الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ننقل النص نفسه كما في النسخة العربية المشتركة: "سأقيم لهم نبيًا من بين إخوتهم مثلك وألقي كلامي في فمه، فينقل إليهم جميع ما أكلمه به".
وكما في نسخة كتاب الحياة: "لهذا أقيم لهم نبيًا من بين إخوتهم مثلك، وأضع كلامي في فمه، فيخاطبهم بكل ما آمره به".
أعتقد أنه واضح الآن كما في النسخ هذه: سأقيم، ولهذا أقيم، لا يمكن أن تكون استفهامًا أبدًا.
بطلان هذا الرأي:
وهذا الرأي باطل ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلك؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة إستفهام إنكاري محذوفة هي في قوة المذكور لكان الكلام نفيًا فعلًا .. ولو كان الكلام نفيًا لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
19 وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِي الَّذِي يَتكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ"؟ ! فهذا المقطع إثبات قطعًا فهو مرتب على إقامة النبي الذي وعد به المقطع الذي قبله. فدل هذا العطف على أن المقطع السابق وعد خبري ثابت لا نفي. ويترتب على ذلك بطلان القول المذاهب إلى تقدير الاستفهام. .؟ !
الثاني: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا: لا مانع أن يكون النص خبرًا ووعدًا مثبتًا، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم عليه السلام ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، بل المراد به نبي من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى، أو صموئيل .. ؟ !
موقف النصارى:
أما النصارى فيحملون البشارة في النص على عيسى عليه السلام وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، واليهود ينفون أن تكون لعيسى عليه السلام.
وللنصارى مغالطات عجيبة في ذلك؛ إذ يقولون إن النبي الموعود به ليس من بني إسماعيل بل من بني إسرائيل. ومحمد إسماعيليّ فكيف يرسل الله إلى بني إسرائيل رجلًا ليس منهم.؟ ! كما قالوا: إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله؟
الحق الذي لا جدال فيه: والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذي لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وإليكم البيان: إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبي الموعود به فيه بشرطين:
أحدهما: أنه من وسط إخوة بني إسرائيل.
وثانيهما: أنه مثل موسى عليه السلام صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله، وهذان الشرطان لا وجود لهما لا في يوشع بن نون، ولا في صموئيل كما يدعي اليهود في أحد قوليهم.
ولا في عيسى عليه السلام كما يدعي النصارى.
أما انتفاء الشرط الأول:
فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بني إسرائيل وليسو من وسط إخوة بني إسرائيل. ولو كان المراد واحدًا منهم لقال في الوعد: أقيم لهم نبيًا منهم. .؟ ! هذا هو منهج الوحي في مثل هذه الأمور كما قال في شأن النبي صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129].
وأما انتفاء الشرط الثاني:
فلأن لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل "موسى" عليه السلام، لعدة أوجه:
أولًا: لأنهما من بني إسرائيل، ولا يجوز أن يقوم أحد من بني إسرائيل مثل موسى كما يدل عليه هذا النص "10 وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ" (سفر التثنية 34: 10) فإن قام أحد مثل موسى بعده من بني إسرائيل، يلزم تكذيب هذا القول.
ثانيًا: فلأنه لا مماثلة بين يوشع وبين موسى عليهما السلام؛ لأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهي، ويوشع ليس كذلك؛ بل هو متبع لشريعته.
وكذا لا توجد المماثلة التامة بين موسى وعيسى عليهما السلام؛ لأن عيسى عليه السلام كان إلهًا وربًا على زعم النصارى وموسى عليه السلام كان عبدًا له.
وأن عيسى عليه السلام على زعمهم، صار ملعونًا لشفاعة الخلق كما صرح به بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية، وموسى عليه السلام ما صار ملعونًا لشفاعتهم.
وأن عيسى عليه السلام دخل الجحيم بعد موته كما هو مصرح به في عقائد أهل التثليث، وموسى عليه السلام ما دخل الجحيم.
وأن عيسى عليه السلام صلب على زعم النصارى ليكون كفارةً لأمته، وموسى عليه السلام ما صار كفارةً لأمته بالصلب.
وأن شريعة موسى مشتملةٌ على الحدود والتعزيزات وأحكام الغسل والطهارات والمحرمات من المأكولات والمشروبات، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام، فإنها فارغة عنها على ما يشهد به هذا الإنجيل المتداول بينهم.
وأن موسى عليه السلام كان رئيسًا مطاعًا في قومه نفاذًا لأوامره ونواهيه، وعيسى عليه السلام لم يكن كذلك.
وأن موسى عليه السلام ولد من الأبوين، وعيسى عليه السلام ولد بلا أب من عذراء.
وأن موسى عليه السلام كان صاحب زوجة وأولاد بخلاف عيسى عليه السلام، فأين المثلية إذن؟
وثالثًا: أنه وقع في هذه البشارة لفظ "مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ"، ولا شك أن الأسباط الاثني عشر كانوا موجودين في ذاك الوقت مع موسى عليه السلام حاضرين عنده، فلو كان المقصود كون النبي المبشر به منهم، قال: منهم، أو: من خلفهم، لا من بين إخوتهم؛ لأن الاستعمال الحقيقي لهذا اللفظ أن لا يكون المبشر به له علاقة الصلبية والبطنية ببني إسرائيل. . .".
ورابعًا: أنه وقع في هذه البشارة لفظ سوف أقيم، ويوشع عليه السلام كان حاضرًا عند موسى عليه السلام، داخلًا في بني إسرائيل، نبيًا في هذا الوقت، فكيف يصدق عليه هذا اللفظ؟
وخامسًا: أنه وقع في هذه البشارة لفظ: أجعل كلامي في فمه، وهو إشارة إلى أن ذلك النبي ينزل عليه الكتاب، وإلى أنه يكون أميًّا حافظًا للكلام، وهذا لا يصدق على يوشع عليه السلام -
لانتفاء كلا الأمرين فيه، فقد كان يوشع قارئًا للتوراة عاملًا بها ولم ينزل عليه كتاب مستقل.
وهذه الوجوه التي ذكرت وغيرها أيضًا تصدق في حق النبي محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل صدق، لأنه غير المسيح عليه السلام، ويماثل موسى عليه السلام في أمور كثيرة:
1 -
كونه عبد الله ورسوله.
2 -
كونه ذا الوالدين.
3 -
كونه ذا نكاح وأولاد.
4 -
كون شريعته مشتملة على السياسات المدنية.
5 -
كونه مأمورًا بالجهاد.
6 -
اشتراط الطهارة وقت العبادة في شريعته.
7 -
وجوب الغسل للجنب والحائض والنفساء في شريعته.
8 -
اشتراط طهارة الثوب من البول والبراز.
9 -
حرمة غير المذبوح وقرابين الأوثان.
10 -
كون شريعته مشتملة على العبادات البدنية والرياضات الجسمانية.
11 -
أمره بحد الزنا.
ووجوه أخرى كثيرة. (1)
الشرطان متحققان في رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم:
وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
فهو من نسل إسماعيل، وإسماعيل أخو إسحق، الذي هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل. فهو من وسط إخوة بني إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق
(1) انظرها بالتفصيل في كتاب إظهار الحق (4/ 1124).