فليست أمة الشريعة وأمية الأمة سواء.
3 -
ليس معنى كون الأمة أمية أنها ستبقى كذلك، فلقد أكرم الله الإنسانية بهذا الدين، وبهذا الكتاب الخالد، وبهذا النبي العظيم عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم، لتسعد الإنسانية وتصعد، وتنهض الأمة بأعباء هذه الرسالة الخالدة، فينقطع دابر الجهل، وتصل إلى أسرار هذا الكون الذي سخره الله لنا سماءه وأرضه وفي ذلك آيات كثيرة منها قول ربنا:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] فليس من منطق التاريخ أن تظل الأمة أمية في عصورها كلها. ثم ماذا نقول عن أولئك الذين دخلوا في الإسلام من غير الأميين، كيف يتأتى لهم في مجالات حياتهم، أن تكون الشريعة التي يدينون بها ويخضعون لها أمية لا تتسق مع أوضاعهم، ولو كان ذلك مقبولًا لرفض أئمة المسلمين وعلماؤهم ومفكروهم جميع العلوم والمعارف التي تتنافى مع هذه الأمية.
إن الواقع والتاريخ يشهدان لغير ذلك، لقد هضم المسلمون أنواع المعارف جميعها فأنتجت لهم نوعًا من المعرفة المتصلة بكيانهم، وهي التي
(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم (1/ 128).
صارت فيما بعد جزءًا من هذا الدين.
4 -
إن دعوى تفسيرنا للقرآن بما لم يكن معلومًا لسادتنا الصحابة رضوان الله عليهم، أمر لا يجوز لأنه فيه انتقاصًا من قدر الصحابة رضوان الله عليهم كما يقول الشيخ رحمه الله دعوى غير جائزة، بل هي مردودة تردها نصوص هذا الدين الحنيف، فنحن نعلم أن الله تبارك وتعالى أوجب على المسلمين أن يتدبروا القرآن الكريم، ولذا لم يفسر منه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا آيات قليلة، ليعيش المسلمون دائمًا على مادته، ولو وجب علينا أن نقف عند ما وقف عنده الصحابة رضوان الله عليهم، لم يكن أي معنى للتدبر، صحيح يجب أن نهتدي بما وصلوا إليه، ولكن ليس معنى هذا أن نحرم على أنفسنا كل ما يفتح الله به من حقائق في فهم هذا الكتاب المبين.
ونرجو أن لا يفهم أحد أننا نفتح الباب على مصراعيه، ليتطاول الناس فيما لا ينبغي لهم، وأن نفسر آي القرآن الكريم تفسيرًا يقوم على الظن والحدس وأن نلهث وراء كل قول وخلف كل نظرية، إن ذلك أمر لا يجوز أبدًا، ولقد نقلنا من قبل ما قاله كثير من العلماء في هذا المعنى، ولسنا مع كثير ممن فسروا آي القرآن الكريم تفسيرًا بعيدًا عن لغته، بعيدًا عن سياق آياته.
يقول الأستاذ محمد رجب البيومي:
نحن الآن في عصر تقدمت فيه الفتوح العلمية تقدمًا مدهشًا، ففي كل يوم جديد طارف تحمله انتصارات العقل البشري، فتسير به الصحف اليومية مقرظة مادحة، والمجلات العلمية مفصلة شارحة، وقد تطوع رهط من أولى العلم والثقافة، فأخذوا يدرسون آيات الكتاب الكونية دراسة هادية، ويحاولون أن يستشفوا من خلالها أقباسًا وضيئة، تشير إلى ما جد من مخترع واستحدث من مكتشف، على حين قام فريق آخر من أولي العلم أيضًا يناهض هذا الاتجاه ويحاربه ويرى أن تظل نصوص القرآن بعيدة عما يراد لها من التوجيه والاستدلال، ولا نريد أن نعجل
بالحكم في هذه القضية الدقيقة، قبل أن نستعرض أدلة أولئك وهؤلاء، ليطمئن القارئ إلى وجه يرضيه! .
يذهب الذين يريدون أن يفسر القرآن الكريم تفسيرًا علميًّا، تؤيده النظريات المستحدثة إلى أدلة واضحة محددة، فهم يرون أن القرآن ليس للعرب فقط حتى يكون إعجازه بلاغيًا يلمس الفصحاء وحدهم ويدركه من فهموا أسرار البيان العربي من ذكر وحذف- ووصل وفصل، ولكنه إعجاز بشري يشمل الناس كافة من آسيويين وأوروبيين وأمريكيين وأفريقيين، وهؤلاء العجم من غير العرب يستطيعون أن يفهموا نواحيه العلمية والنفسية والاجتماعية فلو اقتصر الإعجاز القرآني على الوجه التشريعي أو البلاغي لفات هؤلاء جميعًا أن يروا أقباسًا وضيئة من نور الله، كما أن القرآن ليس خاصًّا بجيل واحد من الأجيال، فنحصر تفسيره فيما يروى عن الصحابة والسلف من أقوال، ومن حق كل جيل أن يفهم منه ما يمتد إليه بحثه العلمي والنفسي والاجتماعي من استنباط وقياس! ! فإذا حاول أبناء القرن العشرين أن يجدوا في بعض آياته تعضيدًا لما سطعت به الفتوح العلمية من حقائق، فإنهم بذلك يزدادون إيمانًا ويقينًا، وهذا كسب كبير للنصوص الدينية في عهد يفيض بالشكوك ويمتلئ بالإلحاد! ! على أن هؤلاء الملاحدة المتشككين لا يجدون حجة يستطيلون بها على المؤمنين إذا وجدوا الحقائق العلمية تؤيد ما يتشككون فيه من هدي كريم، فنخرس ألستتهم أمام الحجج الساطعة، ويجد كتاب الله له من النظريات الثابتة أسسًا تدعمه وأركانًا وطيدة تقويه وتعليه! ! .
هذه هي أهم ما يحتج به أنصار التفسير العلمي للقرآن من أقوال وقد بسطها العالم المتمكن الغيور الأستاذ محمد أحمد الغمراوي غير مرة في أعداد مختلفة من الرسالة (1)، وجاء كتابه العلمي النفيس (في سنن الله الكونية) تطبيقًا عمليًا لما يرتئيه، وقد احتاط احتياطًا مفيدًا حين وضع القيود المحكمة لهذا التفسير العلمي
(1) الرسالة الأعداد 705، 706، 146.
فقال نقلًا عن الرسالة (1) (وقبل أن نورد الأمثلة التوضيحية، يجب أن ننبه إلى أمرين مهمين، الأول أنه لا ينبغي في فهم القرآن الكريم أن نجدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن الواضحة تمنع من حقيقة اللفظ، وتحمل على مجازه، لأن مخالفة هذه القاعدة الأصلية قد أدى إلى كثير من الخلط في التفسير.
أما الأمر الثاني فهو أنه ينبغي ألا نفسر كونيات القرآن إلا باليقين الثابت من العلم، لا بالنظريات ولا بالفروض، لأن الحقائق هي سبيل التفسير الحق، هي كلمات الله الكونية ينبغي أن يفسر بها نظائرها من كلمات الله القرآنية، أما الحدسيات والظنيات فهي عرضة للتصحيح والتعديل، إن لم يكن للإبطال في أي وقت).
وإذن فهذان قيدان مفيدان وضعهما الأستاذ الغمراوي ليحول دون الشطط في التأويل والجموح في التطبيق، وقد جاء الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي رضي الله عنه بقيد ثالث نضيفه إليها حين قال:(يجب ألا نجر الآية إلى العلوم كي نفسرها، ولا العلوم إلى الآية كذلك، ولكن إن اتفاق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها)(2) ويمكن القارئ أن يأخذ هذا القيد مستشفًا من خلال القيدين السابقين إلا أنني آثرت أن أسجله صريحًا واضحًا، ليكمل التوجيه المحتوم لمن يتعرض إلى كتاب الله بتفسير علمي رشيد، في ضوء هذه التوجيهات الصريحة قطع العلماء من المتفقهين شوطًا حميدًا في تفسير بعض الآيات الكونية والطبية -فضلًا عن النفسية والاجتماعية، فجاءوا بما يجب ويروق مما لا يتطرق إليه التعسف والافتعال وأصبح القارئ المثقف يجد تفسيرًا علميًّا شافيًا لأمثال قول الله تعالى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9، 10] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا
(1) الرسالة العدد 705.
(2)
مجلة الأزهر المجلد السادس ص 635.
فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].
وإذا كانت بعض الآيات الكونية لا تزال في دور التطبيق الصريح فإن أكثر الآيات الطبية قد وجدت من العلم نصيرًا مجددًا، فأصبح من الإعجاز العلمي للقرآن أن نقرأ قول الله عز وجل:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]. وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] ونحو ذلك مما انبسط فيه مجال القول للمتخصصين، فكان إحدى معجزات القرآن الكريم.
أما الفريق الآخر ممن لا يرون أن نجذب التفسيرات العلمية إلى آيات الكتاب، فيذهبون إلى أن القرآن قد خاطب العرب أول من خاطب من الناس، وهم قوم أميون لا يحتاجون في فهم النصوص الصريحة إلى التغلغل في العلوم الكونية، والرياضيات الهندسية، وقد واجههم القرآن بما في مقدورهم أن يستوعبوه من الكلام، فأدى رسالته معهم على أحسن وجه يتاح، إذ فهموا مبادئه ودرسوا شرائعه دون أن تكون بهم حاجة إلى نظرية علمية، أو فلسفة كونية فعلى المفسرين أن يفهموا من القرآن ما فهمه العرب الأوائل، إذ أن كتاب الله لسان هداية، ومنار توجيه، أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا ليتحدث عن أسرار البرق والرعد والمطر والرياح، ولا ليحدد مواضع الشمس والقمر والنجوم والبحار والجبال
…
ثم إن النظريات العلمية في الكون لا تستقر على حال فقد تثبت القضية الكونية لدى جيل من الأجيال، حتى تصبح أمرًا بدهيًا لا يجوز فيه الاختلاف، ثم يدور الزمن فيجد من النظريات ما يقلب الأولى رأسًا على عقب، فإذا فسرنا القرآن بمقتضى النظر العلمي فإننا نجعله ميدانًا للتأويل المتناقض المضطرب حتى ليجوز أن نتخذ من الآية الواحدة دليلًا للإثبات في زمن، والنفي
في زمن آخر، ومثل ذلك عبث بالغ يجب أن يتنزه عنه كتاب الله.
ومما جعل الآذان تصغي كثيرًا إلى هذا الفريق أن أناسًا ممن لا يجمعون بين النظر الصائب والعلم الصحيح قد دفعهم حب الابتكار إلى تفسير بعض الآيات تفسيرًا بدائيًا لا يستند إلى دليل، فحين يظهر مكتشف ما من المكتشفات يسارع هؤلاء السطحيون، فيقتطعون من كتاب الله ما يوهم صاحب النظر المتسرع أنه يسير مع المكتشف الحديث، ثم يَملَؤون الصحف هراء بتمحلاتهم الكاذبة، وافتئاتهم المقيت، ويدعون عند ذلك أن كتاب الله قد ألقى إليهم بأسراره، فهم قديرون على أن يستنبطوا منه قضايا العلم الحديث، وينسون أنهم في تمحلهم الكاذب يخبطون خبط عشواء! ! .
تجد أحد هؤلاء يتحدث عن التصوير الشمسي فيستدل بقول الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45].
أو يتحدث عن الأثير فيستدل بقول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] أو يتحدث عن القمر الصناعي فيستدل بقول الله {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] أِو يلم بآلة التسجيل الهوائي للأصوات فيستشهد بقول الله {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] أو يشير إلى تحطيم الذرة فيقرأ قول الله {وَتَرَى الْجِبَال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] وربما تجرأ هؤلاء الأدعياء فكتبوا المؤلفات المتتابعة تحت عنوان (بين العلم والقرآن) وظنوا أنهم بتسرعهم العاجل يقاربون بين العلم والدين! ! وأذكر أن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت قد كتب في الرسالة (1) ردًّا مسهبًا ضافيًا يفند به ما ذهب إليه هؤلاء الأدعياء من تعسف مقيت، فبسط الحجج المقنعة على فساد نظرهم الطائش واستدل بالنقل والعقل على شططهم الكريه، ثم قال في ختام حديثه: (فلندع للقرآن عظمته وجلالته ولنخلع عليه قدسيته ومهابته،
(1) الرسالة العدد 408 سنة 1941.
ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق، وظواهر الطبيعة، إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ليزداد الناس إيمانًا مع إيمانهم، وحسبنا أن القرآن لم يصادم ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول).
وكلام الأستاذ الأكبر -كما هو واضح جلي- موجّه إلى من يهجمون على التأويل دون دراسة فاحصة فلا يربطون الآيات بعضها ببعض، أو يلتفتون إلى أسباب النزول وأسرار البيان أو يحكمون السياق الأسلوبي للقرآن، بل يندفعون وراء الحدس الظني والخيال الوهمي ثم يجترئون فيطبقون ويؤولون! ! أما من يتقيدون بالنهج الصحيح في التزام اليقين الثابت من العلم، والصريح الواضح من الآية دون أدنى تكلف يدعو إلى الاعتساف والشطط، فما نظن إلا أن الأستاذ الأكبر يوافق سلفه الأستاذ الأكبر المراغي على منحاه في تفسير ظاهر الآية بالحقيقة العلمية دون تكلف أو افتعال لأن كتاب الله كما يقول الأستاذ شلتوت (لم يصادم ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول) هذان رأيان متقابلان وبالنظر إلى أدلة كل رأى على حدة، نجد أن الذين ينادون بابتعاد القرآن عن التفسير العلمي مصيبون كل الإصابة، إذا كان التفسير قائمًا على الظن الوهمي، أو التعسف التأويلي، أما إذا كان مستندًا إلى الصريح من القول معتمدًا على اليقين الثابت من العلم، فلا يمنع إطلاقًا أن نستضيء بشعاع العلم في إيضاح حقائق الذكر الحكيم، وإذا كان القرآن كتاب هداية وإرشاد، فإن آياته العلمية لا تحول دون هذه الهداية المبتغاة! بل تؤكدها وتدعو إليها الجاحدين، أما من يقول: إنه نزل في أمة أمية لا تعرف النظر العلمي فنحن نردّ عليه بأنه لم ينزل لأمة واحدة أو قرن واحد، بل لجميع الأمم في شتى القرون المتعاقبة ليأخذ كل جيل من هديه ما يناسب استعداده الذهني والنفسي ولن يضير اللهر المترقرق أن يرتوي منه غلام ناشئ أو شاب مكتمل، ولن تجد حجة لمن يدعون تناقض العلم واضطرابه لأننا في هذا التفسير المرتقب لن نأخذ بغير اليقين الثابت مما صححته الأجيال المتعاقبة دون أن نكر عليه بالنقض والتفنيد، وسنتمسك بالقيود الملزمة التي فرضها العلماء على أنفسهم وسجلناها مركزة في صدر
هذا المقال، وقد التفت المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي إلى هذه الناحية من الإعجاز العلمي، فأيد ما ذهب إليه العالم التركي مختار باشا في كتابه (سرائر القرآن)، ونقل قدرًا منه في الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب (1) ثم قال الرافعى (2):
(ولعل متحققًا لهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن الكريم وأحكم النظر فيه، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم ولا يلتوي عليه أمر من أمره، لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط أنباءها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها، بلى، وإن في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعونًا على تفسير بعض معاني القرآن والكشف عن حقائقه، وإن فيها لجامًا ودربة لمن يتعاطى ذلك، يحكم بها من الصواب ناحية، ويحرز من الرأي جانبًا، وهي تفتق له الذهن، وتواتيه بالمعرفة الصحيحة على ما يأخذ فيه، وتخرج له البرهان وإن كان في طبقات الأرض وتنزل عليه الحجة وإن كانت في طبقات السماء! ! ).
ومما يدور حول هذه المعاني ما كتبه الأستاذ الأكبر المراغي في مقدمة كتاب (الإسلام والطب الحديث) لعبد العزيز إسماعيل وكنت أوثر أن أنقل بعض حديثه لولا أنه ليس تحت يدي الآن.
على أن هذه الدعوى المخلصة إلى النظر في كتاب الله على ضوء من العلم الحديث يجب أن ننتفع انتفاعًا واعيًا بما اصطدمت به عند التطبيقات الأولى في الغابر والحاضر من أخطاء لنحيد عنها في دورها التطبيقي الجديد، فنحن نجد أن تفسير الفخر الرازي قد أثقل إثقالًا بالآراء الكونية والعلمية التي فاض بها القرن الخامس من الهجرة فجاء في كثير من صفحاته بعيدًا عن الجو القرآني حتى قال فيه بعض الباحثين: إنه يجمع كل شيء غير التفسير! ! وأنا أعتقد أن الرازي قد كتبه لخاصة تلاميذه فأتخمه إتخامًا حال دون ازدهاره بالقياس إلى غيره. على جودة
(1) ص 127 ط سنة 1953.
(2)
ص 125 ط 3 سنة 1953.
حكمه وصائب رأيه، كما نجد أن المسألة قد كررت في صورة مكبرة حين جاء الأستاذ طنطاوي جوهري- فملأ تفسيره الضخم بمئات المسائل العلمية التي تتحدث عن مظاهر الكون حديث الكيميائي والطبيعي والفلكي والجغرافي والنباتي، فهو ينتهز كلمة عابرة كالرعد أو الأرض أو النحل أو النمل ليفيض في دقائق علمية تعرض خواص هذه الأشياء دون أن تدعو إليها حاجة التفسير المعقول للكتاب الكريم! ، ولقد سُجل رد الشيخ رشيد على الإمامين الرازي وطنطاوي جوهري رحمهما الله تلميحًا في مقدمة الجزء الأول من التفسير، وتصريحًا في مجلة المنار (1) حيث يقول من حديث طويل:(ثم توسع المؤلف -يعني الشيخ طنطاوي جوهري- في هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم، ومحبي العلم إلى هدي القرآن في الجملة، والإقناع بأنه يحث على العلم لا كما يدعى الجامدون من تحريمه له، أو صده عنه، فهو لم يعن تبيان معاني الآيات كلها، وما فيها من الهدى والأحكام بقدر ما عني من سرد المسائل العلمية وأسرار الكون وعجائبه، ولا يمكن أن يقال: إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمى تفسيرًا له، ولا أنه مراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا). وإن ما وجه إلى المتبحرين في مسائل الفلسفة والعلم لأدنى مناسبة واهية كالفخر الرازي والشيخ طنطاوي جوهري من ناحية، والى المتكلفين أوجه التأويل عن طريق الكناية والمجاز من ناحية ثانية، ليدعونا دعوة صادقة إلى أن نتجنب كل خطأ وقع فيه أولئك وهؤلاء حتى يكون التفسير المنتظر صائب النظر صادق الإقناع، فيشفي النفوس المريضة ويرشد الأبصار الحائرة ويدعو إلى صراط مستقيم).
ونحن مع الأستاذ فيما ذهب إليه من أن التفسير لا ينبغي أن يؤخذ على علاته أو يزاوله كل أحد، نمثل لهذا بكتاب (الآيات الكونية) للأستاذ حنفي أحمد الذي سنناقشه في المبحث الآتي.
(1) مجلة المنار شعبان سنة 1348 هـ.