الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان شرعا لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف فليس موضع الخلاف، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك، وهذا قد ورد شرعنا به وهو قول تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} الآية وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} فالصواب في معناه: أن جزاءه جهنم، وقد يجازي به، وقد يجازي بغيره وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمدا مستحلا له بغير حق، ولا تأويل، فهو كافر مرتد، يخلد به في جهنم بالإجماع، وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة، جزاؤه جهنم خالدا فيها، لكن بفضل الله تعالى ثم أخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها، فلا يخلد هذا، ولكن قد يعفى عنه، فلا يدخل النار أصلا، وقد لا يعفى عنه، بل يعذب كسائر العصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة، ولا يخلد في النار، هذا هو الصواب في معنى الآية، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، وإنما فيها أنها جزاؤه أي: يستحق أن يجازى بذلك، وقيل: إن المراد من قتل مستحلا، قيل: وردت الآية في رجل بعينه، وقيل: المراد بالخلود طول المدة لا الدوام، وقيل: معناها هذا جزاؤه إن جازاه، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة لمخالفتها حقيقة لفظ الآية، وأما هذا القول فهو شائع على ألسنة كثير من الناس، وهو فاسد؛ لأنه يقتضي أنه إذا عفي عنه خرج عن كونها كانت جزاء، وهي جزاء له، لكن ترك الله مجازاته عفوا عنه وكرما، فالصواب ما قدمناه. والله أعلم. (1)
الوجه الثاني: أقوال المفسرين والعلماء حول الآية
.
قال الرازي: في تفسير الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} : هذه الآية مخصوصة في موضعين:
(1) شرح مسلم للنووي 9/ 96 - 97.
أحدهما: أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص؛ فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة.
والثاني: القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه الوعيد، وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وأيضًا فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد، وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد.
نُقل عن ابن عباس أنه قال: توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة، وقال جمهور العلماء: إنها مقبولة، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: أن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول.
الحجة الثانية: قوله تعالى في آخر الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 68 - 70]، وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة: فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى.
الحجة الثالثة: قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى، والله أعلم. (1)
قال ابن كثير: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملًا صالحًا، بدَّل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.
(1) تفسير الفخر الرازي 10/ 240 بتصرف.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68، 70]، وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم. (1)
وقال أيضًا: قال أبو هريرة رضي الله عنه وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول القاتل إلى النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له (2)، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحًا ينجو به، فليس يخلد فيها أبدًا، بل الخلود هو المكث الطويل. وقد تواردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان (3). وأما حديث معاوية رضي الله عنه: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا"(4): "عسى" للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفي وقوع ذلك في أحدهما، وهو القتل؛ لما ذكرنا من الأدلة. (5)
قال السندي في تعليقه علي حديث (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا): وقوله: (إلا الرجل): أي ذنب الرجل وكان المراد
(1) تفسير ابن كثير 1/ 738.
(2)
صحيح البخاري (4764)، مسلم (3023).
(3)
البخاري (7439)، مسلم (183).
(4)
أبو داوود (4270)، النسائي 7/ 81. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (511).
(5)
تفسير ابن كثير 1/ 739 بتصرف.