الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن.
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله. لا لشخص الداعي ولا لقومه، والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها. فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيرًا ما يهدي القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدل بالتي هي أحسن بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح. حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس الهدف هو الغلبة في الجدل، ولكن بالإقناع وإظهار الحق (1).
الوجه الرابع: إن من يقرأ مفهوم الجهاد في الإسلام ويعرف غاياته وأهدافه يتضح له بجلاء زيف هذه الشبهة
.
لم يفرض الله الجهاد لإكراه الناس على الإسلام. فالإكراه لا يؤسس عقيدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256). لذلك فإن الإسلام لا يقهر، ولا يجبر امرءًا على دين يرفضه. وعلى هذا فالحرية مكفولة في أحكام ودستور الإسلام.
ولو صح قول بعضهم: إن الإسلام سل سيفًا وفرض نفسه على الناس جبرًا لما وجدنا شيئا اسمه: "الجزية" أو "ذميون" فالجزية لغير المسلمين الذين لم يرضوا دخول الإسلام، ولم يجبرهم الإسلام على اعتناقه، إنهم في حرية تامة، عقائدهم ومعابدهم محترمة يطبقون أحكام دينهم فيما بينهم.
(1) انظر: وسطية الإسلام وسماحته ودعوته للحوار، إعداد: د/ محمد الصالح اللجنة العلمية للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب.
فالحجة وسيلة لنشر الدعوة الإسلامية: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54). {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية: 21 - 22). {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} (ق: 45).
وقد صرحت الآيات في القرآن الكريم أن الله تعالى لم يرد من خلقه أن يكونوا مؤمنين عن طريق القهر؛ بل عن طريق النظر، إذ لو أراد سبحانه إيمانا قهريًّا لطبعهم عليه كما طبع الملائكة، لكنه ترك البشر وما يختارون، واكتفى بأن أخذ عليهم مواثيق الفطرة وأشهدهم بها على أنفسهم، وأرسل إليهم رسلًا تذكرهم وتدعوهم إلى النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، ولمَّا كان من سننه سبحانه في بني الإنسان أن تختلف عقولهم وأفكارهم، وتتفاوت أنظارهم في الآيات الدالة على الإيمان فيؤمن بعض ويكفر آخرون، جاءت نصوص الإسلام داعية إلى الإيمان بالله عن طريق النظر والاختيار قال سبحانه:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 98: 101).
وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119). وقال أيضًا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} (الأنعام: 35).
بل وأفادت الآيات كذلك أن تلك هي طبيعة الدعوات السماوية قاطبة التي جاءت بها رسل الله أجمعين.
فجاء على لسان نوح عليه السلام: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود: 28) وفي دعوة إبراهيم لأبيه "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه".
وفي دعوة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) وفي دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية: 21، 22).
بل إن الوقائع التاريخية لتؤكد كذلك خلو الدعوة الإسلامية من الإكراه، وإلا فأين الإكراه الذي فرض على المسلمين في مكة قبول الدين؟
إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كان مضطهدًا، ومن حوله من أتباع كانوا يعذبون ويضطهدون، وحالة كهذه لا يعقل أن يكون معها إرغام على الإسلام؛ بل قد تكون مانعة من الدخول في الإسلام أو إظهاره على الأقل (1).
وعبر تاريخ دولة الإسلام كان يعيش في داخلها غير المسلمين في مراحل قوتها وضعفها، فلم يجبروا على ترك معتقداتهم أو يكرهوا على الدخول في الإسلام، والقاعدة العظمى في الإسلام أن لا إكراه في الدين، ولذا فقد عاش الذميون وغيرهم في كنف دولة الإسلام دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم (2).
إن الإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم، أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وتاريخ الإسلام في هذا المجال أنصع تاريخ على وجه الأرض (3).
ومن المقرر عند الفقهاء أنه لو أكره أحد على الإسلام فإنه لا يصح إسلامه. قال في المغني: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم لم يثبت له
(1) حولية كلية أصول الدين العدد 22، المجلد الثاني صـ 1411 - 1412.
(2)
انظر تلبيس مردود في قضايا حية، صالح بن حميد صـ 30.
(3)
التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام محمد الغزالي صـ 6.
حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا" (1). ولذلك فإنه إذا عاد إلى دينه بعد زوال الإكراه لم يحكم بردته، ولا يجوز قتله ولا إكراهه على الإسلام، ونقل ابن قدامة إجماع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن، لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه (2).
ومن سماحة الإسلام في المعاملة أن شرع العدل مع المخالف، وجعل ذلك دليلا على التقوى التي رتب عليها أعظم الجزاء قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8).
ولذا فإن من يتأمل أحكام الإسلام وتاريخ المسلمين يجد أنه لا يمكن أن يقوم مجتمع تحترم فيه الحقوق والواجبات كما في دولة الإسلام، وفي أوج عزة دولة الإسلام وقوتها كان يوجد من غير المسلمين العلماء والأدباء والأطباء والنابغون في مختلف الفنون والأعمال، وهل يمكن أن يكون لهؤلاء ظهور ونبوغ في أعمالهم لولا سماحة الإسلام ونبذه للتعصب الديني؟
إن المعاهد في بلد الإسلام لا يعيش على هامش المجتمع؛ بل يشارك ويخالط أفراد المجتمع، وقد يسند إليه بعض الأعمال التي هي من صميم عمل أهل الإسلام، فقد جوز الخرقي أن يكون الكافر من العاملين على الزكاة، وذكر في المغني أنها إحدى الروايتين عن الإمام أحمد؛ لأن الله تعالى قال:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (التوبة: 60). وهذا لفظ عام يدخل فيه أي عامل على أي صفة كانت، ولأن ما يأخذ على العمالة أجرة لعمله فلم يمنع من أخذه كسائر الإجارات (3).
(1) المغني لابن قدامة 12/ 291.
(2)
انظر سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين إعداد: د/ عبد الله اللحيدان، اللجنة العلمية للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب.
(3)
انظر المغني لابن قدامة 4/ 107.
بل صرح الإمام الماوردي بجواز أن يتولى الذمي وزارة التنفيذ دون وزارة التفويض (1).
لقد أطلق الإسلام على غير المسلمين الذين لهم ذمة أهل الذمة وعاملهم بها وهي تعني: العهد والأمان والضمان، والحرمة والحق (2) وهو عهد منسوب إلى الله عز وجل وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن الأثير:"وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم"(3).
إن قوة هذا الدين وسلامة قواعده وتنوع أساليبه أوجدت مجالًا خصبًا للحوار والحرية والإبداع في المجتمع المسلم (4). وإن من يأخذون ببعض النصوص من الكتاب أو السنة ويريدون تطبيقها في معاملة غير المسلمين يخطئون في فهم منهج الإسلام وطبيعته، فالواجب أن تؤخذ نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة كاملة، وتقرر معاملة المسلم مع غيره في ضوئها وعلى هديها، وفي القرآن العظيم آيات لا تحصر في الأمر بالبر والصلة والإحسان والعدل والقسط والوفاء بالعهد، والنصوص في ذلك مطلقة تستوعب كل أحد؛ بل إن نصوص الإحسان تشمل حتى الحيوان وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"(5)، وقال تعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} (البقرة: 195)، وقال:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83)، وفي ظل هذا المفهوم العام للإحسان كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة غير المسلمين (6).
(1) انظر الأحكام السلطانية الماوردي صـ 68، وانظر: تفصيل أقوال العلماء في مسألة تولي الذمي وزارة التنفيذ في كتاب أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي لنمر النمرصـ 197 - 214 وانتهى المؤلف إلى القول بعدم جواز ذلك.
(2)
انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 168.
(3)
المرجع السابق 2/ 168.
(4)
انظر أهل الكتاب في المجتمع الإسلامي لحسن الزين صـ 53.
(5)
رواه مسلم (1955).
(6)
سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين د/ عبد الله اللحيدان.