الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد حرص المسلمون على هذه التحية العبادية، وعدُّوها من القربات، فعن الطفيل بن أُبي بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمرّ عبد الله على سقاط، ولا صاحب بيعة، ولا مسكن، ولا أحد إلا سَلّم عليه. قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يومًا فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ فقال: إنما نغدو إلى السوق من أجل السلام، نسلّم على من لقيناه.
رد السلام: إذا كان السلام أمرًا محببًا فإن الجواب عليه واجب يصل إلى مرتبة الفريضة، ويكون رد التحية بأحسن منها عملًا بقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)} (النساء: 86)، فإذا قال لك أحدهم: السلام عليكم. فقل: وعليكم السلام ورحمة الله. فإن قال لك أحدهم: السلام عليكم ورحمه الله. فقل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبهذا يكون رد التحية بأفضل منه، أما ردها فيكون بالتماثل دون زيادة ولا يجوز اتهام الشخص الذي يلقي السلام بعدم الإيمان، فقد قال تعالى في هذا الصدد:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} (النساء: 94).
نصل بهذا إلى القول بأن السلام مفردة رئيسة من مفردات الإسلام، وقاعدة أصيلة من قواعده، سلوكًا وتربية وعبادة، ولهذا وجدنا كثيرًا من المسلمين الذكور يتسمون بعبد السلام، وكثيرًا من النساء يحملن اسم سلام تيمنًا بهذا الشعار الإسلامي الخالد.
الإسلام تاريخ سلام
في مناهجنا التعليمية كثير من التجني على تاريخنا الإسلامي، وبخاصة كتب التربية الدينية والتاريخ، فقد صممت هذه المناهج في عهد الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي لتخدم أهداف الغرب التوسعية وتهمه الباطلة ضد الإسلام والمسلمين، وذلك حين جعلت من
التاريخ الإسلامي سلسلة ممتدة من الغزوات والمعارك المتتابعة التي لم تهدأ؛ لتصل إلى القول بأن الإسلام قد قام بحد السيف، شأنه شأن غيره من الديانات السابقة.
ولدفع هذه التهمة لابد من قراءة تاريخ الإسلام إبتداء من نزول الوحي وحتى وفاة صاحب الرسالة:
1 -
بداية الدعوة: كانت الدعوة الإسلامية منذ بدايتها سلمية قائمة على العقل والحكمة والإقناع، وليس أدل على ذلك من مخاطبة الوحي للرسول بقوله:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق: 1 - 5)، فلم تكن الدعوة عُنفيّة؛ بل دعوة حكيمة تستند إلى الفكر والإقناع، قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125)، فالدعوة موصوفة بالحكمة، والموعظة موصوفة بالحسنة، وهكذا كانت طوال ثلاثة عشر عامًا في مكة قبل الهجرة وعشرة بعدها.
2 -
الهجرة: عندما نزل الرسول بالمدينة وقَّع مع أهلها معاهدة سميت صحيفة المدينة، وهي أول وثيقة دستورية تحدد العلاقات بين الناس على أساس متساو، فقد ورد فيها:(بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أُمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ظلم أو أثم، أن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم، وأن يهود بني عوف أُمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم).
فقد عدَّت هذه الصحيفة الناس أمة واحدة داخل المدينة بغض النظر عن كل اعتبارات اللغة واللون والدين، وهذه الوثيقة تسبق إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأربعة عشر قرنًا، وتدل على ما للإنسان من كرامة عند هذا الدين الذي أرسله الله رحمة للإنسان وسلامًا.
3 -
صلح الحديبية: أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحج إلى الكعبة قبل فتح مكة فمنعته قريش، وكان هناك صلح بين الطرفين وردت فيه عبارات عَدَّها بعض المسلمين مذلة، وكان عمر بن الخطاب ضمن المنتقدين لهذا الصلح، فقد نصت إحدى فقراته على أنه من جاء من المسلمين إلى قريش فلا ترده قريش إلى المسلمين، بينما يرد المسلمون من يأتيهم من قريش مسلمًا، فقد أقر الرسول المعاهدة واحترمها وعمل بما فيها؛ حقنًا لدماء القرشيين والمسلمين معًا؛ ولأن صون حياة الإنسان مقدمة في الإسلام على ما سواها من الأمور.
4 -
فتح مكة: عندما نقض القرشيون صلح الحديبية قرر الرسول أن يفتحها، ولكن سلمًا بدون قتال، وهكذا كان، فعندما فوجئ القرشيون بالجيش الإسلامي ورأوا ما فعلوه بالمسلمين من قتل وحرق وتعذيب وتجويع ومصادرة أموال ظنوا أنهم هالكون، وبخاصة عندما سمعوا سعد بن عبادة حامل راية الأنصار يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشًا. في هذا الموقف الرهيب لم يشأ الرسول أن يتركهم طويلًا تحت وطأة هذه المشاعر المذلة، فاستقبل وجوههم في تسامح وأناة وقال لهم:"يا معشر قريش، ماذا ترون أني فاعل بكم؟ "فتقدم خصم الإسلام بالأمس سهيل بن عمرو وقال: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فرد النبي قائلًا:"لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء". وكان الرسول قد قال لسعد عندما سمعه يقول: اليوم يوم الملحمة: "لا يا سعد، بل هو يوم المرحمة، واليوم أعز الله قريشًا". أي بالإسلام، وقد ترتب على هذا العفو إسلام أهل مكة وخروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم لحرب هوازن في غزوة حنين.
إن الانتقام ليس من سلوك المسلمين؛ بل العفو، وهذا ما أراد الرسول القائد أن يعلم أصحابه وأمته في حياته ومن بعده حتى يقتدوا به، وهذا ما حصل في فتح القدس أيام عمر