الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما سبق، سيَّر الرسول صلى الله عليه وسلم جيشًا من ثلاثة آلاف مجاهد بقيادة مولاه زيد بن حارثة لتأديب من قتل ممثل الإسلام والنبوة. فلقى زيد جموع الغساسنة ومعهم الروم عند مؤتة، ولا تهمنا حوادث المعركة؛ بل يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رفع سيفًا بوجه الغساسنة وأسيادهم الروم إلا بعد قتل رسوله إليهم، واستعداد الحارث للسير إلى المدينة المنورة لحرب الإسلام في عاصمة الإسلام، فكانت سرية مؤتة عملًا دفاعيًا.
تبوك: بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم تجمعوا على حدود فلسطين لقتال المسلمين ومعهم بعض القبائل العربية المتنصِّرة، فدعا المسلمين للخروج إليهم قبل أن يغزوهم في عقر دارهم. وبالفعل فقد وصل صلى الله عليه وسلم تبوك وأقام فيها أيامًا، فصالحه أهلها بعد انسحاب الجيش الرومي باتجاه الشمال، وصالح أمير دومة الجندل وأيلة وعاد دون سفك دماء.
وهكذا فإن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان لأسباب مشروعة جلية.
وصفوة القول لقد خاض النبي صلى الله عليه وسلم حروبًا عادلة بعد أن وضع السلم أساسًا لسياسته والحرب للدفاع، وكان الحفاظ على الأرواح أمله، وكان تأديب الظالم المغرور بأقل دماء هدفه، وكان التسامح منطبعًا في ذاته وهو غايته.
فالنبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة والأسوة لمن بعده في الجهاد.
الوجه الثالث: نبذ الإسلام العنف واستخدامه الحوار
وفي مجال الدعوة إلى الله نجد أن الإسلام ينبذ العنف لأن الدعوة الإسلامية تستهدف البدء بتغيير النفس، وإعادة صياغة الإنسان قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد: 11).
وتغيير ما بأنفسهم وما بداخلهم لا يتأتى بالإكراه أو العنف؛ لأن العنف يؤدي إلى النفاق، فإذا استعملت العنف في الدعوة أكرهت الآخرين، فأنت تكسب بذلك منافقًا لا
مؤمنًا، لأنك تكسب الظاهر، أما الداخل أو الباطن فلا يظهر، ومن هنا كانت وما زالت الحكمة والموعظة الحسنة، والحوار والجدال بالتي هي أحسن سبيل الدعوة.
فالذين يلجئون إلى العنف في الدعوة اليوم، أو في فرض آرائهم هؤلاء مخالفون تمام المخالفة لمناهج الإسلام في الدعوة، هذا المنهاج الذي هو منهاج القرآن.
إذن النقطة الأساسية في بداية الدعوة الإسلامية هي تغيير ما في النفس، وهذا لا يتأتى بالإكراه أو العنف، فالعنف عادة يكون رد فعل لعنف آخر أو رد فعل لقيود عنيفة تمارس على حريات الإنسان، فيرفضها رفضًا عنيفًا.
إن استخدام القوة لا يجوز إلا دفاعًا عن النفس وحماية للأرض والعرض والحفاظ على حرمات الله ومقدساتنا، قال تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (الفتح: 29)، وقال عز وجل:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النحل: 126)، وقال سبحانه:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة: 194).
فلا بد أن نكون رحماء فيما بيننا؛ لنحقق المنهج الإسلامي في الوسطية والبعد عن الإفراط والتفريط.
فالحوار والمجادلة بالتي هي أحسن هي من أبرز وسائل الدعوة إلى الله، وهي علامة على وسطية الأمة واعتدالها في التعامل مع وجهات النظر؛ بل مع المخالف، قال تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24)، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور الناس ويبحث عمن يقبل دعوته، واستخدم رسولنا صلى الله عليه وسلم الوسائل المتعددة لتبليغ الرسالة ومنها الحوار.
وقد سمى الله عز وجل صلح الحديبية الذي عارضه أغلب الصحابة وعدوه ضيمًا سماه عز وجل فتحًا، قال تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} (الفتح: 1)؛ وذلك لما ترتب عليه من ثمرات
وفتوح كان من أعظمها الحوار بين المسلمين والمشركين، وعرض المسلمين لدينهم الأمر الذي كان ممنوعًا وغير مقبول قبل هذا الصلح فدخل الناس بعده في دين الله أفواجًا.
فالواجب على المسلمين الاعتدال في الدعوة إلى الله فلا غلظة ولا شدة؛ بل قول لين وموعظة حسنة ورفق بالمدعوين، وإرشاد بالحسنى للضالين عن الصراط المستقيم، وستر على المسلمين، ومجادلة وحوار مع الجميع بالتي هي أحسن.
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} (يوسف: 108)، وقال عز وجل:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} (النحل: 125)، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.
وقال الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ"(1)
إن وسطية هذا الدين وسماحته لو ظهرت للناس على حقيقتها، لوجد التائهون فيه ضالتهم المنشودة وسعادتهم وغبطتهم، ولتحقق لهم النصر العظيم والفوز المبين، ولو أعطى المسلمون بسلوكهم المنهج الوسط لكان للإسلام شأن أعظم وأرض أرحب.
ولهذا فإن الواجب تعميق مفهوم الوسطية بالتوعية والإرشاد والقدوة، ومقارعة الحجة بالحكمة والموعظة الحسنة، ينهض بذلك العلماء وأهل الهدى، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة من الآية: 11)، وقال عز وجل:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9).
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في
(1) مسلم (4698).