الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في لون آخر من التسامح مع المشركين فقد أخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن دينار قال: "سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: رأى عمر حلة سيراء (1) تباع، فقال: يا رسول الله، ابتع هذه والبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفود، قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له، فأُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل فأرسل إلى عمر بحلة فقال: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: إني لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبعها أو تكسوها، فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم (2).
وهذا أنموذج آخر في زمن معاوية رضي الله عنه فإن الكفار لمَّا نقضوا عهدهم امتنع المسلمون من قتالهم وقالوا: وفاء بغدر خيرٌ من غدر بغدر (3).
إنه ذروة التسامح الذي نهجه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به. (4)
المبحث الرابع: صور من سماحة الصحابة والتابعين في معاملة غير المسلمين
.
إن تاريخ الإسلام شاهد على أن المسلمين لم يكرهوا أحدًا في أي فترة من فترات التاريخ على ترك دينه، فالإسلام دين العقل والفطرة ولا يقبل من أحد أن يدخله مكرهًا، تحدى الأولين والآخرين بمعجزته الخالدة، ولم يعرف في تاريخ المسلمين الطويل أنهم ضيقوا على اليهود والنصارى أو غيرهم أو أنهم أجبروا أحدًا من أي طائفة من الطوائف اليهودية أو النصرانية على اعتناق الإسلام (5). يقول توماس آرنولد: "لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه
(1) السيراء بكسر السين وفتح الياء والمد نوع من البرود يخالطه حرير كالسيُّور وقيل: الحلة من الحرير وقيل فيها خطوط من إبريسم كالسيور. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 433 - 434.
(2)
انظر تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام للإمام بدر الدين بن جماعة ص 234.
(3)
صحيح مسلم (5981).
(4)
انظر: سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين للدكتور حكمت بن بشير في المؤتمر العالمي، موقف الإسلام من الإرهاب.
(5)
انظر عقد الذمة في التشريع الإسلامي، محمد المطردي ص 17.
استئصال الدين المسيحي" (1).
لقد كان عهد الخلفاء الراشدين امتدادًا لعهد النبي صلى الله عليه وسلم وشهد صورًا من سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين من إعانتهم بالمال أو النفس عند الحاجة، ومن كفالة العاجز منهم عن العمل أو كبير السن، وغير ذلك. وهذا هو ما سار عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في صدر الإسلام في معاملتهم لأهل الذمة، وأسوق هنا بعض الشواهد والأمثلة التي تبين سماحة الصحابة رضي الله عنهم في معاملة غير المسلمين.
1 -
في خلافة أبي بكر رضي الله عنه كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق - وكانوا من النصارى -: "وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من آلافات أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله"(2).
إن الذين يسعون إلى تقرير التكافل الاجتماعي وبيان صوره لن يجدوا أعظم من هذه الصورة في الإسلام مع نحالفيه، فهو يتسامى بمن يعيشون في كنفه ويحوطهم برحمته وإحسانه عندما يحتاجون إلى مواساة، لأي سبب من الأسباب بل يجعلهم عيالا على بيت مال المسلمين ويرضخ له منه أيا كانت ديانتهم.
إن التكافل الاجتماعي في الإسلام لا يرضى أن يذل رجل من أهل الذمة وهو يحيا في كنف الإسلام، فيعيش على الصدقة يتكفف الناس ولكن الإسلام يحميه ويكرمه ويوجب على الدولة أن تعوله وتعول عياله (3).
2 -
وكان أبو بكر رضي الله عنه يوصي الجيوش الإسلامية بقوله: "وستمرون على قوم في الصوامع رهبانًا يزعمون أنهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم"(4).
(1) الدعوة إلى الإسلام لتوماس آرنولد ص 99.
(2)
كتاب الخراج لأبي يوسف ص 306.
(3)
انظر الموسوعة في سماحة الإسلام 1/ 446.
(4)
فتوح الشام للواقدي 1/ 8.
3 -
وأوصى عمر رضي الله عنه الخليفة من بعده بأهل الذمة أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم (1).
4 -
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: في ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه (2).
5 -
إن السماحة في المعاملة يجب أن تكون فِي ضوء ضوابط الشرع ومقاصده ومثل ذلك يتطلب أن يكون المسلم على بصيرة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة من الصحابة والتابعين في هذا الشأن، فمن صور السماحة في المعاملة ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه لما قدم الجابية من أرض الشام استعار ثوبًا من نصراني فلبسه حتى خاطوا قميصه وغسلوه، وتوضأ من جرة نصرانية. وصنع له أهل الكتاب طعامًا فدعوه فقال أين هو؟ قالوا: في الكنيسة فكره دخولها وقال لعلي رضي الله عنه: اذهب بالناس فذهب علي رضي الله عنه بالمسلمين فدخلوا فأكلوا وجعل علي رضي الله عنه ينظر إلى الصور وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل (3).
6 -
ومن السماحة أن يراعى في معاملتهم كل مصلحة وقصد صحيح، فعن عبد الله بن قيس قال: كنت فيمن تلقى عمر بن الخطاب مع أبي عبيدة مقدمه من الشام فبينما عمر يسير إذ لقيه (المقلسون) وهم قوم يلعبون بلعبة لهم بين أيدي الأمراء إذا قدموا عليهم
(1) رواه البخاري (1392).
(2)
الخراج لأبي يوسف ص 126.
(3)
انظر إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم 1/ 153، 157.
بالسيوف والريحان فقال عمر رضي الله عنه: مه ردوهم وامنعوهم، فقال أبو عبيدة يا أمير المؤمنين هذه سنة المعجم أو كلمة نحوها وإنك إن تمنعهم منها سروا أن في نفسك نقضًا لعهدهم فقال: دعوهم، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة (1).
7 -
وصلى سلمان وأبو الدرداء رضي الله عنهما في بيت نصرانية فقال لها أبو الدرداء رضي الله عنه: هل في بيتك مكان طاهر فنصلي فيه؟ فقالت: طهرا قلوبكما ثم صليا أين أحببتما فقال له سلمان رضي الله عنه: خذها من غير فقيه (2).
8 -
وجاء في صفة الصفوة أن عمر بعث عميرًا عاملًا على حمص فمكث حولًا لا يأتيه خبره ولم يبعث له شيئًا لبيت مال المسلمين، فقال عمر لكاتبه: اكتب إلى عمير فوالله ما أراه إلا قد خاننا إذا جاءك كتابي هذا فأقبل وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا. فأخذ عمير - لما وصله كتاب عمر - جرابه فوضع فيه زاده وقصعته وعلق إداوته وأخذ عنزته ثم أقبل يمشي من حمص حتى قدم المدينة، فقدم وقد شحب لونه، واغبر وجهه فدخل على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله! قال عمر: ما شأنك؟ قال: ما تراني صحيح البدن ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرونها؟ قال عمر: وما معك؟ وظن عمر أنه جاءه بمال. قال: معي جرابي أجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها، وأغسل فيها رأسي وثيابي، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، ومعي عنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوًّا إن عرض لي، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي. وساله عمر عن سيرته في قومه وعن الفيء فأخبره، فحمد فعله فيهم ثم قال: جددوا لعمير عهدًا.
قال عمير: إن ذلك شيء لا أعمله لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت، بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلفت معك. (3)
(1) كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 180.
(2)
انظر إغاثة اللهفان لابن القيم 1/ 153.
(3)
صفة الصفوة لابن الجوزي 1/ 354.
لقد عظم على عمير قوله لرجل من غير المسلمين: أخزاك الله، وهو دعاء، وما ذكر خطأ اقترفه في ولايته على حمص أعظم من هذا، وفي ذلك دليل على أن هذا الدين ما جاء إلا بالرحمة والهداية وإنقاذ البشر من الضلال إلى الهدى ومن ظلمات الكفر إلى نور الطاعة، ولا عجب فمن مدرسة النبوة تخرج هذا الصحابي وغيره، ممن لا يؤذون الناس، بل يغمرونهم بعطفهم ورحمتهم وسماحتهم وإحسانهم، ولذا قال عنه عمر: إنه نسيج وحده، وقال: وددت أن لي رجلًا مثل عمير بن سعد استعين به على أعمال المسلمين (1).
إن الدعاء لغير المسلمين وفق ضوابط الشرع من أعظم صور التسامح في الإسلام ومن محاسنه الكبرى التي تنظر إلى الإنسان نظرة تكريم وعناية، وفي الدعاء استمالة ظاهرة لقلب المدعو فكل أحد يتمنى من الناس الدعاء له بالخير، ومن هنا قال ابن عباس رضى الله عنه لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك، وفرعون قد مات (2).
9 -
وعن مجاهد قال: كنت عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وغلامه يسلخ شاة "يا غلام إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي" فقال رجل من القوم: اليهودي أصلحك الله؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار حتى خشينا أو روينا أنه سيورثه (3).
10 -
وفي خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عدي بن أرطأة: وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه (4).
(1) المرجع السابق 1/ 356.
(2)
رواه البخاري في الأدب المفرد باب: كيف يدعو للذمي؟ وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد للألباني (847).
(3)
رواه البخاري في الأدب المفرد، باب: جار اليهودي، وصححه الألباني، انظر: صحيح الأدب المفرد الألباني (95).
(4)
كتاب الأموال لأبي عبيد ص 57.