الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففي الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال الفروق قائمةً بين المواطنين في أبسط الحقوق على أساس اللّون والجنس، فصاحب البشرة البيضاء أسمى منزلةً وأعلى قدرًا من صاحب البشرة السوداء، ولا مساواة بين الاثنين في الحقوق الآدمية ولا أمام القانون.
ولو كان هذا التفريق والتمايز في واقع الحياة فقط لأمكن أن يدعي البعض أنه من انحراف الأفراد ولا تسأل عنه الدولة، ولكن الواقع أن القانون نفسه يقر ويعترف صراحةً بهذا التمايز الظالم بين الأسود والأبيض ويحميه وإن كان الاثنان يحملان الجنسية الأمريكية.
فمن هذه النصوص القانونية في بعض الولايات الأمريكية:
أن النكاح بين شخصين أبيض وآخر زنجيّ يعتبر نكاحًا باطلًا. وبطلان العقد هنا لا يرجع إلى نقص أهلية العاقدين، فأهليتهما كاملة وإنما يرجع إلى شيء آخر خطير في نظر القانون هو أن أحد طرفي عقد النكاح ذو بشرة بيضاء بينما الطرف الآخر في العقد ذو بشرة سوداء.
ومن هذه النصوص أيضًا في بعض الولايات المتحدة الأمريكية: أن كل من يطبع أو ينشر أو يوزع ما فيه دعوة أو حث للجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية، والزواج بين البيض والسود، أو تقديم حجج للجمهور أو مجرد اقتراح في هذا السبيل يعتبر عملهُ جريمةً يعاقب عليها القانون بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار أو بالسجن مدةً لا تتجاوز ستَّة أشهر أو بالعقوبتين.
أما التمايز بين رعايا المستعمِر "بكسر الميم" وأهل البلاد المنكوبة بالاستعمار فحدِّث ولا حرج، فالمستعمرون يضعون من القوانين ما يجعل أهل البلاد المستعمرة بمنزلة البهائم، دون أن يشعر هؤلاء المستعمرون بتأنيب ضمير أو بجَوْرهم على هؤلاء الآدميين. وما يعتبرونه ظلمًا في بلادهم، وبالنسبة لرعاياهم يعتبرونه حقًّا وعدلًا بالنسبة لأهل البلاد المنكوبة باستعمارهم. وهذا وغيره يدل على مدى ما عند الإنسان من ظلم وجور وهوى ومحاباة وجهل.
الميزة الثانية: الاحترام والهيبة
.
ويترتب أيضًا على كون الإسلام من عند الله، أنه يظفر بقدر كبير جدًّا من الهيبة والاحترام من قبل المؤمنين به، مهما كانت مراكزهم الاجتماعية وسلطاتهم الدنيوية؛ لأن هذه السلطات وتلك المراكز لا تخرجهم من دائرة الخضوع لله تعالى واحترام شرعه، وطاعة هذا الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على الإيمان، ولا يقسر عليها المسلم قسرًا. وفي هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون الإسلامي وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا الخروج.
أما القوانين والمبادئ الوضعية التي شرعها الإنسان؛ فإنها لا تظفر بهذا المقدار من الاحترام والهيبة، إذ ليس لها سلطان على النفوس ولا تقوم على أساس من العقيدة والإيمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام، ولهذا فإن النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء، ورأت في هذه المخالفة اتباعًا لأهوائها وتحقيقًا لرغباتها. إن القانون لا يكفي أن يكون صالحًا؛ بل لا بد له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات، إيجاد ما يصل هذا القانون بنفوس الناس ويحملهم على الرضى به والانقياد له عن طواعية واختيار. ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام؛ لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الإيمان.
وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثلًا واحدًا بشأن واقعة معينة عالجها الإسلام بتشريعه ونجح في هذه المعالجة، وعالجت هذه الواقعةَ بالذات القوانينُ الوضعيةُ وفشلت في هذه المعالجة.
من المعروف أن العرب قبل الإسلام كانوا مولعين بشرب الخمر لا يجدون فيه منقصةً ولا منكرًا، وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القرب والحباب. فلما أتى الإسلام بتحريم الخمر بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] قوة هائلة تفوق قوة الجيش والشرطة، وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر. . لقد قام المسلمون إلى زقاق الخمر فأراقوها، وإلى دنانه فكسروها، وفطموا نفوسهم من شرب
الخمر حتى غدوا وكأنهم لا يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل. . لأن أمر الله ورد {فَاجْتَنِبُوهُ} وأوامر الله من شأنها الاحترام والطاعة.
قارن هذا الموقف بما حدث في القرن العشرين أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تخليص مواطنيها من الخمر، وقبل أن تشرع قانون تحريم الخمر، مهدت له بدعايةٍ واسعةٍ جدًا لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون، وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة وبذوي الكفاية في هذا الباب. استعانت بالسّينما ومسارح التمثيل وبالإذاعة وبنشر الكتب والرسائل والنشرات والمحاضرات والإحصائيات من قبل العلماء والأطباء والمختصين بالشؤون الاجتماعية، وقد قُدّر ما أنفق على هذه الدعاية بـ (65) مليون من الدولارات وكتبت تسعة آلاف صفحة في مضارّ الخمر ونتائجه وعواقبه. وأنفق ما يقرب من (10) عشرة ملايين دولار من أجل تنفيذ القانون. وبعد هذه الدعاية الواسعة والمبالغ المنفقة شرعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة 1930 م وبموجبه حرم بيع الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها. فما كانت النتيجة؟ لقد دلت الإحصائيات للمدة الواقعة بين تشريعه وبين تشرين الأول سنة 1933 م أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نفس وحبس نصف مليون شخص وغرم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة ملايين دولار، وصودرت أموال بسبب مخالفته قدرت بألف مليون دولار. وكان آخر المطاف أن قامت الحكومة الأمريكية بإلغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة 1933 م، ولم تستطع تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في نفوس المواطنين، وبالتالي قاموا بمخالفته مما حمل الحكومة على إلغائه؛ لأن القانون لم يكن له سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته، ومن ثم فشل وألغي. أمّا كلمة {فَاجْتَنِبُوهُ} التي جاء بها الإسلام في جزيرة العرب فقد أثّرت أعظم التأثير وطبّقت فعلًا، وأريقت الخمور من قبل أصحابها وامتنعوا عنها، لا بقوة شرطيّ ولا