الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلت بي وفعلت بك (1)، فإذا أرادوا هذا لم تكن إلا فاعلت. فإذا أردت: عاهدتك وراءيتك وما يكون الفعل فيه مفردًا دهو الذى يحتمل فعلت وفاعلت. كذلك يقولون: كالمت فلانا وكلمته، وكانا متصارمين فصارا يتكالمان ويتكلمان.
الجاحظ:
وبعد ذلك جاء إمامٌ فذٌّ، انتهت إليه الرياسة دون منازع في دفاعه عن العربية، وسيبقى بحق رائدًا من أولئك الرواد القلائل، الذين جمعوا إلى سعة الإطلاع، وقوة الحافظة، وغزارة العلم، والاعتزاز بالتراث، والغيرة على الثقافة العربية والإسلامية، جمع إلى ذلك كله يقظة الذهن، وصدق العاطفة، وإرهاف الحس، وسلامة التفكير، وإحكام المنطق، والقدرة على الاستنتاج ذلكم هو الجاحظ، الذي خلَّد للتراث مكتبة تكاد تكون متكاملة، تنتظم المعارف التي كانت معروفة إلى عهده، فخلد بذلك أثرًا لا يخلِّده إلا الجهابذة النحارير.
والذي يعنينا من هذا التراث تلك الملحوظات، أو قل: المباحث القيمة في قضايا البلاغة القرآنية، سواء بذلك ما وصل إلينا منها، أم لم يصل مما أشار إليه، أو أشار إليه العلماء من بعده، وهذه الملحوظات أو المباحث، تجدها أكثر ما تكون في كتابيه (البيان والتبيين) و (الحيوان)، فقد تحدّث في مواضع متعددة عن كثير من القضايا البلاغية كالإيجاز، والتشبيه، والمجاز، والاستعارة، والكناية، وكثير من الفنون البديعية، وهي مبثوثة في ثنايا كتبه، إلا أنه ينقصها حسن التبويب، والتنظيم، وليس في ذلك ما يعيبه، حيث كان ذلك طبيعة هذه المرحلة التي عاش فيها الجاحظ.
لقد دافع الجاحط عن العربية، وردَّ على الشعوبيين الذين أرادوا أن ينالوا منها.
(1) يعني إذا كان الفعل بين اثنين.
وقد وجدناه يخص الكلمة القرآنية بعناية، وهو يبين لنا خصائصها وأسرارها، فالقرآن الكريم تختار فيه اللفظة، التي تناسب الموضع الذي جاءت فيه، فقد يشترك لفظان أو أكثر في معنى، ولكن أحدهما يكون أكثر دقة، فيذكر في التنزيل وهكذا فألفاظ القرآن مختارة منتقاة، وإن كان سيظن لأول وهلة بأن بعضها مترادف، إلا أن بينها من دقة الفروق ما يخفى على الكثيرين، حتى ذوي النظر، يقول:(وقد يستخف الناس ألفاظًا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع، إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والأمة وأكثر الخاصة يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين، ألا ترى أنه لا تجمع الأرض على أرضين ولا السمع أسماعًا، والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال، وقد زعم الفراء أنه لم يرد ذكر النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج)(1).
ولم تقف براعة الجاحظ ودقة فكره عند هذه القضية في اللفظة القرآنية، بل نجده يطلعنا على لطائف كثيرة لهذه اللفظة. من هذه اللطائف أنها قد تذكر اللفظة القرآنية لتسد مسدَّ ألفاظ كثيرة، فيستغني عن هذه الألفاظ جميعًا يقول:(وقد قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} فقال لنبيه {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فاشتق لكل صائد وجارح وباز وصقر وعقاب وفهد وشاهين وزرق، ويئوبو وباشق وعناق الأرض من اسم الكلب)(2).
(1) البيان والتبيين طبعة هارون جـ 1 ص 20.
(2)
كتاب الحيوان طبعة هاررن جـ 2 ص 188.
ومن هذه اللطائف كذلك أن بعض الكلمات تذكر متصاحبة مع غيرها لا تكاد تفترق مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس (1).
فإذا تركنا حديث الألفاظ فإننا نجد حديث الجاحظ عن الصورة البيانية في القرآن حديثًا متعدد الأمثلة متنوع التطبيق، ومن أمثلته ما ذكره تفسيرًا لقول الله عز وجل عن شجرة الزقوم {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} إذ قال في سداد وتوفيق (2):
(زعم ناس أن رؤوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه، والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير، وقالوا ما عنى إلا رؤوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم، فقال أهل الطعن والخلاف ليس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهمه، ولا وصفت لنا صورته في كتاب ناطق او خبر صادق، ومخرج الكلام يدلّ على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها وعلى أنه لو كان شيء أبلغ في الزجز من ذلك لذكره، فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شيء هائل شنيع قد عاينوه، أو صوّره لهم واصف صدوق اللسان بليغ في الوصف، ونحن لم نعاينها ولا صورها لنا صادق، وعلى أن أكثر الناس من هذه الأمم التي تعايش أهل الكتابين وحملة القرآن من المسلمين ولم تسمع الاختلاف لا يتوهمون ذلك ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه فكيف يكون ذلك وعيدًا عامًّا؟ قلنا وإن كنا نحن لم نر صورتها قط ولا صوّر رؤوسها لنا صادق بيده ففى إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان حتى صاروا يضعون ذلك في مكانين أحدهما أن يقولوا لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر أن يسمَّى الجميل شيطانًا على جهة التطير له كما تسمى الفرس الكريمة شوهاء، والمرأة الجميلة صماء قرناء
(1) البيان والتبيين طبعة هارون جـ 1 ص 21.
(2)
الحيوان جـ 6 ص 212.
وخنساء وجرباء وأشباه ذلك على جهة التطير له، ففي إجماع المسلمين والعرب وكل من لاقينا، على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه في الحقيقة أقبح من كل قبيح) (1) ولإدراك الجمال في هذا القول نذكر أن الشبهة التي وجهتا إلى الآية الكريمة تتلخص في أن تشبيه الشجرة برؤوس الشياطين لا يعطي انطباعًا ساطعًا تتضح به الصورة، لأن المشبه به مجهول لدى المخاطب، فكيف إذن يشبه معلوم بمجهول في منطق المتسائلين؟
وأذكر أن سؤالًا يدور حول هذه الآية، قيل إن أبا عبيدة قد أجاب عنه، وكان سببًا في تأليفه (مجاز القرآن) ولم أمل إلى تصديقه، وعلى فرض أن أبا عبيدة قده أجاب بأن العرب يستهولون الشيطان فتحدث القرآن عنه بما يدركون فإن إجابة الجاحظ إذا قورنت بإجابة أبي عبيدة تظهر الفرق الواضح بين إيجاز العالم وخيال الأديب المصوّر، لقد بدأ صاحب الحيوان فصوّر الاعتراض تصويرًا قويًّا نفاذًا لا يبلغه المعتوضون أنفسهم إذا قالوا عن ذواتهم حتى إذا أتضح للقارئ أتم اتضاح أتبعه بالرد المشبع المقنع ملتمسًا وسائل الإقناع بالمثل الشاهد والقول المتعارف لينتهي إلى أن الرؤية ليست كل شيء في دنيا التشبيه المبين، فللشعور النفسي اعتباره الأول، وفي أطوائه يكمن التأثير الوجداني المنشود، وتلك مسألة تلقفها البلاغيون بعد الجاحظ فذهبوا بها إلى أبعد الأشواط وتورط الذهنيون منهم في تمحل أمثلة مصنوعة تجعل التشبيه تارة بين مشبه عقلي ومشبه به حسّي وتارة على العكس من ذلك، وليتهم تركوا افتعال الشواهد إلى ما نطق به الأصلاء من ذوي البيان، بل ليتهم اهتموا بالبسط الأدبي اهتمام الجاحظ به إذا يُريحون وينفعون.
نتحدث عن البسط الأدبي في مجال الاعتراض والرّد معًا لننصف الجاحظ من فرية ظالمة حاول ابن قتيبة أن يقذفه بها لحاجة في نفسه، فقد زعم أن الجاحظ
(1) معجم الأدباء جـ 19 ص 158.
يؤلف كتابًا يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين فإذا صار في الردّ عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين! (1) ولا أدري كيف سمح صاحب هذا النقد على جلالة قدره وسمو علمه أن يسجله على نفسه، وهو يعلم أن كتاب الردّ على النصارى معروف متداول في عهده، ولا سبيل إلى ثلمه بهذه الغميزة البلقاء وقد أبقتا الأيام لنا جزءًا كبيرًا منه، فيسّر لنا أن نعصف بهذه الفرية إلى حيث تهوي بها الريح.
بل إن ابن قتيبة إذا راجع منصفًا قول الجاحظ في ردّه ذاك لأدرك على الفور مقصده من شرح آراء خصومه شرحًا وافيًا بليغًا كيلا يدع بعد قوله مجالًا لمتخرص يتشبث بمأخذ، وهذا ما عناه إذ قال في دفاعه (وليعلم من قرأ هذا الكتاب وتدبر هذا الجواب، أننا لم نغتنم عجزهم، ولم ننتهز غرتهم وأن الإدلال بالحجة والثقة بالفلج والنصرة هو الذي دعانا إلى أن نخبر عنهم بما ليس عندهم)(2)، وتلك لعمري منزلة من إنصاف الجاحظ ليس بعدها منزلة، وهي فوق دلالتها العقلية على مقدرته البالغة ذات دلالة خلقية بارعة تسمو به فوق الحيل الجدلية وألاعيب التغفل والانتهاز.
ومحل هذا القول في مضمار الحديث عن التفسير البياني للجاحظ أن الرجل لا يترك توسعه الجدلي حين يورد شبه مخالفيه في هذا التفسير، بل يمتد ويفيض ويتسع حتى لا يبقى خلجة تجول في نفس معترض فإذا جلّى آراء مخالفيه بما لا يملكون من سحره الخالب عفي عليها بما يزلزل بناءها من القواعد، ولا أمتع للقارئ من أن ندع الجاحظ يقدّم له مثالًا رائعًا من تفسيره البياني حين تعرض إلى تأويل قول الله عز وجل:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} (3).
(1) تأويل مختلف الحديث ص 72.
(2)
ثلاث رسائل للجاحظ ص 37.
(3)
الحيوان جـ 2 ص 6.
وسنذكر مسألة كلامية، وإنما نذكرها لكثرة من يعترض في هذا ممّن ليس له علم بالكلام، ولو كان أعلم الناس باللغة لم ينفعك في باب الدين حتى يكون عالمًا بالكلام، وقد اعترض معترضون في قوله عز وجل {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 175 - 176] فزعموا أن هذا المثل لا يجوز أن يُضرب لهذا المذكور في صدر هذا الكلام لأنه قال {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} فما يشبه حال من أعطى شيئًا فلم يقبله ولم يذكر غير ذلك بالكلب الذي إن حملت عليه نبح وولى ذاهبًا وإن تركته شد عليك ونبح، مع أن قوله يلهث، لم يقع موقعه، وإنما يلهث الكلب من عطش شديد وحرّ شديد ومن تعب، وأما النباح والصياح فمن شيء آخر، قلت له إن قال:{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} فقد يستقيم أن يكون المراد لا يسمى مكذبا، ولا يقال لهم كذبوا إلّا وقد كان ذلك منهم مرارًا، فإن لم يكن ذلك فليس ببعيد أن يشبه الذي أوتي الآيات والأعاجيب والبرهانات والكرامات في بدء حرصه عليها، وطلبه له بالكلب في حرصه وطلبه، فإن الكلب يعطي الجد والجهد من نفسه في كل حالة من الحالات، وشبه رفضه وقذفه لها من يديه وردّه لها بعد الحرص عليها وفرط الرغبة فيها بالكلب إذا رجع ينبح بعد إطرادك له، وواجب أن يكون رفض قبول الأشياء الخطيرة النفيسة في وزن طلبها الحرص عليها والكلب إذا اتبع نفسه في شدة النباح مقبلًا إليك ومدبرًا عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التعب والعطش، على أننا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا وهي رابضة وادعة، إلّا وهي تلهث من غير أن تكون هناك إلا حرارة أجوافها، والذي طبعت عليه من شأنها، إلّا أن لهث الكلب يختلف بالشدة واللين).
فالاعتراض هنا يتوجه إلى التشبيه إذ ظن صاحبه أنه غير دقيق محكم في بابه،
وشبهته في ذلك تتلخص في أمرين: أحدهما أن المشبه وهو من أعطي شيئًا فلم يقبله، لا يشبه بكلب إن حملت عليه نبح أو تركته نبح لخفاء وجه الشبه بين الطرفين، وثانيهما أن لهاث الكلب لا يكون إلا من الحر والعطش والتعب، والكلب هنا لم يعانِ شيئًا من نحو هذه الثلاثة فلم عدل القرآن عن النباح المتوقع ذكره إلى اللهاث؟ ! .
هذان هما الأمران اللذان دفعا بالشبهة إلى المعترض فاختلجت في نفسه اختلاجًا صوّره الجاحظ وافيًا دقيقًا دون انتقاص فإذا تم له أن يأتي بالاعتراض على أوضح وجوهه، عمد إلى المأخذ الأول فذكر أن قول الله عز وجل في ختام الآية الكريمة {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} يَدلّ على أن المشبّه ليس هو من أعطي شيئًا فلم يقبله كما تصوّر المعترض ولكنه من كذب بالآيات حين توالت دلائلها الصادقة عليه، والتكذيب -بالتضعيف- لا يكون مرة واحدة وإنما هو إمعان في الرفض وإلحاح في الدفع مهما وضحت الدلائل وظهر اليقين، ومن يتوالى رفضه المكذب لكل دليل يقدّم إليه مع طلبه إياه، وحرصه عليه فهو شبيه بالكلب إذ يعطي الجد والجهد من نفسه في كل حالة من الحالات ثم يرجع كما كان نابحًا غير مستريح! فالمكذب إذن معاند لا يزال يلح، قدمت له الإقناع بالدليل أو تركته، ككلب في طريقك يقدم عليك نابحًا! ويتركك نابحًا! والتشبيه بعد ذلك من الدقة والبراعة بحيث يسكت كل لجاج! أمّا المأخذ الثاني ففي قول الله عز وجل:{إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} إذ توهم المعترض أن اللهاث. لا يكون من غير الحر والعطش والتعب! والكلب النابح في الطريق لا يعاني شيئًا من ذلك فيلهث، وقد قضى الجاحظ عليه حين قال (والكلب إذا أتعب نفسه في شدة النباح مقبلًا عليك ومدبرًا عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التعب والعطش، وهو أمر يدركه الأطفال قبل الرجال، فكيف جاز لمن يجد في نفسه الجرأة على نقد التشبيه أن يجهله، بل إن الجاحظ أستاذ علم الأحياء في عصره ليمهكنم خفيًا بالمعترض حين يقول: (على أننا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا وهي رابضة وادعة إلا وهي
تلهث من غير أن تكون هناك إلا حرارة أجوافها والذي طبعت عليه من شأنها) فكأن الاعتراض الثاني قد مات سقطًا قبل أن يستهل ويمنح الحياة! هذا البسط في التفسير البياني قد يتحّول لدى الجاحظ إلى لمح وإشارة في بعض المواقف إذا لم يكن المجال مجال معارضة وحجاج، بل كان الأمر لا يعدو التقرير المؤيد بالشاهد، ولكل من الإسهاب والإيجاز موضعه المقبول في بابه، لأن المعارض في كثر أمره لجوج عنيد قد ينكر ضوء الشمس من رمد، فالحاجة إلى إفحامه تتطلب البسط والامتداد، أمّا غيره فحسبه أن يدرك من لمح الجاحظ ما يومئ إليه، بل عليه أن يتعدى الجاحظ إلى من جاء بعده ليرى كيف انتفعوا بإشارته السريعة في الحقل البياني فعكفوا عليها يمدون في أسبابها، ويفتقون من أكمامها حتى يفوح الورق الناعم بأمتع أرج، وبأشهى عبير، ومثال ذلك ما سطره البياني الكبير هي باب الكلام المحذوف حيث قال (1):
(ومن الكلام كلام يذهب السامع منه إلى معاني أهله وإلى قصد صاحبه كقول الله تبارك وتعالى {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} وقال: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} وقال {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} وسئل المفسر عن قوله {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فقال ليس فيها بكرة ولا عشى! وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قال: (لم يشك ولم يسأل).
فما تجد هنا آية ممّا ذكره الجاحظ إلّا أخذت نصيبها الكبير من المفسرين والبيانيين معًا، كل وفق منحاه! حتى غدت إشارات الجاحظ العابرة كإسهاب المطيل مورد علل ونهل، ومكان حظوة واحتفاء، وإن أديبًا يترك صداه القوي هى عقول تابعيه لجدير أن يحفظ له مكانه الجهير في قمة كل طود تسنم ذراه (2).
(1) البيان والتبيين جـ 2 ص 289.
(2)
خطوات التفسير/ محمد رجب البيومي ص 82 - 91.