الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينال ثوابه، لا يمنعه من ذلك عواطف القرابة والمودة، ولا مشاعر العداوة والشنآن. قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8).
واجبات أهل الذمة
تلك هي حقوق المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهذه هي ضمانات الوفاء بتلك الحقوق، فما هي الواجبات التي فرضها عليهم الإسلام في مقابل التمتع بتلك الحقوق، فمن المقرر أن كل حق يقابله واجب؟
والواجب أن هؤلاء المواطنين أهل الذمة تنحصر واجباتهم في أمور معدودة هي:
1 -
أداء
الجزية والخراج
والضريبة التجارية، وهذه هي واجباتهم المالية.
2 -
التزام أحكام القانون الإسلامي في المعاملات المدنية ونحوها.
3 -
احترام شعائر المسلمين ومشاعرهم.
الجزية والخراج:
أما الجزية فهي ضريبة سنوية على الرؤوس، تتمثل في مقدار زهيد من المال يفرض على الرجال البالغين القادرين على حسب ثرواتهم، أما الفقراء فمعفون منها إعفاء تامًّا. قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7)، وليس للجزية حد معين، وإنما ترجع إلى تقدير الإمام الذي عليه أن يراعي طاقات الدافعين ولا يرهقهم، كما عليه أن يرعى المصلحة العامة للأمة.
وقد جعل عمر الجزية على الموسرين ثانية وأربعين درهمًا، وعلى المتوسطين في اليسار أربعة وعشرين، وعلى الطبقة الدنيا من الموسرين اثنى عشر درهمًا، وبهذا سبق الفكر الضريبي الحديث في تقرير مبدأ تفاوت الضريبة بتفاوت القدرة على الدفع، ولا تعارض بين صنيع عمر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:"خذ من كل حالم دينارًا"(1) لأن الفقر كان في أهل اليمن أغلب، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم حالتهم.
(1) رواه أحمد 5/ 230، والترمذي (623) وحسنه، وصححه الألباني في إرواء الغليل 3/ 269.
والأصل في وجوب الجزية من القرآن قوله تعالى في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
ومعنى الصَّغار هنا التسليم، وإلقاء السلاح، والخضوع لحكم الدولة الإسلامية، ومن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين، كذلك أخذ الخلفاء الراشدون الجزية من أهل الكتاب ومن في حكمهم في سائر البلاد المفتوحة، واستقر العمل عليه فصار إجماعًا.
وأما الخراج فهو ضريبة مالية تفرض على رقبة الأرض إذا بقيت في أيديهم، ويرجع تقديره إلى الإمام أيضًا، فله أن يقاسمهم بنسبة معينة مما يخرج من الأرض كالثلث والربع مثلًا، وله أن يفرض عليهم مقدارًا محددًا، مكيلًا أو موزونًا بحسب ما تطيقه الأرض كما صنع عمر في سواد العراق، وقد يقوم ذلك بالنقود.
والفرق بين الجزية والخراج أن الأولى تسقط بالإسلام، دون الخراج.
فالذمي إذا أسلم لا يعفيه إسلامه من أداء الخراج؛ بل يظل عليه أيضًا، ويزيد على الذمي الباقي على ديانته الأصلية أنه يدفع العشر - أو نصفه - عن غلة الأرض بجوار دفع الخراج عن رقبتها، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، وجمهور الفقهاء خلافًا لأبي حنيفة، فالخراج هو بمثابة ضريبة الأملاك العقارية اليوم، والعشر بمثابة ضريبة الاستغلال الزراعي.
ومن الناس من ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية فيحسبون الإسلام متعسفًا في فرضه الجزية على غير المسلمين.
ولو أنهم أنصفوا وتأملوا حقيقة الأمر لعلموا أن الإسلام كان منصفًا كل الإنصاف في إيجابه هذه الجزية الزهيدة.
فقد أوجب الإسلام على أبنائه الخدمة العسكرية باعتبارها فرض كفاية، أو فرض عين، وناط بهم واجب الدفاع عن الدولة، وأعفي من ذلك غير المسلمين، وإن كانوا يعيشون في ظل دولته.
ذلك أن الدولة الإسلامية دولة عقائدية - أو بتعبير المعاصرين أيديولوجية - أي: أنها دولة تقوم على مبدأ وفكرة، ومثل هذه الدولة لا يقاتل دفاعًا عنها إلا الذين يؤمنون بصحة مبدئها وسلامة فكرتها، وليس من المعقول أن يؤخذ شخص ليضع رأسه على كفه، ويسفك دمه من أجل فكرة يعتقد ببطلانها، وفي سبيل دين لا يؤمن به، والغالب أن دين المخالفين ذاته لا يسمح لهم بالدفاع عن دين آخر والقتال من أجله.
ولهذا قصر الإسلام واجب الجهاد على المسلمين؛ لأنه يعد فريضة دينية مقدسة، وعبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه حتى إن ثواب المجاهد ليفضل ثواب العابد القانت الذي يصوم النهار ويقوم الليل.
ولكن الإسلام فرض على هؤلاء المواطنين من غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدفاع، والحماية للوطن عن طريق ما عرف في المصطلح الإسلامي باسم الجزية.
فالجزية - فضلًا عن كونها علامة خضوع للحكم الإسلامي - هي في الحقيقة بدل مالي عن الخدمة العسكرية المفروضة على المسلمين.
ولهذا فرضها الإسلام على كل قادر على حمل السلاح من الرجال، فلا تجب على امرأة، ولا صبي؛ لأنهما ليسا من أهل القتال، وقد قال عمر: لا تضربوها على النساء والصبيان، ولهذا قال الفقهاء: لو أن امرأة بذلت الجزية ليسمح لها بدخول دار الإسلام تمكن من دخولها مجانًا، ويرد عليها ما أعطته؛ لأنه أخذ بغير حق، وإن أعطتها تبرعًا مع علمها بأن لا جزية عليها قبلت منها، وتعتبر هبة من الهبات.
ومثل المرأة والصبي الشيخ الكبير، والأعمى، والزَّمِن، والمعتوه، وكل من ليس من أهل السلاح.
ومن سماحة المسلمين أنهم قرروا أن لا جزية على الراهب المنقطع للعبادة في صومعته؛ لأنه ليس من أهل القتال (1).
يقول المؤرخ الغربي آدم ميتز: (كان أهل الذمة - بحكم ما يتمتعون به من تسامح المسلمين معهم، ومن حمايتهم لهم - يدفعون الجزية كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار)(2).
على أن هناك علة أخرى لإيجاب الجزية على أهل الذمة، وهي العلة التي تبرر فرض الضرائب من أي حكومة في أي عصر على رعاياها، وهي إشراكهم في نفقات المرافق العامة التي يتمتع الجميع بثمراتها ووجوه نشاطها، كالقضاء والشرطة، وما تقوم به الدولة من إصلاح الطرق وإقامة الجسور، وما يلزمها من كفالة المعيشة الملائمة لكل فرد يستظل بظلها مسلمًا كان أو غير مسلم.
والمسلمون يسهمون في ذلك بما يدفعونه من زكاة عن نقودهم، وتجاراتهم، وأنعامهم، وزروعهم، وثمارهم، فضلًا عن صدقة الفطر وغيرها، فلا عجب أن يطلب من غير المسلمين المساهمة بهذا القدر الزهيد وهو الجزية.
ومن ثم وجدنا كتب الفقه المالكي تضع أحكام الجزية لأهل الذمة في صلب أحكام الزكاة للمسلمين (3).
إن الجزية بدل عن الحماية العسكرية التي تقوم بها الدولة الإسلامية لأهل ذمته في المرتبة الأولى، فإذا لم تستطع الدولة أن تقوم بهذه الحماية لم يعد لها حق في هذه الجزية أو هذه الضريبة.
(1) انظر على سبيل المثال: مطالب أولي النهى بشرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة 2/ 96.
(2)
الحضارة الإسلامية 1/ 96.
(3)
انظر على سبيل المثال: الرسالة لابن أبي زيد مع شرحها لابن ناجي، وزروق 1/ 331 وما بعدها، حيث وضعت الجزية في صلب أبواب الزكاة.
وهذا ما صنعه أبو عبيدة حين أبلغه نوابه عن مدن الشام بتجمع جحافل الروم، فكتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منه، وأمرهم أن يعلنوهم بهذا البلاغ: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جُمِعَ لنا من الجموع، وإنكم اشترطم علينا أن نمنعكم، أي نحميكم إنَّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشروط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. رواه أبو يوسف في "الخراج".
وجاء في كثير من العقود التي كتبها قواد المسلمين كخالد وغيره لأهل الذمة مثل هذا النص: إن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم. كما روى ذلك الطبري في تاريخه.
وتسقط الجزية أيضًا باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضد أعداء الإسلام، وقد نص على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أُبرمت بين المسلمين، وأهل الذمة في عهد عمر رضي الله عنه (1).
أما طريقة جمع الجزية وموعدها فيقول صاحب كتاب "الإسلام وأهل الذمة"(2) أخذًا عن أوثق المصادر: كانت الجزية تجمع مرة واحدة كل سنة بالشهور الهلالية (3)، وكان يسمح بدفع الجزية نقدًا أو عينًا، لكن لا يسمح بتقديم الميتة، أو الخنزير، أو الخمر بدلًا من الجزية. وأمر عمر بن الخطاب بالتخفيف عن أهل الذمة فقال: من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه؛ فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين (4)، وكانت الدولة الإسلامية كثيرًا ما تؤخر موعد تأدية الجزية حتى تنضج المحصولات الزراعية، فيستطيع أهل الذمة تأديتها
(1) انظر: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام للدكتور عبد الكريم زيدان صـ 155 وما بعدها، وراجع على سبيل المثال: فتوح البلدان للبلاذري صـ 217، حيث صالح مندوب أبي عبيدة جماعة الجراجمة المسيحيين أن يكونوا أعوانًا للمسلمين، وعيونًا على عدوهم، وإلا يؤخذوا بالجزية.
(2)
الإسلام وأهل الذمة صـ 70 - 71.
(3)
الماوردي الأحكام السلطانية صـ 138.
(4)
تاريخ دمشق لابن عساكر 1/ 8.
دون أن يرهقهم ذلك، فقال أبو عبيد (1): وإنما وجه التأخير إلى الغلة للرفق بهم.
واتبعت الدولة الاسلامية الرفق والرحمة في جمع الجزية، فقد قدم أحد عمال عمر بن الخطاب عليه بأموال الجزية فوجدها عمر كثيرة فقال لعامله: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ فقال: لا، والله ما أخذنا إلا عفوًا صفوًا، فقال عمر: بلا سوط، ولا نوط؟ فقال: نعم، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني (2).
والواجب الثاني على أهل الذمة: أن يلتزموا أحكام الإسلام التي تطبق على المسلمين؛ لأنهم بمقتضى الذمة أصبحوا يحملون جنسية الدولة الإسلامية فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية.
فليس عليهم أي تكليف من التكاليف التعبدية للمسلمين، أو التي لها صبغة تعبدية أو دينية مثل الزكاة التي هي ضريبة وعبادة في الوقت نفسه، ومثل الجهاد الذي هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية. ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلًا من الجهاد والزكاة -كما عرفنا- رعاية لشعورهم الديني أن يفرض عليهم ما هو من عبادات الإسلام.
وليس عليهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازلوا عما أحله له دينهم، وإن كان قد حرمه الإسلام، كما في الزواج، والطلاق، وأكل الخنزير، وشرب الخمر. فالإسلام يقرهم على ما يعتقدون حله، ولا يتعرض لهم في ذلك بإبطال ولا عتاب.
فالمجوسي الذي يتزوج إحدى محارمه، واليهودي الذي يتزوج بنت أخيه، والنصراني الذي يأكل الخنزير، ويشرب الخمر، لا يتدخل الإسلام في شئونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها، فقد أمر المسلمون أن يتركوهم وما يدينون، فإذا رضوا بالاحتكام إلى شرع المسلمين في هذه الأمور حكمنا فيهم بحكم الإسلام لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا
(1) الأموال صـ 44.
(2)
المصدر السابق صـ 43.