الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
أن حمل هذا الحديث على ظاهره يقتضي التشبيه، فالحامل لهم على هذا التأويل هو الفرار من التشبيه (1).
الوجه الثالث: إثبات الصورة لله تبارك وتعالى، وترجيح القول الأول، والرد على الأقوال الأخرى
.
مما لا ريب فيه أن الصورة ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، وأن الضمير في قوله:(على صورته) عائد إلى الله تعالى، وإضافة الصورة إليه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف على ما جاء في القول الأول، ولا يجوز تأويل الحديث وصرفه عن ظاهره لمجرد توهم التشبيه والتمثيل، فإن هذا شأن أهل البدع.
أما أهل السنة فإنهم يؤمنون بما صح من أحاديث الصفات كلها، ويجرونها على ظاهرها على ما يليق بجلال الله وعظمته مع نفي المماثلة على حد قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11](2).
قال ابن تيمية: هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في الحديث عائد إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك
…
ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله تعالى، حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم، كأبي ثور، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصفهاني، وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة (3).
قال ابن قتيبة: والذي عندي - والله تعالى أعلم - أن الصورة ليست أعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من
(1) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين (121).
(2)
المصدر السابق (137).
(3)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 396، 399).
هذه؛ لأنها لم تأت في القرآن. ونحن نؤمن بالجميع ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد (1).
وقال القاضي أبو يعلى: والوجه فيه: أنه ليس في حمله على ظاهره، ما يزيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه، لا كالصور، كما أطلقنا تسمية: ذات، ونفس، لا كالذوات والنفوس (2).
وقد جاءت عدة أحاديث صحيحة في إثبات الصورة لله تعالى غير ما تقدم، ومن ذلك ما يلي:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال أُناسٌ يَا رَسولَ الله هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَال: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالوا: لَا يَا رَسولَ الله. قَال: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالوا: لَا يَا رَسولَ الله. قَال: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ. يَجْمَعُ الله النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شيئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمْ الله فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أنا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِالله مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا أتانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمْ الله فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنا رَبُّكُمْ، فَيَقُوُلونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ (3).
قال ابن حجر: المعْنَى: يَأْتِيهِمْ الله بِصورَةِ - أَيْ بِصِفَةٍ - تَظْهَر لهمْ مِن الصُّوَر المخْلُوقَة الَّتِي لَا تُشْبِهُ صِفَة الْإِلَه لِيَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِذَا قَال لَهُمْ هَذَا الملَك: أنا رَبّكُمْ وَرَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَة المَخْلُوقِينَ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ أنَّهُ لَيْسَ رَبَّهُمْ اِسْتَعَاذُوا مِنْهُ لِذَلِكَ (4).
وقال النووى: فَالمُرَاد بِالصُّورَةِ هُنَا الصِّفَة، وَمَعْنَاهُ: فَيَتَجَلَّى الله سبحانه وتعالى لهُمْ عَلَى الصِّفَة الَّتِي يَعْلَمُونَهَا وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَإِنَّما عَرَفُوهُ بِصِفَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْ لهُمْ رُؤْيَة لَهُ
(1) تأويل مختلف الحديث (1/ 221).
(2)
إبطال التأويلات (1/ 81).
(3)
البخاري (6573، 7437، 7439)، مسلم (2182، 2968).
(4)
فتح الباري (11/ 458).
سُبْحَانه وَتَعَالى؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لَا يُشْبِه شيئًا مِنْ مَخْلُوقَاته، وَقَدْ عَلِمُوا أنَّهُ لَا يُشْبِه شيئًا مِنْ مَخْلُوقَاته، فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ رَبّهمْ فَيَقُولُونَ: أنتَ رَبّنَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصُّورَةِ عَنْ الصِّفَة لمُشَابَهَتِهَا إِيَّاهَا، وَلمُجَانَسَةِ الْكَلَام فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْر الصُّورَة (1).
قال القاضي أبو يعلى: اعلم أن هذا الخبر يدل على إثبات الصورة وعلى الإتيان
…
، وأنه غير ممتنع جواز إطلاق الصورة لا كالصور (2).
وأيضًا من الأدلة على إثبات الصورة حديث أبي سعيد الخدري في الرؤية، وهو بمعنى الحديث السابق وفيه: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ أتاهُمْ رَبُّ الْعَالمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا (3).
الرد على الأقوال الأخرى:
أولًا: الرد على القول بأن الضمير يعود على غير الله تعالى، إما على المضروب وإما على آدم عليه السلام:
فنقول: هذا تأويل بعيد جدًّا عن ظاهر اللفظ، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، كما أن في هذا القول موافقة لأهل الكلام المحرفين لنصوص الصفات عن ظاهرها، ولهذا قال الإمام أحمد: هذا التأويل من تأويلات الجهمية، وأنكره أشد الإنكار (4). فقال: من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي (5).
وعند التأمل نجد أن الشبهة التي أوقعت إمام الأئمة ابن خزيمة وغيره في هذا التأويل هي: توهم التشبيه، ولذلك اجتهد في تأويله وصرفه عن ظاهره، فجعل متعلق الضمير في كل حديث غيره في الحديث الآخر، ففي حديث (إذا قاتل أحدكم
…
)، جعل الضمير
(1) شرح النووي (2/ 29).
(2)
إبطال التأويلات (1/ 151).
(3)
البخاري (4581)، مسلم (183).
(4)
أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها (143).
(5)
الإبانة لابن بطة (198).
عائدًا إلى المضروب، فلما أتى إلى حديث (خلق الله آدم على صورته)، ورأى أن هذا التأويل لا يستقيم جعله عائدًا إلى آدم عليه السلام.
ولما أتى إلى حديث ابن عمر: (فإن ابن آدم خُلق على صورة الرحمن)، فجعله على فرض صحته من باب إضافة الخلق إلى خالقه، كل ذلك فرارًا من التشبيه، فهذا يؤكد أنه لجأ إلى تأويل هذا الحديث، لتوهمه أن حمله على ظاهره يقتضي التشبيه، فأوَّله تنزيهًا لله تعالى عن صفات المخلوقين.
وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي صاحب كتاب الترغيب والترهيب: أخطأ محمد بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه ذلك؛ بل لا يُؤخذ عنه هذا فحسب.
قال أبو موسى المديني (ناقل هذا الكلام): أشار بذلك إلى أنه قَلَّ من إمام إلا وله زلة، فإن تُرك ذلك الإمام لأجل زلته، تُرك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يُفعل (1).
قال الذهبي: وقد تأول ابن خزيمة في ذلك حديث الصورة، فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف، فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه، وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه (2).
ثم إن هذا الحديث ليس في حمله على ظاهره ما يقتضي التشبيه؛ بل نحن نثبته ونجريه على ظاهره مع نفي التشبيه.
ثانيا: الرد على القول بأن الضمير يعود على الله، وجعل إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة المخلوق إلى خالقه:
والرد على ذلك من وجوه:
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 419، 424، 430).
(2)
سير أعلام النبلاء (14/ 374: 376).