الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدها: أنه لم يكن قبل خلق آدم صورة مخلوقة خلق آدم عليها، فقول القائل: على صورة مخلوقة لله، وليس هناك إلا صورة آدم بمنزلة قوله: على صورة آدم، وقد تقدم إبطال هذا.
ثانيها: أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها كالناقة والبيت والأرض والفطرة التي هي مفطورة، فأما الصفات القائمة بغيرها مثل العلم والقدرة والكلام والمشيئة، إذا أُضيفت كانت إضافة صفة إلى موصوف، وهذا هو الفرق بين الأمرين.
ثالثها: أن هذا الوجه المضروب هو في كونه مخلوقًا مملوكًا لله بمنزلة الصورة المملوكة لله، فلو كان قد نهى عن ضرب هذا لكونه ذاك، لكان التشبيه من باب العبث؛ لأن العلة في المشبه به، مثل من يقول لأحد بنيه: إنما أكرمتك لأنك مثل ابني الآخر في معنى البنوة.
رابعها: أن العلم بأن الله خلق آدم هو من أظهر العلوم عند العامة والخاصة، فإذا لم يكن في قوله (على صورته) معنى، إلا أنها الصورة التي خلقها وهي ملكه، لكان قوله (خلق آدم كافيًا)(1).
الوجه الرابع: المعنى الصحيح لقوله: (خلق الله آدم على صورته)
.
بعد ما أثبتنا الصورة لله تبارك وتعالى، وقلنا: إن معنى هذا الحديث أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فماذا يكون المعنى الصحيح للحديث؟ .
فنقول مستعينين بالله: للعلماء فيه قولان:
القول الأول: إمرار اللفظ كما جاء، فنؤمن به من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تأويل.
القول الثاني: أن يكون له معنى لا يخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة، ويليق بجلال الله تبارك وتعالى.
فممن قال بالقول الأول:
قوام السنة إسماعيل التيمي قال: فصل في الرد على الجهمية الذين أنكروا صفات الله عز وجل، وسموا أهل السنة مشبهة، وليس قول أهل السنة أن لله وجهًا ويدين وسائر ما أخبر
(1) أحاديث العقيدة (158).
الله تعالى به عن نفسه موجبًا تشبيهه بخلقه، وليس روايتهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم:(خلق الله آدم على صورته) بموجبة نسبة التشبيه إليهم؛ بل كل ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر به رسوله فهو حق، قول إله حق وقول رسوله حق، والله أعلم بما يقول، ورسوله أعلم بما قال، وإنما علينا الإيمان والتسليم، وحسبنا الله ونعم الوكيل (1).
فالواجب إذا جاءت الآية من كتاب الله تعالى أو صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان والتصديق بهما، واعتقاد ما جاء فيهما، والتسليم والانقياد لهما، ولا يجوز السؤال عن كيفية ما جاء فيهما من الصفات، فإن الله تعالى أخبرنا أنه متصف بالصفات، ولم يخبرنا عن كيفية هذه الصفات، فنكل علمها إلى الله تعالى، مع اعتقادنا أنها لا تماثل صفات المخلوقين، فالله تعالى قال عن نفسه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11](2).
قال ابن بطة: كل ما جاء من هذه الأحاديث، وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرض على المسلمين قبولها، والتصديق بها، والتسليم لها، وترك الاعتراض عليها، وواجب على من قبلها، وصدَّق بها أن لا يضرب لها المقاييس، ولا يتحمل لها المعاني والتفاسير، لكن تُمر على ما جاءت، ولا يقال فيها: لم؟ ولا كيف؟ إيمانًا بها وتصديقًا، ونقف من لفظها وروايتها حيث وقف أئمتنا وشيوخنا، وننتهي منها حيث انتُهي بنا، كما قال المصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم بلا معارضة، ولا تكذيب، ولا تنقير، ولا تفتيش، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل، فإن الذين نقلوها إلينا هم الذين نقلوا إلينا القرآن وأصل الشريعة، فالطعن عليهم، والرد لما نقلوه من هذه الأحاديث طعن في الدين، ورد لشريعة المسلمين ومن فعل ذلك فالله حسيبه، والمنتقم منه بما هو أهله (3).
(1) الحجة في بيان المحجة (1/ 310).
(2)
أحاديث العقيدة (148).
(3)
الإبانة صـ 244، الشريعة للآجري (3/ 1153).
وقال الكرجي: بعد ما ساق عددًا من أحاديث الصفات والتي منها (خلق الله آدم على صورته)
…
إلَى غَيْرِهَا مِن الْأَحَادِيثِ، هَالتْنَا أَوْ لَمْ تَهُلْنَا، بَلَغَتْنَا أَوْ لم تَبْلُغْنَا، اعْتِقَادُنَا فِيهَا وَفِي الْآيِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ: ألَا نَقْبَلُهَا وَلَا نُحَرِّفُهَا، وَلَا نُكَيِّفُهَا، وَلَا نُعَطِّلُهَا، وَلَا نَتَأَوَّلُها، وَعَلَى الْعُقُولِ لَا نَحْمِلُهَا، وَبِصِفَاتِ الْخَلْقِ لَا نُشَبِّهُهَا، وَلَا نُعْمِلُ رَأيَنا وَفِكْرَنَا فِيهَا، وَلَا نَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا نَنْقُصُ مِنْهَا؛ بَلْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إلَى عَالمِهَا كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَهُمْ الْقُدْوَةُ لَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ (1).
وقال الذهبي: أما معنى حديث الصورة فنرد علمه إلى الله ورسوله، ونسكت كما سكت السلف مع الجزم بأن الله ليس كمثله شيء (2).
قال محمد بن الحسين: هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها، ولا يقال فيها: كيف؟ ولم؟ بل تستقبل بالتسليم والتصديق، وترك النظر، كما قال من تقدم من أئمة المسلمين (3).
وقال النووي: هذا من أحاديث الصفات ومذهب السلف أنَّهُ لَا يُتكَلَّم فِي مَعْنَاهَا؛ بَلْ يَقُولُونَ: يَجِب عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِن بِهَا وَنَعْتَقِد لَهَا مَعْنًى يَلِيق بِجَلَالِ الله تَعَالى مَعَ اِعْتِقَادنَا الجْازِم أنَّه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء، وَهَذَا الْقَوْل اختاره جَمَاعَة مِنْ محققي المتكَلِّمِينَ، وَهُوَ أَسْلَم، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُتَأَوَّل عَلَى مَا يَلِيق بِهَا عَلَى حَسَب مَوَاقِعهَا (4).
وأما من قالوا بأن له معنى يليق بالله، ولا نشبه فيه الله بالمخلوقين، فهو أن نقول: إن آدم عليه السلام خُلق ذا وجه متصفًا بصفة السمع والبصر والكلام، كما أن الله تعالى كذلك، فهو مخلوق على صورة الله من هذه الحيثية، ولا يلزم من ذلك المماثلة.
(1) مجموع الفتاوى (4/ 185).
(2)
ميزان الاعتدال (4/ 96).
(3)
الشريعة للآجري (3/ 1153).
(4)
شرح النووي (2/ 29).
قال ابن القيم: وقوله: (خلق آدم على صورة الرحمن)، لم يُرد به تشبيه الرب وتمثيله بالمخلوق، إنما أراد به تحقيق الوجه، وإثبات السمع والبصر والكلام صفةً ومحلًا، والله أعلم (1).
قال الشوكاني: قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيًّا عالمًا قادرًا مريدًا متكلمًا سميعًا بصيرًا مدبرًا حكيمًا، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله خلق آدم على صورته "يعني: على صفاته التي تقدم ذكرها. قلت: وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110]. (2)
وقال ابن باز: والمعنى والله أعلم أنه خلق آدم على صورته ذا وجه وسمع وبصر يسمع ويتكلم ويبصر ويفعل ما يشاء، ولا يلزم أن يكون الوجه كالوجه والسمع كالسمع والبصر كالبصر .. وهكذا لا يلزم أن تكون الصورة كالصورة (3).
قال ابن تيمية: من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم بين جنس ذواتهما وقدر ذواتهما، وقد تظهر صورة السماوات والقمر في الماء أو في مرآة في غاية الصغر، ويقال هذه صورتها، مع العلم بأن حقيقة السماوات والأرض أعظم من ذلك بما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر (4).
وقال ابن عثيمين: الذي قال: "إن الله خلق آدم على صورته" رسول الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل، والذى قال:"خلق آدم على صورته": هو الذى قال: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر"،
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (2/ 515).
(2)
فتح القدير (5/ 669: 670).
(3)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة د. محمد الشويعر (6/ 353: 354).
(4)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 537، 538).
فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه؟
فإن قلت بالأول، فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين، وليس لهم آناف، وليس لهم أفواه، وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار. وإن قلت بالثاني، زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلًا له من كل وجه (1).
وخلاصة الكلام أن الصورة هنا بمعنى الصفة؛ لأن الصورة في اللغة تطلق على الصفة كما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر" يعني على صفة القمر من الوضاءة والنور والضياء، فقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله خلق آدم على صورته)؛ يعني خلق آدم على صورة الرحمن؛ يعني على صفة الرحمن، ووجود الصفة في المخلوق لا يماثل وجودها في الخالق، فالله له سمع وجعل لآدم صفة السمع، والله موصوف بصفة الوجه وجعل لآدم وجها، وموصوف بصفة اليدين وجعل لآدم صفة اليدين، وهكذا.
فإذن هذا الحديث ليس فيه غرابة كما قال ابن قتيبة قال: (وإنما لم يألفه الناس فاستنكروه)(2).
وهذا اشتراك في الصفة، والاشتراك في الصفة لا يعني الاشتراك في الكيفية؛ لأن هذا باطل، فالله سبحانه وتعالى جعل لآدم مثل الصفات التي ذكرنا، وكما جاء في الحديث هذا (خلق الله آدم على صورته)؛ و (على) ليست للتمثيل وليست للتشبيه، وإنما هي في اللغة للاشتراك، وهذا الاشتراك حاصل بدلالة النصوص، والصورة في اللغة هي الصفة، وكذلك من الصفات التي جاءت في الأحاديث أن لله عز وجل صورة ليست كصورة المخلوق، وهذا بمعنى الصورة الخاصة، وهو سبحانه له صورة يعني له صفات، وجعل المخلوق له من الصفات على صفات الرحمن سبحانه، وهذا هو التحقيق في معنى الحديث، خلافًا لمن
(1) شرح العقيدة الواسطية (70، 71).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية للشيخ صالح آل الشيخ (1/ 198)، وهذه إجابة على سؤال سُئل للشيخ صالح، وانظر شرح الفتوى الحموية للشيخ حمد التويجري (1/ 154).