الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كافة، يأخذ منه كل على قدر استعداده وحاجته، ما دام ذلك لا يتنافى مع ما قصّه القرآن من الهداية، وما يهدف إليه من الإرشاد. فكم من حكمة فيه إذا ما مستها يد العلم أسفرت أسرارها، فظهرت أنوارها عن سر إعجازها وسحر بيانها .. ) ثم يذكر أمثلة عن بعض مدلولات الآيات التي يستعان على فهمها بشتى العلوم حتى يقول:(فالحق أن كل ما يساعد من العلوم على الكشف عن الأسرار الكونية والدلالة على قدرة الصانع الحكيم، والإبانة عن مبلغ آياته ونعمه، ولا يتعارض مع أسلوب اللغة، ومألوف تعبيرها، من غير إغراب ولا تكلف، ولا إغراق في التأويل وإسراف في التحديد، فهو مما يجوز أن يستخدم في فهم آيات القرآن الكريم، فهو لا تفنى عجائبه ولا تحصى أسراره)(1).
ولا بد من أن نعرض لأدلة الفريقين: فمن الواضح أن الإمام الشاطبي، كانت ركيزته في قوله، التي استند اليها، أمية الشريعة ونزولها إلى أميين، كما استند إلى أن الصحابة والتابعين لم يثبت عنهم شيء من هذا اللون في التفسير.
أدلة القائلين بالتفسير العلمي:
أما أدلة القائلين بالتفسير العلمي -فلقد نقلها الشاطبي نفسه ورد عليها- كما يأتي:
أولًا: يقول الإمام الشاطبي: إن الأمة التي أرسل فيها النبي صلى الله عليه وسلم أمّة أميّة، وهذا ما أرشد إليه القرآن الكريم قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} [الجمعة: 2] بل إن الله وصف نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)(2). وإذا كانت الأمّة أميّة، فإن الشريعة التي نزلت فيها أميّة كذلك.
(1) مجلة لواء الإسلام العدد 10 سنة (2) بعنوان التفسير العلمي.
(2)
أخرجه البخاري رقم (1913).
ثانيًا: إن العرب الأميين الذين نزل فيهم القرآن الكريم، وتحداهم الله أن يأتوا بمثله كان لهم معرفة ببعض العلوم كعلم النجوم، قال تعالى:{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وكعلم الأنواء وهو ما يتصل بالرياح ونزول المطر، وبعض مسائل الطب الناشئة عن تجربة، وقضايا الأخلاق وما يتصل بها مما نجده في كتاب الله تبارك وتعالى.
ثالثًا: لقد جدت علوم بعد القرآن الكريم على هذه الأمة لم تكن معروفة لدى الصحابة رضوان الله عليهم، وذلك كعلوم الطبيعيات والفلسفة، والفلك، إلى غير ما هنالك من علوم، وحينما تحدى القرآن الكريم العرب أن يأتوا بمثله، إنما تحداهم بما كان معلومًا عندهم، ولا يجوز أن يكون قد تحداهم بما ليس كذلك، إذ لو تحداهم بشيء منه لقالوا: (كيف تتحدانا بشيء لا نعرفه ومن هنا فلا تقوم الحجة عليهم، ويستدل بمثل قول الله:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
رابعًا: يرى الإمام الشاطبي رحمه الله بعد هذه المقدمات أنه لا يجوز لأحد أن يفسر آي القرآن الكريم، بما لم يكن معروفًا عند الصحابة مما جدّ فيما بعد.
يقول: (إن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، والى هذا فإن السلف الصالح -من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة: إلا أن ذلك لم يكن، فدلّ على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء ممّا زعموا،
نعم تضمن علومًا هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا) (1).
ثم يناقش الشاطبي أدلة الفريق المعارض الذي يرى جواز تفسير آيات القرآن تفسيرًا علميًّا، ويرد عليهم فيقول: (وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ونحو ذلك، وبفواتح السور -وهي ما لم يعهد عند العرب- وبما نقل عن الناس فيها، وبما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء.
فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها بما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا كعهد الجُمّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصجاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى وغير ذلك، فيها على ما ادعوه، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز ان يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار -في الاستعانة على فهمه- على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فيه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه، والله أعلم وبه التوفيق).
ذلكم هو الإمام الذي اقترن اسمه بهذه القضية، فلا نجد أحدًا قديمًا وحديثًا يعرض لهذه القضية، دون أن يذكر أول ما يذكر رأي هذا الإمام.
(1) الموافقات: (2/ 79).