الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقيني فقال يا سلمة: تريد الحج؟ فقلت: نعم، فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك، قلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها؛ ؛ قال: وأنا ما نسيتها. (1)
إن هذا العدل الذي رأينا بعض نماذجه فيما مضى، إنما كان وليدَ دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فإن العرب قبل ذلك كان شعارهم "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" وكان هذا على ظاهره، بمعنى أنه ينصر أخاه فعلًا إن كان ظالمًا بأن يعينه على ظلمه، أما الإسلام فقد صحح هذا المفهوم المعكوس وقرر بأن معنى النصر للظالم هو أن تأخذ على يديه، وتمنعه من ظلمه لا أن تعينه على الظلم.
وعلى الرغم من تضاؤلِ جيل الصحابة بالنسبة لرقعة الأرض المفتوحة، فإن قوة الحياة التي صبتها تربية الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب الأصحاب، كانت كافية لأن تجعل الأمور تمشي في طريقها المستقيم.
وحتى بعد ذلك، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن قضاة الإسلام المتحققين بالإسلام علمًا وعملًا هم الذين يضربون المثل الأعلى في العدل الربَّاني، الذي يتضائل جانبَهُ كلُّ قضاء.
الثمرة السابعة: الطاعة والانقياد
.
تمهيد:
وهذه ثمرة جديدة من ثمار نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، تشهد أنها ثمرة نبيّ ونبوة، هي الطاعة المبصرة، وذلك أن العرب شعب لم يتربَّ على طاعة أحد، ولم يتربّ على نظام ولا انضباط، وليس لديه مفهوم عن الولاء لحكومة ما، أو الخضوع لها، وأما غير العرب فالأمر عندهم مختلف، طاعةٌ عمياء لملوكهم ومرؤوسيهم في كل شيء، إذا أمروا بالشيء كان خيرًا، وإذا نهوا عنه كان شرًا، لا يقال لهم لا، ولا يحاسبون ولا يراقبون.
وحدث شيء اهتز العالم له ألا وهو: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي قلبت الأمة التي لا
(1) رواه الطبري في تاريخه (2/ 578).
تعرف النظام أصبحت منظمة، والتي لا تعرف الطاعة أصبحت مطيعة، ولكنها طاعة من نوع فريد جديد، طاعة للحق لا بالباطل، بالعدل لا بالظلم، لمن يستحق الطاعة لا لمن لا يستحقها، فكان ذلك فتحًا جديدًا في تاريخ الوعي عند الشعوب، لدرجة أن العربي الذي كان يتعصّب لقريبه وينصره وإن كان على الباطل ولا يطيع فيه أحدًا أبدًا، صار على ابن عمه إذا كان على الباطل، ويطيع فيه أبعد الناس نسبًا عنه في الحق. والذي كان أبعد الناس عن الانضباط، صار أكثرَ الناس انضباطًا، ومن قرأ تاريخ العرب في الجاهلية، عرف الفارق الكبير بين ذلك الواقع وواقعهم بعد.
وهذه أمثلة من واقعهم بعد تربية الرسول صلى الله عليه وسلم إيّاهم:
1 -
عن عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ بن سلول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنه قد بلغني أنك تريد قتلَ عبد الله بن أُبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتَ الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا". (1)
2 -
ولما رأى سعدُ بنُ معاذ كثرةَ استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ظن سعدٌ أنه يستنطق الأنصار شفقًا أن لا يستحوذوا معه أو قال: أن لا يستجلبوا معه على ما يريد، فقال: لعلك يا رسول الله تخشى أن لا يكون الأنصار يريدون مواساتك. ولا يرونها حقًّا عليهم إلا بأن يروا عدُوًّا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم. وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظْعن حيث شئت، وصِلْ حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركته علينا، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن لسرنا معك. (2)
(1) انظر: تاريخ الطبري (2/ 110).
(2)
انظر: تاريخ الإسلام (1/ 186).
3 -
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك فيقول فيها:
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبَنَا الناس، وتغيّروا لنا، حتى تنكرتْ في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمَّا صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيتُ حتى تسورتُ جدارَ حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي - وأحبُّ الناس، إليّ، فسلَّمتُ عليه فوالله ما ردَّ عليّ السلامَ، فقلت: يا أبا قتادة أنشدُك بالله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكتَ، فعدتُّ له فنشدتُّه فسكتَ، فعدتُّ له فنشدتُّه فقال: الله ورسوله أعلم؛ ففاضت عيناي وتوليتُ حتى تسورتُ الجدار.
قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نِبطيٌّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان؛ فإذا فيه أمّا بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضِيعة فَالْحق بنا نُواسِك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت بها التَّنُّور فسجّرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلةً من الخمسين إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أُطَلِّقُها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك فقلت لامرأتي: الْحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضيَ الله في هذا الأمر. (1)
(1) رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769).