الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقيم به عليه حجة الله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي: وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} أي: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده" (1).
والدليل عليه من السنة ما رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منهم صرف ولا عدل"(2). ورُوي أيضًا عن أم هانئ رضي الله عنه أنها قالت: يا رسول الله، قد أجرت أحمائي وأغلقت عليهم، وإن ابن أمي أراد قتلهم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، إنما يجير على المسلمين أدناهم"(3).، وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أبا العاص بن الربيع، فأمضاه صلى الله عليه وسلم لها (4).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يد المسلمين على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم"(5).
الفرق بين الأمان والذمة والهدنة
.
لابن القيم- رحمه الله تعالى-كلام نفيس في الفرق بين هذه المصطلحات الثلاثة وما يترتب عليها من أحكام، حيث يقول: "الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد؛ وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان، وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابًا فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة، ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ الصلح، فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد، وقولهم: هذا في ذمة فلان أصله
(1) تفسير القرآن العظيم 2/ 337.
(2)
رواه البخاري (3008)، ومسلم (1371).
(3)
رواه البخاري (350)، مسلم (336).
(4)
رواه عبد الرزاق في المصنف 5/ 224 - 225، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 95.
(5)
رواه أحمد في المسند 2/ 180، وابن خزيمة في صحيحه 4/ 26.
من هذا، أي: في عهده وعقده، أي: فألزمه بالعقد والميثاق، ثم صار يستعمل في كل ما يمكن أخذ الحق من جهته، سواء وجب بعقده أو بغير عقده، وهكذا لفظ الصلح عام في كل صلح، وهو يتناول صلح المسلمين، بعضهم مع بعض وصلحهم مع الكفار، ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله؛ إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة، وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل وتجار ومستجيرون، حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاؤوا دخلوا فيه، وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها، وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به، ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربيًّا كما كان" (1).
ففي تقريره- رحمه الله عدة فوائد منها:
ذكر حقوق أهل الذمة، وأهل الهدنة، والمستأمنين. فجميعهم في طور العهد.
ومنها: وجوب الوفاء لهم ما أوفوا.
ومنها: جواز دخول التجار والرسل والعمال وأهل الحرف والصناعات ونحوهم.
ومنها: أن أحكام الشرع تطبق على المعاهدين إذا كانوا يقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله.
(1) أحكام أهل الذمة 2/ 873.
ومنها: أنه لا تطبق أحكام الإسلام على أهل الهدنة إذا كانوا يقيمون في ديارهم.
ومنها: جواز إعطاء أهل العهد الرخصة لزيارة أو حاجة تفيد المسلمين. فالمسلمون قد يحتاجون إلى غيرهم في الصناعة والتجارة ونحو ذلك، كالعلوم اللازمة لتقوية الشوكة والدفاع. أو في شؤون الزراعة أو الاقتصاد، فليس هناك حرج في دخول غير المسلمين في دار الإسلام من أجل هذه القاصد بعقد وعهد.
قال شيخ الإسلام: "ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية، إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه، والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين، فهذا على وجهين: أحدهما: أن يحتاجوا إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصنّاع، والثاني: أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع فيحتاجون إلى من يشتري الحنطة ويطحنها وإلى من يخبزها ويبيعها خبرا لحاجة الناس. . ."(1).
وقال ابن عثيمين: "أنا أوافق على أنه ليس عندنا أهل ذمة، لأن أهل الذمة هم الذين يخضعون لأحكام الإسلام، ويؤدون الجزية وهذا مفقود من زمان طويل، ولكن لدينا معاهدون ومستأمنون ومعاهدون معاهدة عامة ومعاهدة خاصة فمن قدم إلى بلادنا من الكفار لعمل أو تجارة وسمح له بذلك فهو إما معاهد أو مستأمن لا يجوز الاعتداء عليه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة" (2) فنحن مسلمون مستسلمون لأمر الله عز وجل محترمون لما اقتضى الإسلام احترامه من أهل العهد والأمان، فمن أخل بذلك فقد أساء للإسلام وأظهره للناس بمظهر الإرهاب والغدر والخيانة، ومن التزم أحكام الإسلام واحترم العهود والمواثيق فهذا هو الذي يرجى خيره وفلاحه".
(1) مجموع الفتاوى 28/ 89.
(2)
رواه البخاري (3166).