الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث الحاجة إلى التفسير
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وقد بلغت اللغة أوج عظمتها، فكانت آياته تؤثر في القوم، والوسول عليه وآله الصلاة والسلام يتلوها عليهم لأول مرة. والأخبار في ذلك كثيرة متواترة وما خبر الوليد وغيره ببعيد (1).
ولقد كان القوم بسليقتهم مرهفي الإحساس اللغوي، وذلك أمر تحتمه الظروف التي كانوا يعيشونها فلقد امتازوا برقة الطبع كما امتازت لغتهم بدقة الوضع، لهذا كانت الآية من القرآن تعمل عملها فيهم لأول وهلة يسمعونها. وقصة إسلام عمر رضي الله عنه (2) خير شاهد على ما نقول:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28] ولكن على الوغم من ذلك كله، فإن القرآن كتاب سماوي نزل على حسب الوقائع، وآياته بحاجة إلى البيان، وبخاصة أن كثيرًا من تعليماته وتشريعاته وأحكامه وقصصه كانت جديدة على القوم، طرقت أسماعهم لأول مرة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فلقد كان القوم يتفاوتون فهمًا وذكاء ومعرفة باللغة كذلك.
ولما كان القرآن الكريم كتابًا سماويًا أنزله الله لهداية الناس فيه المجمل والمبهم والأوامر والنواهي. والقصة والحِكم -وأفهام الناس ليست سواء- احتيج إلى بيان هذه الأمور فكان المرجع الأول في ذلك رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام، ليبين مجمله ويوضِّحَ مشكله، ويرشد إلى ناسِخِه ومَنْسُوخِهِ وأسباب نزوله، كما سنبينه فيما بعد إن شاءَ الله.
(1) سيرة ابن هشام جـ 1 ص 270 طبعة مصطفى الحلبي، (قصة الوليد مختصرة).
(2)
الطبقات الكبرى (3/ 267)، الثقات (1/ 75).
أما بيان ألفاظ القرآن فإنما هو الرجوع إلى العربية شعرًا ونثرًا، ولما كان القوم الذين نزل القرآن فيهم على مستوى رفيع، فعل القرآن فيهم، فعله العظيم.
من هنا ندرك أن للقرآن الكريم خاصيتين اثتتين كونه سماويًا أولًا، وكونه عربيًا مبينًا ثانيًا، وإذا لم يكن القوم الذين نزل فيهم بحاجة إلى تفسيره من الحيثية الثانية فهم بحاجة إلى تفسيره من حيث الخاصية الأولى، نعني كونه كتابًا سماويًا.
يبين هذا ما نجده في سؤال كثير من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسير آيات من كتاب الله، وسؤال الصحابة بعضهم بعضًا.
لذا كانت الحاجة ماسة إلى تفسير القرآن منذ نزوله، إلا أن من الواجب أن نقرر هنا أن هذه الحاجة لم تكن في جميع العصور سواء، بل كانت تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، فحاجة التابعين للتفسير كانت أشد من حاجة الصحابة، وكذلك الناس فيما بعد كانوا أشد حاجة ممن قبلهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فلقد كانت هذه الحاجة أوسع دائرة في الأزمنة المتأخرة يدلنا على ذلك الاستقراء للكتب التي وضعت في تفسير القرآن الكريم.
قال أبو حيان: "وكانت تآليف المتقدمين أكثرها إنما هي شرح لغة ونقل سبب ونسخ وقصص لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب، وبلسان العرب، فلما فسد اللسان وكثرت العجم ودخل في دين الله أنواع الأمم المختلفة الألسنة والناقصو الإدراك، احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى من غرائب التركيب وانتزاع المعاني وإبراز النكت البيانية حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها، ولا عنصره يحركه إليها، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب؛ فإن ذلك كان مركوزًا في طباعهم، يدركون تلك المعاني كلها من غير موقِفٍ ولا معلم؛ لأن ذلك هو لسانهم وخطبُهم وبيانهم"(1).
(1) البحر المحيط (1/ 13).
إن الطريقة المثلى لفهم القرآن والتأدب بآدابه وإحلال حلاله وتحريم حرامه، معرفة تفسيره وتدبر آياته {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] وقد روي عن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، (اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه)(1). وعن إياس بن معاوية (2) مبينًا شرف التفسير والحاجة إليه (مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلًا، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب. ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب" (3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال: (المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله)(4).
والحق أن شرف كل علم بشرف موضوعه. ولما كان موضوع التفسير كلام الله تبارك وتعالى، وهو جماع السعادتين، لا عجب أن يتبوأ التفسير المكانة الأولى، وأن تتصدى للكتابة فيه أقلام العلماء، وأفكارهم لاستخراج كنوزه فجزاهم الله كل خير.
وكلما أظلمت الحياة في وجوه المسلمين، وطال ليلهم، كانوا أكثر ما يكونون حاجة إلى القرآن الكريم؛ ليخرجهم من هذه الظلمات، ولن يتأَتَّى لهم ذلك إلا بتدبره، ومعرفة تفسيره، فالقرآن -كما نعلم- لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على
(1) أخرجه البيهقي في الشعب، وابن أبي شيبة والحاكم، قال الحاكم صححه جماعة، ولكن الحافظ الذهبي والهيثمي وغيرهما أجمعوا على ضعفه. فيض القدير (1/ 558).
(2)
قاضي البصرة أبو واثلة. يضرب بذكائه وفطنته المثل، روى عن أنس وجماعة ووثقه ابن معين، وكان صاحب فراسة توفي عام 122 هـ (سير أعلام النبلاء (5/ 155)، شذرات الذهب (1/ 160)، حلية الأولياء (3/ 1123)، وفيات الأعيان (1/ 247).
(3)
صفوة البيان ج 1 ص 5.
(4)
الطبري ج 3 ص 60.