الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة: 49).
مراعاة شعور المسلمين:
والواجب الثالث عليهم: أن يحترموا شعور المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيهم، وأن يراعوا هيبة الدولة الإسلامية التي تظلهم بحمايتها ورعايتها.
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام ورسوله وكتابه جهرة، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافي عقيدة الدولة ودينها، ما لم يكن ذلك جزءًا من عقيدتهم كالتثليث والصلب عند النصارى.
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير، ونحو ذلك مما يحرم في دين الإسلام، كما لا يجوز لهم أن يبيعوها لأفراد المسلمين، لما في ذلك من إفساد المجتمع الإسلامي.
وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب في نهار رمضان، مراعاة لعواطف المسلمين.
وكل ما يراه الإسلام منكرًا في حق أبنائه، وهو مباح في دينهم، فعليهم -إن فعلوه- ألا يعلنوا به، ولا يظهروا في صورة المتحدي لجمهور المسلمين حتى تعيش عناصر المجتمع كلها في سلام ووئام.
إن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب.
فالدرجة الدنيا من التسامح أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك، أو مذهبك، بحيث إذا أبى حكمت عليه بالموت، أو العذاب، أو المصادرة، أو النفي، أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهاد. فتدع له حرية الاعتقاد، ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضها عليه عقيدته، والامتناع مما يعتقد تحريمه عليه.
والدرجة الوسطى من التسامح أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب ثم لا تضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته، فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم؛ لأنه لا يفعله إلا وهو
يشعر بمخالفة دينه (1).
وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنسية يوم الأحد فلا يجوز أن يمنع من ذلك في هذا اليوم.
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح: ألا تضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك. وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح.
فقد التزموا كل ما يعتقده غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك مراعاة لشريعة الدولة، ودينها، ولا يُتهموا بكثير من التعصب أو قليل ذلك؛ لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضًا على أتباعه أن يفعلوه؛ فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج من أمه أو أخته فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج وإذا كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير؛ فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير وفي لحوم البقر، والغنم، والطير متسع له.
ومثل ذلك الخمر، فإذا كان الإنجيل قد جاء بإباحتها فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر.
فلو أن الإسلام قال للذميين دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكل الخنازير مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني؛ لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا، ولا أخلوا بواجب مقدس.
ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون.
(1) في غاية المنتهى وشرحه من كتب الحنابلة: ويحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه فيستثني شرعًا من عمل في إجازة، لحديث النسائي والترمذي وصححه: وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت اهـ 2/ 604.
على أن هناك شيئًا آخر لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات.
ذلك هو روح التسامح التي تبدو في حسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يُغني فيها قانون ولا قضاء. وهذه الروح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي.
تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15).
وفي ترغيب القرآن في البر والإقساط إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} (الممتحنة: 8).
وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8)، ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين.
وفي قول القرآن يجيب عن شبهة المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم، وجيرانهم من المشركين المصرين:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: 272).
هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه.
وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: "نعم صلي أمك"(1).
(1) تفسير ابن كثير 4/ 349.
وفي قول القرآن يبين أدب المجادلة مع المخالفين: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت: 46].
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب يهودًا كانوا أو نصارى، فقد كان يزورهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم.
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين، فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين ثم يقول: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} ، وهذا من مساكين أهل الكتاب (1).
ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجذومين من النصارى فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين.
وأصيب عمر بضربة رجل من أهل الذمة -أبي لؤلؤة المجوسي- فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده، وهو على فراش الموت فيقول: أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يوفي بعهدِهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم (2).
وابن عمر يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية، ويكرر الوصية مرة بعد مرة حتى دهش الغلام، وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي، قال ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"(3).
وماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية فشيعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبًا من صدقة الفطر لرهبان النصارى، ولا يرون في ذلك حرجًا؛ بل
(1) الخراج لأبي يوسف صـ 26.
(2)
البخاري (3497).
(3)
البخاري (5669)، مسلم (2624).
ذهب بعضهم كعكرمة، وابن سيرين، والزهري إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد: أنه سُئِل عن الصدقة فيمن توضع؟ فقال: في أهل ملتكم من المسلمين، وأهل ذمتهم (1).
وذكر القاضي عياض في "ترتيب المدارك" قال: حدث الدارقطني: أن القاضي إسماعيل بن إسحاق، دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي، فقام له القاضي ورحب به فرأى إنكار الشهود لذلك، فلما خرج الوزير قال القاضي إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ، وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر (2).
وتتجلى هذه السماحة بعد ذلك في مواقف كثير من الأئمة والفقهاء، في الدفاع عن أهل الذمة، واعتبار أعراضهم، وحرماتهم كحرمات المسنمين.
ونكتفي هنا بكلمات نيرة للفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي شارحًا بها معنى البر الذي أمر الله به المسلمين في شأنهم، فذكر من ذلك الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم -على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال أذيتهم في الجوار- مع القدرة على إزالته لطفًا منا بهم، لا خوفًا ولا تطيعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم ...... إلخ (3).
(1) ذكر ذلك ابن حزم في المحلي 5/ 117.
(2)
المرجع السابق صـ 174.
(3)
الفروق 3/ 15.
وأساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين يرجع إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم وأهمها:
1 -
اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان، أيًّا كان دينه أو جنسه أو لونه قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، وهذه الكرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية.
ومن الأمثلة العملية ما ذكرناه من قبل، وهو ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله: أن جنازة مرت على النبي صلى الله عليه وسلم فقام لها واقفًا، فقيل له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال:"أليست نفسًا؟ ! "(1).
بلى، ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكان، فما أروع الموقف! وما أروع التفسير والتعليل!
2 -
ليس المسلم مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى الله في يوم الحساب، وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين قال تعالى:{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج: 68 - 69). وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالنَا وَلَكُمْ أَعْمَالكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15].
وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر، وبين مطالبته ببره والإقساط إليه، وإقراره على ما يراه من دين واعتقاد.
3 -
إيمان المسلم بأن الله يأمر بالعدل، ويحب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين، ولو كان الظلم من مسلم على كافر. قال تعالى:
(1) رواه البخاري (1312).