الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا لون من السماحة في المعاملة والعدل الدي لا يعرف له وجود إلا في الإسلام، لأنه قائم على احترام الإنسانية ومعرفة حقوقها (1).
11 -
وعندما أمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله مناديه ينادى: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، قام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلًا، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد قم فأردد عليه ضيعته فردها عليه (2).
12 -
وفي عهد الرشيد كانت وصية القاضي أبي يوسف له بأن يرفق بأهل الدمة حيث يخاطبه بقوله: "ينبغي يا أمير المؤمنين أيدك الله أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم"(3).
بمثل هذه المعاملة ساد المسلمون الأوائل وكانت معاملتهم محط إعجاب مخالفيهم فشهدوا لهم بالسمو في أخلاقهم والتسامح في معاملتهم. (4)
المبحث الخامس: المفهوم الإسلامي في العلاقات بين الأمم
.
إن الأصل في العلاقة البشرية عند الإسلام، فرديًّا كان أو جماعيًّا أو دوليًّا، علاقة التعارف والتعاون والدعوة والخير، لا علاقة التصادم والاعتداء والإرهاب والشر. فالإسلام يدعو البشرية إلى التعارف والتعاون على البر والتقوى ويرفض التجاهل
(1) انظر الموسوعة في سماحة الإسلام، محمد الصادق عرجون 1/ 211.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 9/ 213.
(3)
الخراج لأبي يوسف ص 125.
(4)
انظر: سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين للدكتور عبد الله اللحيدان.
والتعاون على الإثم والعدوان. فقد حدد القرآن أساس العلاقة بين البشرية في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، والتعارف الذي هو محور العلاقات بين البشر على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، له مدلول أبعد من مجرد معرفة شخص اسم آخر؛ بل التعارف الذي يؤدي إلى أعلى تبادل المنافع وإيجاد التعاون فيما بينهم. ومن أجل هذا التعارف يتطلب طبيعة العلاقة السلمية الإيجابية. وبذلك كان السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعارف والتعاون وإشاعة الخير بين الناس على مختلف الشعوب والقبائل. فالتعارف الهادف بين الشعوب من أكبر أسباب السلام في المجتمع الإنساني، وقال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
فنظرة التعارف تؤدي إلى التعاون بين الأطراف المتعارفة، والإسلام يقيد التعاون المطلوب على أساس البر والتقوى. وهما جماع الخير والسلام للإنسانية في الدارين. أما التعاون على الإثم والعدوان الذي كثيرًا ما وقع بين أهل الدنيا فهو ممنوع في الإسلام؛ إذ هما من جماع الشرور والأضرار التي تفضي إلى الحروب والنزاعات وتؤجج نيران الصراع المدمر لمشروع السلام ولسعادة البشرية.
ومما تقدم تبين بوضوح أن الأصل في العلاقات الخارجية للأمة الإسلامية هو السلم، وأن الحرب والاعتداء أمر طارئ يحدث بسبب طارئ من اعتداء الكفار على المسلمين ودينهم. فالسلم مقرر لكل الناس ليس نتيجة الإيمان أو الأمان، وإنما من حيث الأصل وعدم الاعتداء، أما الحرب فإنما شرعت من أجل حماية الدعوة الإسلامية ودفع الضرر عن معتنقيه، وضمان سير الدعوة الإسلامية التي تحمل راية الرحمة والسلام. كما أثبتت تاريخيًّا الحروب التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار عن طريق الغزوات والسرايا، فإنها لا تخرج عن الأسباب المشروعة لها. وأغلب هذه الحروب تكون في موقف الدفاع برد العدوان الواقع فعلًا. والله أعلم.
يقول محمد رشيد رضا: تفضيل السلم على الحرب إذا جنح العدو لها، إيثارًا لها على الحرب التي لا تقصد لذاتها؛ بل هي ضرورة من ضرورات الاجتماع، فتقدر بقدرها، وذلك قوله تعالى عقب الأمر بإعداد كل ما تستطيع الأمة من قوة ومرابطة لإرهاب عدوه وعدوها:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} ، ولما كان جنوح العدو للسلم قد يكون خديعة لنا لنكف عن القتال ريثما يستعدون هم له أو لغيره، وكان من المصلحة في هذه الحال أن لا نقبل الصلح منهم ما لم نستفد كل ما يمكننا منه تفوقنا عليهم، لم يعد الشارع احتمال ذلك مانعًا من ترجيح السلم؛ بل قال عز وجل:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} . وهو برهان على أن الإسلام دين السلام، لكن عن قدرة وعزة، لا عن ضعف وذلة.
فالإسلام دين يرفض العنف ويمنع العدوان وينشر السلام، ويوطد معاني العدالة والتسامح وسمو الحوار الهادف والتواصل الإيجابي بين الناس. فهو يضع أفضل الأسس للعلاقات بين الدول وهو العدل ولا يجعل الأساس لهذه العلاقات المصلحة القومية والقوة المادية كما هو السائد في الجاهلية ثم في الحضارة المعاصرة. وقد جرب العالم دوما أن إقامة العلاقات بين الدول على أساس المصلحة القومية والقوة المادية كان سبب الحروب الطاحنة، كما وقع في الحروب العالمية المشهودة بشراستها في القرن الماضي ومطالع هذا القرن، والإسلام بريء منها، ولا عجب؛ فهذا المبدأ لا يختلف عن مبدأ أي قطاع طريق أو عصابة إجرام؛ بل أي تجمع من تجمعات الحيوانات المفترسة في الغابة.
وأكبر دليل على أن الإسلام دين السلام أنه لا يشجع الحرب والعن؛ بل يأتي لوقف الحروب الجاهلية الكثيرة وحماية الحقوق الإنسانية خاصة بين الأوس والخزرج فجاء الإسلام وأصلح بينهما صلحًا يوصلها إلى شاطئ العزة والوئام تبين ذلك في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
يقول ابن كثير: وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلمّا جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخوانًا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى"، ويقول صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموه فاصبروا".
بل قد حرم الإسلام قتل الكافر المعاهد أو الذمي الذي يعيش تحت نفوذ الحكومة الإسلامية، ومن ارتكبه فقد ارتكب جرمًا عظيمًا حتى حرم الله عليه الجَنَّة، حفاظًا على أمن المجتمع. يقول صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهدًا - وفي اللفظ: من قتل قتيلًا من أهل الذمة - لم يرح رائحة الجَنَّة
…
". وقال صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهدًا في غير كنهه حرم الله عليه الجَنَّة.
ومن هذا المنطلق حدد الإسلام علاقات الأمة الإسلامية بالآخرين، كما في قوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} .
فالإسلام دين الرحمة والشريعة السلام، وهو دين يدعو إلى التعايش السلمي، وإلى صون الحق الإنساني، وحسن العلاقات مع الآخرين من دون ربط لهذا الحق بدين أو اعتقاد أو عرق أو لون
…
، فهم في الوقت نفسه مدعوون إلى الإسلام والسلام. ولا يأتي الإسلام بالحرب إلا للضرورة القصوى وقمع الاعتداء ورد الظلم والانتصار للمظلومين ولضمان انتشار دعوة دين الرحمة والسلام. ويمنع الظلم والعدوان والعنف والطغيان على الخلق جميعًا. قال تعالى:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . إنه دين الرحمة والعدالة ورسالة الشمول والتوازن التي لا يمكن للعالم أن يشفى من أدوائه إلا بها.
على أية حال فإن الإسلام لا يدعو إلى الحرب، ولا يسمح بقيامها إلا إذا كانت في سبيل الله بأحكامها وشروطها وآدابها السامية، ولا يتخذ القرار بهذا الشأن إلا إمام المسلمين العام، لا أي فرد ولا أيّة طائفة. بل لا يجوز أن تؤجج نار الحرب إلَّا عقب مقدّمات من الدعوة الصحيحة إلى الإسلام. وذلك لتحقيق أحد هذه الأغراض السامية وهي: