الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
ومن التربية النبوية الفريدة لأصحابه في معاملة الجاهل وعدم تعنيفه ما جاء في حديث راوية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي الْمَسْجِدِ فتنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَال لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلَا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ؟ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ (1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التخفيف والتيسير على الناس.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث السابق: وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، ولا سيما إن كان يحتاج إلى استئلافه، وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه.
6 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم، قال:"يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا"(2).
7 -
وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلَّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان ثَمَّ إثم كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلَّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى (3).
المبحث الثالث: سماحة النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين
إن سماحة النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين دليل على زيف هذه الشبهة؛ فقد بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهو صلى الله عليه وسلم مثال للكمال البشري في حياته كلها، مثال للكمال في علاقته بربه وفي علاقته بالناس كلهم بمختلف أجناسهم وأعمارهم وألوانهم، مسلمين وغير مسلمين، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا سهلًا (4)، قال النووي:"أي سهل الخلق كريم الشمائل لطيفًا ميسرًا في الخلق."(5).
(1) البخاري (220).
(2)
البخاري (69)، ومسلم (1734).
(3)
البخاري (3560)، ومسلم (2327).
(4)
مسلم (1213).
(5)
شرح صحيح مسلم للنووي 4/ 410.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثْمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله عز وجل لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها"(1).
بمثل هذه القيم كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي يسر في كل شيء، وذود عن حرمات الله لا عن عرض الدنيا أو أهواء النفوس.
وتعدد صور السماحة في هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين وشواهد ذلك من سيرته لا تحصر ونذكر منها ما يلي:
1 -
رحمته صلى الله عليه وسلم بالخلق عامة وهو الذي قال الله عز وجل عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالمِينَ (107)} (الأنبياء: 107)، فكان صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة إلى الخلق كلهم، وحث على العطف على الناس ورحمتهم فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ"(2)، وكلمة الناس هنا تشمل كل أحد من الناس، دون اعتبار لجنسهم أو دينهم وجاءت النصوص في باب الرحمة مطلقة، وقد ساق البخاري في باب رحمة الناس والبهائم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ (3)، فدين الإسلام دين السماحة والرحمة، يسع الناس كلهم ويغمرهم بالرحمة والإحسان.
2 -
تجاوزه عن مخالفيه ممن ناصبوا له العداء فقد كانت سماحته يوم الفتح غاية ما يمكن أن يصل إليه صفح البشر وعفوهم، فكان موقفه ممن كانوا حربًا على الدعوة ولم يضعوا سيوفهم بعد عن حربها أن قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء (4).
3 -
دعاؤه صلى الله عليه وسلم لمخالفيه من غير المسلمين فقد قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا:
(1) رواه البخاري (3560).
(2)
رواه البخاري (7376).
(3)
رواه البخاري (6012).
(4)
السيرة النبوية لابن هشام 4/ 61.
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ كَفَرَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ الله عَلَيْهَا. فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ فَقَال "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ". (1).
ودعا صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة قبل إسلامها فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة له قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اهد أم أبي هريرة"، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء قال: فاغتسلت، ولبست درعها، وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح .. الحديث (2).
وجاء الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ادع الله على ثقيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد ثقيفًا"، قالوا يا رسول الله ادع عليهم فقال:"اللهم اهد ثقيفًا"، فعادوا فأسلموا فوجدوا من صالحي الناس إسلامًا ووجد منهم أئمة وقادة (3).
ومن صور الدعاء ما كان من اليهود حيث كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله فلم يحرمهم من الدعوة بالهداية والصلاح، فكان يقول:"يَهْدِيكُمُ الله وَيُصْلِحُ بالكم"(4).
4 -
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل هدايا مخالفيه من غير المسلمين (5).
(1) رواه مسلم (2524).
(2)
رواه مسلم (2491).
(3)
انظر: تاريخ المدينة لابن شبة 2/ 98.
(4)
رواه البخاري في الأدب المفرد، باب: إذا عطس اليهودي، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (719).
(5)
البخاري (2617).
وقد قرر الفقهاء قبول الهدايا من الكفار بجميع أصنافهم حتى أهل الحرب قال في المغني: "ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية المقوقس صاحب مصر"(1).
5 -
وكان من سماحة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخاطب مخالفيه باللين من القول تأليفًا لهم، كما تظهر سماحة النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين في كتبه إليهم حيث تضمنت هذه الكتب دعوتهم إلى الإسلام بألطف أسلوب وأبلغ عبارة.
6 -
وكان صلى الله عليه وسلم يغشى مخالفيه في دورهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالى: انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئناهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: "يا معشر يهود أسلموا تسلموا" فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم
…
الحديث (2). وعاد صلى الله عليه وسلم يهوديًّا، كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه: أَنَّ غُلَامًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَال أَسْلِمْ فَأَسْلَمَ (3).
7 -
وكان صلى الله عليه وسلم يعامل مخالفيه من غير المسلمين في البيع والشراء والأخذ والعطاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ (4).
8 -
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بصلة القريب وإن كان غير مسلم فقال لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "صِلي أمك"(5).
وفي المدينة حيث تأسس المجتمع الإسلامي الأولى وعاش في كنفه اليهود بعهد مع المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم غاية في الحلم معهم، والسماحة في معاملتهم حتى نقضوا العهد وخانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من يعيشون بين المسلمين يحترمون قيمهم ومجتمعهم فلهم الضمان النبوي،
(1) المغني لابن قدامة 13/ 200.
(2)
رواه مسلم (1765).
(3)
رواه البخاري (5657).
(4)
رواه البخاري (4467).
(5)
رواه البخاري (2620).
فقد ضمن صلى الله عليه وسلم لمن عاش بين ظهراني المسلمين بعهد وبقي على عهده أن يحظى بمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلمه فقال صلى الله عليه وسلم: إلا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة. وشدد الوعيد على من هتك حرمة دمائهم فقال صلى الله عليه وسلم: مَنْ قتلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجْنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا (1).
9 -
وقد أوصى صلى الله عليه وسلم بالقبط خيرًا وثبت عنه أنه قال: إذا افتتحتم مصرا فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما (2).
وفي صحيح مسلم: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا فَإِنَ لَهُم ذِمَّةً وَرَحِمًا (3).
قال النووي: وفي رواية: ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، وفيها: فإن لهم ذمة ورحمًا
…
" قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، وأما الذمة فهي الحرمة والحق وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم"(4).
10 -
عندما قتل أحد الصحابة في أحد أحياء اليهود في خيبر فقد رضي وقبل صلى الله عليه وسلم يمين اليهود إذ أقسموا أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله فقد أخرج البخاري بسنده عن بُشير بن يسار زَعَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَال لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا وَقَالوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا قَالوا: مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلًا فَقَال: الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَقَال لهمْ: تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ قَالوا:
(1) رواه البخاري (3166). وانظر سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين د/ عبد الله اللحيدان.
(2)
رواه الحاكم 2/ 553، وصححه الألباني الصحيحة (1374).
(3)
مسلم (2543).
(4)
شرح مسلم 16/ 97.
مَا لَنَا بَيِّنَةٌ قَال: فَيَحْلِفُونَ قَالوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاه مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ (1).
قال القرطبي في المفهم: فعل صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف، ولاسيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق.
وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ جميع الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صور الأخذ به (2).
قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق واليهودي (3).
11 -
ولو تتبعنا المعاهدات التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا فيها ضروبًا من التسامح والموادعة والمساواة، ومن هذه المعاهدات" إعلان دستور المدينة الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة منها ما يخص موادعة اليهود كما يأتي:
بند 24 من المعاهدة - إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
بند 31 من المعاهدة - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسه وأهل بيته.
بند 37 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
بند 45 - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
(1) صحيح البخاري (6898).
(2)
فتح الباري 12/ 231 - 253.
(3)
شرح مسلم 11/ 147.
بند 46 - وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
بند 47 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أوآثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1).
قال ابن زنجويه: وقوله: "إن اليهود يُنِفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين" فهو النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه، ونرى أنه إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين لهذا الشرط الذي شرط عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.
وقوله: "إن يهود بني عوف أمة من المؤمنين" إنما أراد نصرهم المؤمنين، ومعاونتهم إياهم على عدوهم، بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدّين فليسوا منه بشيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال: لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم، وقوله "لا يوتغ إلا نفسه" يقول: لا يهلك غيرها (2).
وقد قام بتحليل هذه المعاهدة د. أكرم بن ضياء العمري، وأنقل ما ذكره بخصوص اليهود فقال: قد تناولت البنود من 25 إلى 35 تحديد العلاقة مع المتهودين من الأوس والخزرج، وقد نسبتهم البنود إلى عشائرهم من العربية، وأقرت حلفهم مع المسلمين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" وقد وردت العبارة في كتاب الأموال "أمة من المؤمنين" مما جعل أبا عبيد يقول:"فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم"(3) أما
(1) هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد صـ 292 - 295، والأموال لابن زنجويه 2/ 466 - 470، وسيره ابن هشام 2/ 92، والروض الأنف 4/ 293.
(2)
الأموال لابن زنجويه 2/ 472.
(3)
الأموال لأبي عبيد صـ 296.
ابن إسحاق فقد قال: "مع المؤمنين" وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحّف، وقد كفلت المادة (أو البند) رقم 25 لليهود حريتهم الدينية، كما حددت مسئولية الجرائم وحصرتها في مرتكبها (إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ - أي لا يهلك - إلا نفسه وأهل بيته) فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين (لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم)
…
كما أن المعاهدة امتدت بموجب البند رقم 45 لتشمل حلفاء المسلمين وحلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة على كل طرف مصالحة حلفاء الطرف الآخر لكن المسلمين استثنوا قريشًا" إلا من حارب في الدين" لأنهم كانوا في حالة حرب معهم (1).
12 -
(من صور السماحة) - كما نرى تسامحه مع أهل الكتاب من الذين يعادون ويخالفون فيما يفتي، إذ يتكلمون فيه ويبلغه ذلك أخرج مسلم بسنده عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسال أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظَنَنَّا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما (2).
13 -
بل نجد سماحته مع لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة وجف طلع نخل ذكر في بئر روان، وحينما أخبر عائشة بذلك قالت له: أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًّا، فأمر بها فدفنت.
المشاطة وما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاط من مشاطة الكتان (3).
(1) المجتمع المدني في عهد النبوة ص 127، 128.
(2)
مسلم (302).
(3)
البخاري (5763).
وهكذا كان تسامحه مع بعض المنافقين فقد تحمل المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول قصة الإفك ومع ذلك فقد عفا عنه صلى الله عليه وسلم (1) بل حينما مات عبد الله بن أُبي غطّاه بقميصه واستغفر له حتى نزل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
كما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم فقال له: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال:"دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر نضيّه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدييه - مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس"، قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليًّا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه (2).
إنها غاية السماحة إذ لم ينتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه بل عفا عنه.
16 -
كما له مواقف أخرى مع المشركين فعن عبد الله بن مغفل المزني، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فأخذ سهيل يده فقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال:"اكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة"، فأمسك بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولًا، اكتب في قضيتنا ما
(1) البخاري (4566).
(2)
البخاري (6933).
نعرف، فقال:"اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله"، قال فكتب، فبينما نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابًّا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانًا؟ " فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} وإلى قوله {بَصِيرًا} (1).
لقد كان بإمكانه أن يأسرهم أو أن يقتلهم ولكن سماحته تأبى ذلك؛ بل قال لهم ولغيرهم من أهل مكة حينما فتحها: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
17 -
فقد تجلّت روح التسامح عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى في الحرب فقد قال لهم أيضًا: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن (2).
18 -
ومن تسامحه مع المسْركين أيضًا أنه كان لا يمنع صلة المسلمين بأهلهم المشركين فقد أخرج البخاري بسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: "نعم"(3).
إن هذا المنهج العملي والقولي في التسامح والارتقاء فوق حظوظ النفس يؤتي أكله كل حين بإذن الله تعالى، فقد أثّر في نفوس الصحابة" رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا نرى صورًا ونماذج من التسامح التي ازدانت بها صفحات التاريخ كالخليفة
(1) أخرجه النسائي (531)، وأحمد في المسند 4/ 86 - 87، والحاكم في المستدرك 2/ 460 - 461 من طريق الحسين بن واقد عن ثابت به.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 6/ 145، وقال ابن حجر: أخرجه أحمد، والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح الفتح 5/ 315، والحديث أخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس الصحيح (1784) بنحوه مختصرًا.
(2)
مسلم (178).
(3)
البخاري (5978، 5979).